اغتيالات.. بالابتسامات

إسرائيل تعتمد «التصفية» وسيلة أساسية في حربها.. أفنت الجيل الأول من حماس وحزب الله يتضرر

جنود إسرائيليون يصوبون... (أ.ف.ب)
TT

في مثل هذا اليوم منذ عامين، اغتيل القائد العسكري والأمني التاريخي لحزب الله عماد مغنية، بتفجير سيارة مفخخة في دمشق. يومها تجنب الإسرائيليون تبني عملية الاغتيالات، لكن الابتسامات العريضة على وجوه قادة إسرائيل كانت توحي بالكثير.

بالأمس القريب اغتيل المسؤول في حركة حماس محمود المبحوح في دبي، ولم تعترف إسرائيل أيضا بتنفيذ العملية، «لكن ابتسامات الوزراء قالت كل شيء»، كما كتب الصحافي يوسي ميلمن في صحيفة «هآرتس» في اليوم التالي للعملية.

يخفي الإسرائيليون وراء هذه «الابتسامات» رغبة قوية في تبني هذا «النصر»، تكبحها مخاوفهم على «سمعة» إسرائيل، أو من ردود الفعل في بعض الحالات. لكن الاغتيالات سياسة إسرائيلية استراتيجية اعتمدت قبل تشكيل الكيان الإسرائيلي، كما يؤكد الباحث اللبناني في الشؤون العسكرية محمد خواجة. وتدل الوقائع على تاريخ حافل من الاغتيالات التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، والجيش الإسرائيلي أيضا، لعدد من قادة الحركات المناهضة لها في أنحاء العالم.

وقد استطاعت إسرائيل أن تشطب عمليا الكثير من القادة المؤسسين لحركة «فتح»، وصولا إلى زعيمها التاريخي ياسر عرفات إذا ما صدقت «الشائعات» عن موته بالسم الإسرائيلي. أما حركة حماس، فقد أفنت إسرائيل جيلها الأول بشكل شبه كامل، كما قتلت قادة كبارا من حركة «الجهاد الإسلامي» ومن حزب الله وإن بدرجة أقل.

وكان أهارون ياريف، وهو المدير السابق لمركز الأبحاث الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، ورئيس الاستخبارات العسكرية إبان عملية ميونيخ، قد أدلى بحديث لمحطة تلفزيون بريطانية في 1993، روى فيه قصة الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل انتقاما، وطالت عددا من القادة الفلسطينيين في عواصم عربية وعالمية، وهي عمليات استمرت منذ عام 1972 حتى عام 1984، وتميزت هذه العمليات بدرجة عالية من الحرفية، حتى إن تنفيذ إحداها لم يستغرق أكثر من دقيقتين.

ويؤكد خواجة أن الاغتيال سياسة اعتمدتها إسرائيل منذ ما قبل تأسيس كيانها في عام 1948، مشيرا إلى أن الاغتيال بالنسبة إليهم «نهج وقاعدة، وليست شذوذا عن القاعدة». ويعتبر أن «إسرائيل اعتمدت هذه الوسيلة في الأماكن التي لا تطالها ذراعها العسكرية، سواء لأسباب لوجيستية، أو سياسية في أحيان أخرى». ويقول «الإسرائيلي كان سباقا في هذا المجال، ولديه جهاز متدرب ومتمرس في تقنيات الاغتيال»، مشيرا إلى أن في جهاز «الموساد» قسما متخصصا في تنفيذ عمليات الرصد والتعقب والاغتيالات».

ويقول خواجة إنه على «ضفاف الصراعات العسكرية تحدث دائما عمليات اغتيال تستهدف شخصيات ومفاصل لدى العدو، لكن الإسرائيلي اعتمدها قاعدة ثابتة في سياساته»، موضحا أن هذه السياسة سابقة لنشوء حماس وحزب الله رغم أنهما المستهدفان الأساسيان للاغتيال حاليا. ويشير إلى «حرب مفتوحة وقعت بين إسرائيل ومنظمة التحرير قبل عام 1982، كان مسرحها أوروبا بشكل رئيسي، وجرى فيها تبادل تسجيل النقاط»، موضحا أن إسرائيل استطاعت أن تحقق «انتصارات» في هذا المجال بما تمتلكه من تقنيات وتجهيزات ومؤسسات، بالإضافة إلى العامل الأهم المساعد، وهو أنها دولة تستطيع أن تتحكم في الوثائق «المزورة الأصلية» التي تتيح لأمنييها التنقل بحرية وسرية»، بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة التي تربط جهاز الموساد مع أجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية. ويقول الصحافي يوسي ميلمن، الإخصائي في الشؤون الاستخباراتية «إن أجهزة الاستخبارات في إسرائيل اعتمدت عقيدة مفادها أن عمليات تصفية القادة الإرهابيين من الصف الأول هي وحدها التي يمكن أن يكون لها وقع استراتيجي». ويرى أن إسرائيل تواجه معضلة لأنها «ينبغي عليها التحرك ضد المجموعات الإرهابية والرد على هجماتهم». ويعتبر الباحث الإسرائيلي روفن بيداتسور أن «تصفية الإرهابيين تطرح مشكلة أخلاقية، لأنه لا أحد يعلم ما هي المعايير التي تستند إليها هذه الأحكام بالإعدام».

وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد ناقشت في عام 2006 مدى قانونية الاغتيالات التي تنفذها إسرائيل، وطالبت بتشكيل لجنة خاصة مهمتها فحص الاغتيالات ضد النشطاء الفلسطينيين، الأمر الذي أوجب إجراء نقاش بمشاركة ممثل عن ميني مزوز، المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، والأطراف ذات العلاقة بالموضوع في الجيش والشاباك، تمخض عن توصيات تتعلق بتشكيل اللجنة وطرق عملها.

لكن الحكومات الإسرائيلية تجاهلت هذا الطلب رغم إلحاح مزوز على الإسراع بتشكيل لجنة الاغتيالات تنفيذا لقرار المحكمة العليا الإسرائيلية. وفي عام 2007، جرى نقاش آخر برئاسة أولمرت، ومشاركة زير الجيش ووزير القضاء ورئيس الشاباك والمدعي العام العسكري ورؤساء أجهزة أخرى لم تذكرها رسالة مزوز، تقرر في نهايته فحص الاغتيالات التي عرفت باسم «اد - هوك»، برئاسة الجنرال احتياط تفسي عنبر، أوكل إليها فحص عملية اغتيال محددة، هي عملية اغتيال صلاح شحادة. وفعلا أقيمت اللجنة وقامت بعملها حسب رسالة مزوز. ورغم ذلك، فإنه لم يتخذ قرار بتشكيل لجنة دائمة تفحص بقية الاغتيالات، وذلك بحجة ضرورة إجراء مزيد من الدراسة والبحث المتعلق بالأبعاد المترتبة على قرار المحكمة العليا».

وفي المقابل، يؤكد المحلل السياسي هيلل فريش، من جامعة بار إيلان في تل أبيب، أن «عمليات التصفية أثبتت جدواها من خلال تخفيض عدد الاعتداءات بشكل كبير في الضفة الغربية بين 2001 و2005»، فيما يقول الباحث إيلي كرمون، من معهد هرتسليا قرب تل أبيب «إن شل الإرهابيين هو سلاح استراتيجي بالنسبة لإسرائيل. إنه أمر مشروع وفعال شرط ألا يتوقف».

ومنذ عام 1972 لم تهدأ حركة الاغتيالات الإسرائيلية، والتي استهدفت بشكل رئيسي آنذاك قادة منظمة التحرير الفلسطينية. فقتل عناصر الموساد الكاتب الفلسطيني والعضو القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني بتفجير سيارة مفخخة. وفي العام نفسه قتل ممثل منظمة التحرير في ليبيا وائل زويطر برصاص مسلحين دخلوا شقته في روما وأردوه قتيلا. وفي العام نفسه أيضا، قتل ممثل منظمة التحرير في باريس محمود الهمشري، في انفجار قنبلة خبئت في هاتفه في العاصمة الفرنسية. وفي يناير (كانون الثاني) 1973، أي بعد أقل من شهر، قتل ممثل منظمة التحرير في نيقوسيا حسين البشير، في انفجار عبوة زرعت تحت سريره في فندق في العاصمة القبرصية. وبعدها بثلاثة أشهر نفذ كوماندوز إسرائيلي كان وزير الدفاع الحالي إيهود باراك عضوا فيه 3 قياديين في منظمة التحرير، هم كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد النجار، وبعدها بيومين - 11 أبريل (نيسان) 1973 - قتل ممثل «فتح» في نيقوسيا زياد موشاصي في غرفة بفندق في أثينا.

وبعد فترة من «الهدوء النسبي» للاغتيالات بسبب الحرب الأهلية اللبنانية التي انغمست فيها منظمة التحرير، استؤنفت عمليات الاغتيال، وكان صيدها «دسما» هذه المرة، وهو القيادي الفلسطيني أبو حسن سلامة، الذي عمل في قيادة جهاز الرصد الثوري لحركة فتح، وهو اسم فرع المخابرات التابع للحركة في الأردن. وفي عام 1970 تولى قيادة العمليات الخاصة ضد المخابرات الإسرائيلية في العالم من لبنان، وارتبط اسمه بالكثير من العمليات النوعية، مثل إرسال الطرود الناسفة من أمستردام إلى الكثير من عملاء الموساد في أوروبا، ومن الذين قتلوا بالطرود ضابط الموساد في لندن أمير شيشوري. وعملية ميونيخ التي قامت بها منظمة «أيلول الأسود» التي خطفت عددا من الرياضيين الإسرائيليين وقتلت بعضهم. وقد لقبته رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير آنذاك بـ«الأمير الأحمر». وحاولت إسرائيل قتله مرات عدة، وتم لها ذلك بتفجير سيارة مفخخة لدى خروجه من منزل زوجته اللبنانية، ملكة جمال الكون في عام 1971، جورجينا رزق، في بيروت في 22 يناير 1979.

وبالإضافة إلى سلامة، قامت إسرائيل بتصفية عدد آخر من المشاركين في عملية ميونيخ، كان آخرهم عاطف بسيسو الذي قتل على يد عناصر الموساد في باريس عام 1992. وفي الثمانينات قامت إسرائيل بعدد من الاغتيالات أبرزها لعالم الذرة المصري محمد يحيى المشد، الذي قتل على يد عملاء الموساد في فندق ميريديان في باريس، بالإضافة إلى اغتيال أحد كبار زعماء منظمة التحرير خالد الوزير المعروف بأبو جهاد، بواسطة قوة كوماندوز هاجمت مقره في تونس عام 1988. وفي التسعينات، انتقلت ساحة المعركة إلى التنظيمين «الناشئين» حزب الله وحماس، بعدما ورثا منظمة التحرير في لبنان وفلسطين. وبعد قيام إسرائيل بعدة اغتيالات لقياديين في حركة المقاومة ضدها في لبنان أبرزهم القياديان في حركة أمل، محمد سعد المعروف بقيادته حركة المقاومة قبل نشوء حزب الله، ومساعده خليل جرادي، بتفجير في حسينية بلدة معركة الجنوبية، كانت البداية مع حزب الله في عام 1992، عندما اغتالت إسرائيل الأمين العام للحزب عباس الموسوي في هجوم نفذته طائراتها على موكبه.

كما قتلت إسرائيل رئيس حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني فتحي الشقاقي في مالطا. وقتلت في غزة القيادي في حماس يحيى عياش بتفجير هاتفه، بالإضافة إلى فشلها في اغتيال القيادي في حماس خالد مشعل بدس السم له في عمان. وسجلت «بورصة الاغتيالات» بعد ذلك أسماء الكثير من القياديين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومعظمهم من القيادات الميدانية. وفي الواقع، تعرضت حماس إلى الكثير من الضربات الموجعة لها، إذ قتل الكثير من قيادييها البارزين. فبعد عياش، قتل قائد كتائب شهداء الأقصى رائد الكرمي في طولكرم في عام 2002. وبعدها بأشهر قتل خليفته صلاح شحادة، ثم إسماعيل أبو شنب في عام 2003، ومؤسس الحركة وزعيمها الشيخ أحمد ياسين في مارس (آذار) 2004، ثم خليفته عبد العزيز الرنتيسي في أبريل من العام نفسه بصواريخ أطلقتها طائرات إسرائيلية. ثم قتل الكثير من القياديين من حماس في غارات استهدفتهم خلال حرب غزة في عام 2008 وما تلاها من مواجهات، أبرزهم وزير داخلية حماس سعيد صيام وأخيرا المبحوح.

وفي المقابل، استطاع الفلسطينيون النيل من الوزير الإسرائيلي رحبعام زائيفي على يد عناصر من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في عام 2001. وقد أودت عمليات الاغتيال، أو «جرائم القتل خارج نطاق القانون»، التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلية بحق النشطاء والمدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الانتفاضة بحياة 651 فلسطينيا، وفق ما أعلنه المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. وتمت معظم عمليات الاغتيال الإسرائيلية إما بإطلاق النار مباشرة على المستهدفين أو من خلال طائرات مروحية أو طائرات استطلاع أو طائرات «إف 16» بمساعدة عملاء أو علامات على الأرض. ووفقا للمركز، فقد راح ضحية هذه الجرائم 430 فلسطينيا من المستهدفين، و221 من غير المستهدفين، بينهم 73 طفلا.

وامتدت العمليات ضد القيادات الفلسطينية إلى لبنان، حيث قتل قائد حركة الجهاد الإسلامي محمود المجذوب وشقيقه في صيدا على أيدي عملاء لبنانيين في مدينة صيدا بجنوب لبنان. كما قتل القيادي في حزب الله عماد مغنية في مارس، وتلاه العميد محمد سليمان، أحد أبرز مساعدي الرئيس السوري بشار الأسد برصاص قناص من على متن يخت. وإذا كانت إسرائيل قد أحدثت تقدما في هذه الحرب على الساحة الفلسطينية، فإنها اصطدمت بالكثير من الصعوبات على الساحة اللبنانية بسبب التعقيدات التي يفرضها العمل في نطاق معاد كالساحة اللبنانية التي يتجول فيها حزب الله بحرية كبيرة، ويحظى فيها بتعاطف من الاستخبارات العسكرية اللبنانية التي تشن حملات عنيفة ضد الشبكات الإسرائيلية، بالإضافة إلى الإنجازات التي حققتها قوى الأمن الداخلي أخيرا بكشفها كما هائلا من الشبكات الإسرائيلية التي اعترف بعض المتورطين فيها بتقديم التسهيلات التقنية للاستخبارات الإسرائيلية التي على ما يبدو تفضل أن تقوم بالشق التنفيذي مباشرة ومن دون وكلاء.

ويشير خواجة إلى وجود صعوبات كبيرة لدى الإسرائيليين في اختراق المقاومة أمنيا، وهو ما تجلى في حرب عام 2006، حيث ظهر جليا النقص الاستخباراتي لدى إسرائيل وقلة معرفتها بما تحضر له، وهو ما أشار إليه التقرير النهائي للجنة «فينوغراد» التي حققت في إخفاقات إسرائيل العسكرية خلال الحرب الأخيرة.

ورغم «الفشل» الاستخباراتي الإسرائيلي في التعاطي مع حزب الله عموما، فإن إسرائيل تمكنت من اغتيال ثلاثة من أبرز قياديي الحزب العاملين على الملف الفلسطيني، وهم: غالب عوالي وعلي صالح وحسن سلامة، في سيناريو شبه موحد، إذ قتلوا بتفجير عبوات وضعت بسياراتهم في ضاحية بيروت الجنوبية.

وفي المقابل، نجح حزب الله في توجيه عدد من الضربات للقوات الإسرائيلية في جنوب لبنان بتنفيذه عددا من عمليات الاغتيال التي طالت قيادات من ميليشيا جيش لبنان الجنوبي المتعاونة مع الاحتلال، وأبرزهم قائدها العسكري عقل هاشم بعبوة زرعت في حديقته، بالإضافة إلى محاولة فاشلة قام بها الحزب الشيوعي اللبناني لاغتيال قائد هذه الميليشيا أنطوان لحد على يد معلمة أولاده الخصوصية. كما نجحت المقاومة اللبنانية في اغتيال الحاكم العسكري الإسرائيلي لجنوب لبنان في عام 1983، و75 عسكريا إسرائيليا، بتفجير مقره في مدينة صور. أما الإنجاز الأبرز فقد كان اغتيال قائد وحدة الارتباط الإسرائيلية في جنوب لبنان إيرز غريشتاين في فبراير (شباط) 1999. ويقول خواجة، إن حزب الله لم يكن همه الأساسي موضوع الصراع مع إسرائيل خارج لبنان، «وكان جهده الاستخباراتي يتركز على حماية جسم المقاومة من الاختراقات، ونجح في ذلك إلى حد كبير».