زرداري.. على طريق مشرف

أزمة منتظرة بين الطبقة السياسية والقضائية في باكستان تثير مخاوف المجتمع الدولي من عدم استقرار البلد النووي

صورة لزرداري ممزقة مرفوعة على حائط في مخيم جولوزاي شمال غربي إسلام آباد الذي تديره الأمم المتحدة ويؤوي لاجئين هربوا من الصراع في وادي سوات (رويترز)
TT

بدلت المحكمة العليا الباكستانية من خلال حكم أصدرته في 16 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مسار الحياة السياسية بالبلاد. ووجدت حكومة «حزب الشعب الباكستاني» نفسها وحيدة على الساحة السياسية، في مواجهة تداعيات بالغة الخطورة لحكم المحكمة العليا الذي طالب الحكومة ليس بإعادة فتح ملفات قضايا فساد مالي ضد وزرائها، وإنما وجهها كذلك إلى المضي قدما ضد رئيسها فيما يخص القضايا المتعلقة باتهامات له بالتورط في غسل أموال في سويسرا.

وكانت المحكمة العليا قد أسقطت «قانون المصالحة الوطنية» المثير للجدل الذي اعتمد عليه الرئيس السابق بيرويز مشرف، في قراره الصادر أكتوبر (تشرين الأول) 2007، بوقف قضايا الفساد المالي ضد الرئيس الحالي آصف علي زرداري وعدد من كبار قيادات الحزب الحاكم.

وتضمن قرار المحكمة العليا المؤرخ 16 ديسمبر (كانون الأول) أيضا توجيهات للحكومة بإحياء جميع قضايا الفساد المالي ضد العناصر المنتفعة من «قانون المصالحة الوطنية» كافة، بما في ذلك الرئيس آصف علي زرداري، وقيادات أخرى بارزة في الحزب الحاكم، مثل وزير الدفاع أحمد مختار، ووزير الداخلية رحمن مالك، وبعض كبار الدبلوماسيين الباكستانيين العاملين في لندن وواشنطن. علاوة على ذلك، أصدرت هيئة المحكمة العليا المؤلفة من 17 عضوا بالإجماع توجيهات إلى الحكومة بإثارة قضايا غسل الأموال مجددا داخل المحاكم السويسرية ضد الرئيس الباكستاني.

وكان «قانون المصالحة الوطنية» أقر في أكتوبر (تشرين الأول) 2007، وبعث النائب العام تحت إمرته خطابا إلى المحاكم السويسرية يطلب فيه إسقاط قضايا غسل الأموال ضد الرئيس الحالي زرداري، الذي كان يعيش حينذاك في المنفى، في الولايات المتحدة.

وتشهد الدوائر السياسية الباكستانية حالة أشبه بالإجماع حول أن الرئيس زرداري يواجه مأزقا عسيرا في أعقاب التوجيهات الصادرة من المحكمة العليا إلى الحكومة بإعادة فتح ملفات قضايا غسل الأموال ضده في سويسرا. فمن ناحية، يشكل هذا القرار تحديا قانونيا لأهليته للمنافسة في الانتخابات، وبالتالي الاستمرار في الرئاسة، ذلك أن القانون الباكستاني ينص على أنه لا يحق لأي شخص مدان بجريمة تولي منصب عام (طبقا للسجلات الحكومية، أدين زرداري في قضية غسل أموال من قبل محكمة سويسرية). ومن ناحية أخرى، فإن مزاعم الفساد المالي تقلص الشرعية الأخلاقية للرئيس الباكستاني، الأمر الذي سبق وأتى بنتائج كارثية بالنسبة للرئيس السابق مشرف عندما واجه اتهامات مشابهة بعض الشيء في خضم أزمة سياسية شهدتها البلاد منذ عامين. وحينها، بدأت شرعية الرئيس السابق الأخلاقية تنحسر في أعين الرأي العام الباكستاني في وقت كانت المحكمة العليا على وشك إعلان عدم أهليته للمنافسة في الانتخابات الرئاسية.

وفي مواجهة هذه الأزمة السياسية التي أسفرت في نهاية الأمر عن الإطاحة به، أقدم مشرف على فصل 61 قاضيا من المحكمة العليا ممن كانوا يشاركون بجلسات استماع في دعاوى تطالب بإعلان عدم أهليته للمنافسة في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007. باعتباره رجلا عسكريا، لم تساور مشرف شكوك حول قدرته على سحق المحكمة العليا التي كانت قد بدأت تكتسب مكانة «مقدسة» في أعين الباكستانيين بحلول ذلك الوقت. إلا أن مشرف تعين عليه تكبد ثمن فادح للإجراءات القاسية التي اتخذها بحق المحكمة العليا، والتي أسفرت في النهاية عن تلاشي سلطته الأخلاقية وشرعيته القانونية، وقادت إلى سقوط حكومته.

وربما كان الرئيس زرداري يضع مصير سلفه نصب عينيه عندما أطلع قيادات حزبه خلال الأسبوع الثاني من ديسمبر على رغبته في تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع المحكمة العليا. وأبدى زرداري ومساعدوه المقربون تحفظا شديدا في التعليق على قرار المحكمة العليا. على سبيل المثال، أعلن المتحدث الرسمي باسم الرئاسة فرحة الله بابار، أن «الرئيس يحترم قرار المحكمة»، وقال «أود أن أعلن هنا أن الرئيس يتمتع بحصانة كاملة ضد الإجراءات الجنائية طبقا للمادة 248 من الدستور».

إلا أنه على أرض الواقع، يبقى رد فعل زرداري تجاه قرار المحكمة العليا شديد الشبه برد فعله سلفه، ومثيرا للحيرة أيضا. في بياناتهم المعلنة، أكدت القيادات الحكومية أنها تتقبل تماما قرار المحكمة العليا، وأنه بالفعل أعيد فتح الكثير من قضايا الفساد ضد مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى بناء على قرار المحكمة.

بيد أنه في الوقت ذاته، لا تبدي الحكومة استعدادها لإعادة فتح قضايا غسل الأموال ضد زرداري في سويسرا. وتقول فوزية وهاب، أمينة شؤون الإعلام لدى «الحزب الشعبي الباكستاني»، إن «هناك تعارضا في حكم المحكمة العليا، فكيف يمكن للحكومة أن تطلب من المحاكم السويسرية إعادة فتح قضايا ضد رئيسها». والملاحظ وجود نقاط اختلاف أخرى بين الموقف الذي يواجهه زرداري والآخر الذي تعرض له الجنرال مشرف منذ عامين، فعندما بدأت فصول الأزمة أمام مشرف في التشكل منتصف عام 2007، ترك وحده في الساحة ولم تكن ثمة قوة سياسية تسانده. في المقابل، يحظى زرداري بدعم واحد من أكبر الأحزاب السياسية بباكستان، «حزب الشعب الباكستاني»، والذي يتمتع بدوره بقاعدة تنظيمية داخل كل مناطق البلاد.

إضافة إلى ذلك، بالنسبة للرئيس السابق مشرف، كانت هناك معارضة سياسية موحدة وعازمة على إقصائه عن السلطة عام 2007، بينما في ما يخص زرداري، تمر المعارضة السياسية بحالة من الكمون، بجانب عدم استعدادها للمشاركة في أي لعبة سياسية لإسقاط حكومة «حزب الشعب الباكستاني».

ولكن رغم المميزات التي يتمتع بها زرداري، يتفق معظم المحللين السياسيين على أن الحكومة الباكستانية ستواجه أزمة سياسية بالغة الخطورة في الأسابيع القادمة. وتقول رنا قيصر، رئيسة تحرير «ديلي تايمز»، الصحيفة الباكستانية الأولى الصادرة بالإنجليزية: «خلال الأسابيع القادمة، سيواجه الرئيس زرداري موقفا شديد الصعوبة يعتمد على التوجه الذي ستتخذه الأحزاب السياسية، خاصة حزب الرابطة الإسلامي (حزب نواز شريف)».

نظرا للمشكلات التي يتوقع مجابهتها الفترة القادمة، قرر «حزب الشعب الباكستاني» تجنب اتخاذ موقف دفاعي والمبادرة إلى الهجوم لحماية الرئيس زرداري وكبار قيادات حزبه الأخرى، التي تواجه مجددا اتهامات جنائية في ضوء قرار المحكمة العليا الأخير. ومن جهته، قال زرداري خلال اجتماع للجنة التنفيذية المركزية لـ«حزب الشعب الباكستاني» عقد في منزل الرئاسة في إسلام آباد مساء السبت: «سنستخدم الدستور والديمقراطية كأسلحة لإحباط المؤامرات التي تحاك ضد الحكومة. وأتوقع مزيد من المؤامرات ضد الحكومة في الأسابيع القادمة، لكننا لن نسمح لها بالنجاح». من جهتهم، قال مسؤولون بالحزب إن الرئيس عمد إلى صياغة استراتيجية لتجنب الدخول في مواجهة مع القضاء. إلا أن قياديا بارزا في الحزب الحاكم استطرد موضحا أنه «سنهاجم جميع القوى التي تتآمر ضد الحكومة». خلال الاجتماع، أصدر زرداري توجيهاته لكبار قيادات الحزب ممن يواجهون اتهامات بالفساد بالطعن في الاتهامات الموجهة إليهم داخل قاعات المحاكم. وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، قال مسؤول بارز بالحرب: «لن يتركهم الحزب بمفردهم حلال هذه المحنة».

إلا أن مسألة عدم استعداد الحكومة الباكستانية لإعادة فتح قضايا غسل الأموال ضد زرداري داخل المحاكم السويسرية حسبما أمرت المحكمة العليا، يضعها على طريق الصدام مع السلطة القضائية. وفي أعقاب الاجتماع، صرح اعتزاز أشان، المحامي البارز والعضو في (حزب الشعب الباكستاني)، لوسائل الإعلام، بأن زرداري يتمتع بسلطة دستورية تخول له وقف أي إجراءات قانونية في أي محكمة. بيد أن خبراء قانونيين مستقلين أبدوا رأيا مغايرا لوجهة نظر الحزب الحاكم. على سبيل المثال، يقول أكرم شيخ، الرئيس السابق لنقابة المحامين أمام المحكمة العليا، إنه «حال عدم إعادة فتح القضايا أمام المحاكم السويسرية حسبما أمرت المحكمة العليا، وحال عدم إجراء محاكمة نزيهة لوزراء الحكومة، ستندلع مواجهة بين الحكومة والسلطة القضائية الباكستانية».

على الصعيد غير المعلن، ألقى قيادات «حزب الشعب الباكستاني» باللوم على الجيش الباكستاني لتسببه في حالة من انعدام الاستقرار بالبلاد. وأثناء اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية للحزب، انتقد زرداري بشدة تلك القوى التي رفضت الحكم الصادر لصالح «حزب الشعب الباكستاني» خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ورغم عدم ذكر الرئيس زرداري للجيش تحديدا، يرى المحللون السياسيون أن حديثه يشير ضمنيا إلى إلقاءه اللوم على الجيش الباكستاني عن غياب الاستقرار عن البلاد.

ويتفق غالبية المحللين السياسيين على أن الأزمة السياسية الراهنة لن تسفر عن إسقاط الرئيس زرداري وحكومته. لكن معظمهم يعتقدون أن الحكومة الراهنة سيصيبها وهن بالغ في النهاية. عن ذلك، تقول رنا قيصر: «ترمي هذه الأزمة لتقويض قوته (زرداري)، وليس الإطاحة به».

الملاحظ أن الأزمة السياسية لا تزال في طور التشكل، ولم تتضح بعد كثير من الأمور. مثلا، من غير الواضح رد فعل المعارضة السياسية تجاه المواجهة الوشيكة بين الحكومة والقضاء. في الواقع، لا يكاد يكون هناك إجماع تام داخل الدوائر السياسية (من سياسيين ومعلقين سياسيين) حول أن الحكومة والمحكمة العليا في طريقهما نحو الصدام. تظهر أحد المؤشرات على ذلك بانتظام في صورة الهجمات التي يشنها زعيم الحزب الحاكم ضد المحكمة العليا والحكم الصادر عنها. إلى جانب ذلك، شكلت المحكمة العليا لجنة مراقبة تتكفل بمهمة ضمان إجراء محاكمة نزيهة للقيادات الحكومية المتورطة في قضايا فساد. ومن المحتمل أن يشكل ذلك نقطة خلاف أخرى بين الحكومة والقضاء.

حتى الآن، لا تزال المعارضة السياسية في حالة كمون، وتبدو غير مستعدة لاتخاذ موقف محدد أو الاضطلاع بأي دور في الأزمة الراهنة. يذكر أن نواز شريف، زعيم أكبر حزب معارض، غادر البلاد قبل اليوم المتوقع لإعلان المحكمة العليا حكمها بثلاثة أيام. وفي اليوم الذي أعلن خلاله الحكم، طالب أحد أعضاء «حزب الرابطة الإسلامي» (نواز شريف)، خواجة آصف، الرئيس بالاستقالة بالنظر إلى اتهامات الفساد الموجهة ضده. إلا أنه في غضون أسبوع أجبر على التراجع عن تصريحاته من قبل القيادة المركزية لحزبه.

ومن المعتقد أن ذلك كله سيتبدل حال اتخاذ المواجهة بين الحكومة والسلطة القضائية منحى سيئا. وتوضح رنا قيصر أنه «سيكون من العسير للغاية على أحزاب المعارضة الرئيسة البقاء على الهامش بمجرد خروج الأزمة عن نطاق السيطرة». ويعتقد بعض الخبراء العسكريين أن هذه الأزمة من المحتمل أن تجر الجيش لدخول الساحة السياسية. في هذا السياق، يقول بريجيدير (متقاعد) محمود شاه، وهو محلل عسكري بارز «هناك خوف من إمكانية جر الجيش إلى هذا الأمر. وإذا ما تقاتلت السلطتان الرئيستان، فربما يطلب من الجيش التدخل في مثل هذه الأزمة لحلها».

ومع تصاعد الحركات المسلحة كل يوم، فإن انعدام الاستقرار السياسي في باكستان يثير القلق بالنسبة للمجتمع الدولي. وقد شهد الأسبوع الماضي وفود الكثير من كبار الدبلوماسيين الغربيين لزيارة إسلام آباد لتقدير الموقف وتقديم تقرير عنه إلى دولهم، خاصة في ما يتعلق بما إذا كان غياب الاستقرار السياسي عن إسلام آباد سيؤثر على جهود مكافحة الإرهاب.

ويقول تنوير أحمد خان، وزير الخارجية السابق، إنه «في ما يخص هدف مطاردة العناصر المسلحة والمتطرفة، لا أعتقد أنها ستتأثر على أي حال، لأن الحرب ضد الإرهاب في أيدي الجيش وهم يقومون بمهمتهم على نحو جيد». ومع ذلك، يخشى الكثيرون من أنه حال استمرار الأزمة، فإن ذلك سيؤثر بالسلب على قدرة الحكومة الباكستانية على السيطرة على المناطق التي تتميز حاليا بهدوء نسبي في أعقاب العملية العسكرية الأخيرة.

وأكد تنوير أحمد خان أن «المناطق التي يسودها الآن هدوء نسبي لديها حاجة لمسارعة السلطات المدنية إلى فرض وجودها بها من أجل بناء المدارس وإنعاش النشاط الاقتصادي وعودة الحياة الطبيعية بهذه المناطق. أعتقد هناك خوف من أنه بسبب تلك الأزمة، ستعجز الحكومة عن الاهتمام بهذا الجانب من الصراع ضد الإرهاب».

ويقول محمود شاه إن تأثير الأزمة السياسية سيكون عميقا للغاية، موضحا أن «الجانب العسكري لا يعدو ما بين 10% و20% من مجمل العملية الرامية للسيطرة على الحركات المسلحة بالمنطقة. وأضاف: «الآن، على سبيل المثال، هناك حاجة لاجتذاب تأييد قبيلة محسود في جنوب وزيرستان، وهي مهمة على القيادة السياسية القيام بها. لكن هذه القيادة ينصب اهتمامها على حل مشكلاتها». وقد علمت «الشرق الأوسط» أن عناصر أكثر تعقلا داخل الحزب الحاكم تحاول إقناع زرداري بتجنب المواجهة مع القضاء بأي ثمن.