منتظري.. رحيل «رجل الحكمة»

TT

* ركز على الفلسفة والتصوف لأنه كان يعرف أن الإسلام السياسي الذي تأسس على التشريع سيعرض الدين للدمار

* عطاء الله مهاجراني

* توفي آية الله منتظري في 20 ديسمبر (كانون الأول). ومثل معلمه آية الله الخميني، توفي منتظري عن عمر 87 عاما. كان منتظري فقيها عظيما وقانونيا وفيلسوفا في الوقت نفسه. إرثه فريد. فعلى سبيل المثال، بدأ منتظري يعلم أفراد أسرته تفسير كتاب «شرح المنظومة» عندما كان رهن الإقامة الجبرية بمنزله لأكثر من خمس سنوات. وقد نشر تلك الشروحات على موقعه الإلكتروني. في إيران، كان يعتبر الأب الروحي لكل المفكرين، والناشطين السياسيين والكتاب والصحافيين. في كل مرة كنت ألتقيه، كنت أتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا كأبيكم».

اليوم، نشهد حدثا رائعا في إيران. فبعد وفاة آية الله منتظري، كل الإيرانيين، والأحزاب الإيرانية، والفنانين، رجال دين شيعة وسنة، صوفيين وماركسيين، وحتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعثوا برسائل تعزية إلى الأمة الإيرانية، وإلى عائلة آية الله منتظري.

لقد كان منتظري فيلسوفا عبقريا، فقد اختار كتاب «شرح المنظومة» لأنه كان نصا أكاديميا. وهذا الكتاب كتبه الفيلسوف والشاعر الإيراني الملا هادي السبزواري (1797 - 1873)، وكتب أيضا «أسرار الحكمة». ويعد هذان الكتابان إضافة إلى أطروحته باللغة العربية «شرح المنظومة - أطروحة حول المنطق في الآية»، من النصوص الأساسية لدراسة عقائد الحكمة في إيران. ولا يقتصر الأمر على الفلسفة، ففي الأبيات الأولى من المنظومة نقرأ:

يا واهب العقل لك المحامد إلى جنابك تنتهي المقاصد يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره أزمة الأمور طرا بيده والكل مستمده من مدده (شرح المنظومة في المنطق والحكمة للمولي هادي السبزواري الجزء الأول ص: 166 - 174) فالحكمة هي أفضل الهبات التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان؛ وذلك هو جوهر الإنسانية، وذلك هو المعيار الذي يختار بناء عليه الفرد طريقه في الحياة. وكما نعرف جميعنا، فقد تأسس الفقه الشيعي على الحكمة. فعلى سبيل المثال، يعتبر أكثر كتب الحديث أهمية لدى الشيعة، كتاب «أصول الكافي» والذي يحمل الفصل الأول منه عنوان «كتاب العقل والجهل». بالإضافة إلى ملحمة إيران القومية الشاهنامة للفردوسي والتي تبدأ بـ«باسم الله خالق الروح والحكمة».

وهنا قد يتساءل القارئ حول السبب الذي جعلني أبدأ مقالي عن آية الله منتظري، بالتركيز على شرحه للمنظومة. الجواب أن منتظري كان يحاول طوال حياته، ويبذل قصارى جهده، لإصدار أحكامه استنادا إلى الحكمة. وهذا هو حجر الأساس لحياته وسلوكه. فقد اختار الحكمة لمقاربة الحياة وتحديد رؤيته لها. وإذا ما استعرت مصطلح كارل بوبر، فإن منطق الموقف بالنسبة لمنتظري كان الحكمة. وفي إحدى المرات توقف منتظري عند تلك الآية القرآنية:

«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (الأنفال 42) قال إنه لا يوجد سبيل لمعرفة الطريق القويم إلا عبر الحكمة. وعندما قرأت بعض أبيات المنظومة على الطيب صالح، اغرورقت عيناه الواسعة بالدموع ثم انسالت على بشرته السمراء، وقال الرجل وهو يجهش في البكاء إن رنين الكلمات الموسيقى حرك مشاعره. فقلت له: «عزيزي الطيب! إن للمعنى أهمية أكبر من الرنين الذي تخلفه تلك الكلمات! إنها إرثنا، وحكمتنا الإسلامية التي نحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى. فالآن تدعي كل من طالبان و(القاعدة) أنهما رمزا العالم الإسلامي، وهما تبرران لنفسيهما العنف والقتل وقطع رؤوس الناس المختلفين معهما آيديولوجيا».

وبمعنى آخر، ركز منتظري على الفلسفة والتصوف لأنه كان يعرف أكثر من الجميع أن الإسلام السياسي الذي تأسس على التشريع سوف يعرض الدين للدمار. وتلك قضية معقدة للغاية حيث إنها تحتاج إلى شرح؛ فقد كان منتظري من كبار المفكرين وكان فقيها قانونيا حيث إنه اقترح نظرية حوكمة الفقه القانوني ونشر عددا من الكتب الكلاسيكية. ومن جهة أخرى، كان منتظري هو الرجل الوحيد الذي عدل عن رأيه قائلا إن الحكومة يجب أن يتم تأسيسها بالتوافق بين إرادة الأمة والحكومة. وهو ما يعتبر مستهل فصل طويل من التاريخ السياسي الحالي في إيران.

وفي الحقيقة، يمر الدين بثلاث مراحل من الإيمان والفقه الإسلامي والحكومة الدينية. ولمنتظري كتاب شهير في ذلك الإطار بعنوان: «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية». وفي ذلك الكتاب المميز، يقول منتظري إن الحاكم الإسلامي يجب أن يؤدي دوره وفقا للعدل والحرية وحقوق الإنسان.

وبناء على ذلك، يمكننا أن نقول إن منتظري كان من النشطاء السياسيين المميزين. فقبل الثورة، تم نفيه إلى الكثير من المدن المختلفة، بما في ذلك مدينة سقز بكردستان، وخلخال بأذربيجان. كما قضى ستة أشهر في الحبس الانفرادي. ويقال إن منتظري تعرض للتعذيب أكثر من غيره من السجناء. ورغم ذلك يقول منتظري، إن وفد منظمة العفو الدولية طلب زيارته خلال جولة قام بها الوفد لإيران. وقد أرسل شاه إيران محمد رضا حينها رسالة إلى منتظري طلب منه ألا يذكر شيئا حول التعذيب في السجون الإيرانية أمام الوفد، لأن مثل تلك التصريحات ربما تضر بموقف إيران العالمي.

وعندما سأل رئيس الوفد منتظري حول التعذيب في السجون الإيرانية، أجاب منتظر بالإنجليزية «لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال»! وأضاف يقول للوفد الدولي «لقد كنت في السجن، وكنت أتعرض للتعذيب، وما زلت أعاني من ذلك العذاب البغيض، ولكن عندما طلب مني شاه ألا أقول أي شيء حول التعذيب، قبلت طلبه».

وعندما كنت أستمع إلى ذلك اللقاء الذي أجراه، تذكرت عظة الجبل للسيد المسيح عندما قال «سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». (متى 5 43 ـ 44) وبالرغم من أن محمد ابن منتظري قد قتل على أيدي «مجاهدين خلق»، فإن منتظري كان يدافع عن حقوقهم كسجناء. لقد كان رمزا للإسلام المحبوب، الإسلام الخالي من العنف، الخالي من البغض والانتقام. وكما قال المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام ويبدو بالنسبة لي أن منتظري كان رجلا ثوريا ولكن من دون ضغينة أو رغبة في الانتقام. وإلا لماذا قبل طلب الشاه ولم يذكر التعذيب الوحشي الذي يحدث في السجون الإيرانية؟ أعتقد أن منتظري كان غاندي إيران. فقد قضى كل حياته يحارب من أجل الحرية والديمقراطية. وقد كان واحدا من الرجال القلائل الذين عدلوا عن رأيهم. ولذلك، فقد ذكر في كتبه وخطبه أن دور الوالي الفقيه يجب أن يقتصر على الإشراف فقط ولا يمتد إلى الحكم. وفي خطبته الشهيرة (التي أدت إلى وضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله لمدة خمس سنوات) كان يقول إن آية الله الخميني لا يصلح لأن يكون والي الفقيه أو آية الله العظمى. وقال بمنتهى الصراحة إن الحكومة تلهو بالقيم الفقهية، وإن القوات الأمنية أصبحت تتدخل في اختيار آية الله! أعتقد أن منتظري كان يعرف في هذه الأيام أن ولايتي -الذي كان وزير الخارجية في ذلك الوقت- ومحسن رضائي الذي كان القائد الأعلى للحرس الثوري، قد التقيا ببعض آيات الله العظمى في قم واقترحا تنصيب خامنئي كآية الله العظمى. وكان ذلك هو الجانب السياسي لشخصية آية الله منتظري، والمقاومة الشديدة التي أبداها للطغيان قبل وبعد الثورة.

ويقال إن آية الله منتظري قال في إحدى المرات لآية الله الخميني: «أنا مريدك وتابعك، سوف أساندك وأتبعك ولكنني لن أذهب إلى الجحيم»! هناك كتب ومناهج خاصة يتم تدريسها في المدارس الدينية سواء في قم أو النجف، يدرسها رجال الدين كذلك. ونستطيع أن نميز بين مستويين من الدراسة فيها: المستوى الأول هو الذي تعتمد فيه المناهج على نصوص معينة يجب على رجال الدين قراءتها ومناقشتها مثل كتاب «الرسائل والمكاسب»، والمستوى الأعلى من الدراسة هو المستوى الذي يعادل درجة الدكتوراه في الجامعات والذي يتجاوز في المنهج حدود النص.

لقد كان آية الله منتظري متفردا في أسلوبه في التدريس وقيادة المناقشات. وكان آية الله العظمى سيد حسين بروجردي (1875-1961) من أشهر وأهم المراجع الشيعية في القرن العشرين. وكان يحظى بشعبية منقطعة النظير. فكان يعد المرجع الأعظم. ويقول الباحث روي متحدي إن بروجردي كان المرجع الأوحد في العالم الشيعي في الفترة من 1945 وحتى وفاته في 1961. وكان آية الله منتظري هو أشهر مريديه وأكثرهم تميزا. وكان منتظري يتبع مدرسة بروجردي في الفقه والتي وفقا لها يجب على الفقيه الإسلامي القراءة والبحث في كل المراجع الفقهية بما فيها كتب السنة. ومن المتعارف عليه أن كل آيات الله العظمى يقرأون ويدرسون المراجع الشيعية فقط. ولكن بروجردي كان قد أسس مدرسة جديدة حيث إنه كان يعتقد أنه من دون القراءة والإشارة إلى كل المراجع الشيعية والسنية، لن تكون دراستنا كاملة.

وثانيا يعتقد بروجردي أن كل الفتاوى يجب أن تتم مناقشتها بناء على البحث التاريخي. كما أنه يميز بين الفقهاء في ظل الفترة الزمنية التي كانوا يعيشون فيها. وكانت مدرسة منتظري تشبه إلى حد كبير مدرسة أستاذه آية الله العظمى بروجردي. وبناء على ذلك، قال آية الله العظمى السيستاني إن منتظري هو أكثر الفقهاء براعة في إيران. وقد شرح آية الله منتظري مؤخرا فكرته حول حقوق الإنسان من خلال خلفيته الثرية؛ فقد كتب أن حجر الأساس في الشريعة الإسلامية ليس هو حقوق المسلمين أو المؤمنين بل حقوق الإنسان. ولنظريته القدرة على تأسيس حقوق الإنسان الإسلامية الجديدة.

وبناء على تلك النظرية يعتقد منتظري أن المصدر الأساسي لشرعية الحكومة هو حقوق تلك الأمة وليس الحقوق الإلهية. وقد ذكر تلك الآية من القرآن:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم 30) وبمعنى آخر، فإن المصدر الأساسي للإيمان يأتي من داخل الإنسان وليس من خارجه. ونظرا لذلك يوجد حكم شهير في الأصول يقول: كل ما حكم به العقل حكم به الشرع وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.

ووفقا لتلك المقاربة، درس منتظري المدارس الإسلامية الأخرى، حتى إنه بدأ بالدخول في نقاشات مع بعض الماركسيين خلال وجوده في السجن! في هذه الأيام، وبعد وفاته، نشرت بعض الجماعات الماركسية التعازي بمنتظري، وأعربت عن أسفها لوفاته. وقد نشرت شيرين عبادي الفائزة بجائزة نوبل للسلام، رسالة لآية الله منتظري بعد وفاته قالت فيها «أبي العزيز، سامحني.. لقد كنت الأب الروحي لحقوق الإنسان في إيران».

الآن يوجد تحد حقيقي في إيران، حيث هناك فجوة كبيرة بين الأمة والحكومة. ويعتقد المرشد الأعلى الإيراني أنه يحمل مسؤولية إلهية وأن شرعيته تأتي من الحق الإلهي. ومن جهة أخرى، كان آية الله منتظري، باعتباره المرجع الأكبر، يعتقد أن الحكومة يجب أن تحترم الأمة باعتبارها مصدر السلطة والشرعية. ويبدو بالنسبة لي أن إرث منتظري لا يزال موجودا وسيبقى موجودا، لأن الحكومة لم تسمح لآية الله العظمى طاهري في أصفهان بترتيب حفل تأبين لمنتظري. أعتقد أن نهاية ووفاة منتظري ما هي إلا بداية جديدة وحياة للحركة الخضراء في إيران. أليس الصبح بقريب؟