تركيا: حرب داخلية

الزلزال السياسي الأخير ولد أضرارا كبيرة

TT

لا يمكن وصف ما يحدث في تركيا الآن سوى بأنه «حرب داخلية» شرسة بين 3 أجنحة من أجنحة الحكم، وهي المؤسسة التنفيذية، ممثلة في حكومة العدالة والتنمية، والجيش، حامي حمى العلمانية، والمؤسسة القضائية، حامية حمى العدالة. روح وجوهر هذه الحرب الداخلية هي «العلمانية التركية والحفاظ عليها» من قرارات وتحركات لحزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، جنبا إلى جنب مع «التدخلات غير الشرعية للجيش في المشهد السياسي التركي»، وفيما كان بعض المتتبعين عن قرب للشأن التركي الداخلي يتحدثون بإصرار عن مفاجأة تقع بين اللحظة والأخرى يقودها بعض ضباط المؤسسة العسكرية الذين لم يعد لهم طاقة على الانتظار والتحمل أمام الهجمات التي تنفذ ضد مواقعهم من قِبل أكثر من جهة سياسية وإعلامية وأكاديمية، بتحريك قطع السلاح الثقيل كما فعل كنعان افرين عام 1980 في انقلابه، تحركت مجموعة من رجال القضاء والقانون للاصطفاف وراء قرار مجلس القضاة والمدعين الأعلى الذي دخل في «كباش» يبدو للوهلة الأولى أنه يقع نتيجة تأزم داخل الجسم القضائي التركي، لكنه كما يقول البعض «حلقة من حلقات المنازلة» مع حكومة العدالة والتنمية ورسائل علنية تحت عنوان «عدم التراجع والتخلي بمثل هذه السهولة عن قلعة القضاء» أهم حصون ورموز العلمانية والأتاتوركية في البلاد.

في الوقت الذي تقول حكومة العدالة والتنمية إنها تبذل ما بوسعها لتقديم صورة جديدة عن البلاد، تساهم بدفع مسيرتها نحو العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وتعمل جاهدة لطرح وتغيير الكثير من القوانين والنظم والتركيبات الدستورية والسياسية والاجتماعية، التي تحمل المزيد من الديمقراطية والانفتاح والشفافية في التعامل مع المسائل التي تساهم في تعزيز مكانة تركيا وموقعها الإقليمي، وقع الزلزال القضائي الأخير الذي دخل فيه مجلس القضاة الأعلى، أهم السلطات القضائية في البلاد، كلاعب أساسي يقود عملية تفعيل الضربات الارتدادية لحماية القواعد والحصون.

«زلزال» القضاء هذا الذي عاشته تركيا وفجر مواجهة حامية جديدة بين الحكومة ومن يدعمها من تكتلات ليبرالية وإعلامية من جهة، والمعارضة التي تتوحد وراء حزب الشعب الجمهوري ويدعهما شخصيات قضائية وعسكرية وإعلامية من جهة أخرى، كان بشدة لا تقل عن 5 درجات، بالمقارنة مع الزلازل السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد منذ أشهر. ومع أن تركيا دولة تقع ضمن دائرة مناطق الزلازل الطبيعية الدائمة، وأن اسطنبول تستعد على مدار الساعة للتخفيف قدر الإمكان من تأثيرات الزلزال المرتقب، فإن الزلزال السياسي الأخير ولد آثارا سلبية وأضرارا كبيرة لن تعوض بمثل هذه السهولة وسط غليان الجوف السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد.

الانفجار جاء نتيجة تأزم واحتقان كبيرين بدأ قبل أشهر، لكن كلمة السر فيه كانت مع تحرك مجلس القضاة الأعلى لإصدار قرار عاجل بسحب صلاحيات 4 مدعين عموميين أحالوا أحد زملائهم على المحكمة التي أمرت باعتقاله وسجنه. الأزمة بإيجاز وقعت على خط المدينتين الشرقيتين (أرضروم وأرزنجان) عندما تحرك المدعي العام عثمان شانال الحامل لصلاحيات استثنائية في أرضروم باتجاه أرزنجان المجاورة لتفتيش مكتب زميل آخر له في السلك القضائي مدعي عام المدينة الهان جيهانير ووضع اليد على الكثير من الأوراق والوثائق والمستندات والمطالبة باعتقاله بتهمة الانتماء إلى منظمة «أرغينيكون» السرية المتهمة بالتحريض على ضربة عسكرية في البلاد تطيح بحكومة العدالة والتنمية.

المواجهة كما فهمنا تقع في إطار معادلة «دولة القضاة» أم «قضاة الدولة». فمجلس القضاة الأعلى سارع للدخول على الخط رافضا التعامل مع مدعي عام أرزنجان على هذا النحو وسارع إلى سحب صلاحيات 4 مدعين عموميين شاركوا بشكل أو بآخر في هذه العملية. لكن القضية لم تحسم على هذا النحو فالمدعي العام لأرضروم نجح في تحويل «التمريرة» الخاطئة التي تلقاها من مجلس القضاة والمدعين إلى هدف يسجله في مرماهم بسرعة البرق من خلال إرسال كافة الوثائق والمستندات التي جمعها من مكتب ومنزل زميله إلى مدعي عام اسطنبول زكريا أوز للاستفادة منها ودمجها في ملف تركيا الأكبر والأهم منظمة «أرغينيكون» التي لها امتدادات وجذور في أكثر من مؤسسة حساسة داخل البلاد. وزير العدل التركي سعد الله أرغين لم يتردد في القول إنها عملية تجاوز الصلاحيات ومحاولة تصعيد وتحد. بولند ارينش نائب رئيس الوزراء والرئيس الأسبق لمجلس النواب التركي المعروف عنه كلامه الناري رد بعنف وحدة على تصرف مجلس القضاة هو الآخر، لكن الجملة الحاسمة قالها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الغاضب «إذا ما كانوا يريدون دخول العمل السياسي فليضعوا العباءات جانبا وليتفضلوا.. لا يجوز أن يقفوا وراء سلاح القضاء للمنازلة على هذا النحو عليهم أن يسارعوا في الاختيار إما العمل القضائي وإما العمل السياسي».

البعض متمسك على ما يبدو أن يكون الحسم بالضربة القاضية والتخلي عن تسجيل النقاط في قلعة الطرف الآخر هذه المرة. هي مواجهة أهم وأكبر من أن تكون حملة للتضامن مع أبناء المهنة، هي رد فعل يحمل أكثر من رسالة وتفسير، كيف لا وجيهانير الذي فتح النار على الجماعات الدينية والطرق الصوفية في مدينة أرزنجان ورصد تحركاتها لأشهر طويلة وجمع الكثير من المواد التي قيل إنها تكشف عن حجم نفوذها وتغلغلها وقدرتها على التأثير على القواعد السياسية والاقتصادية في المدينة هو المعتقل اليوم في السجن، بينما المشتبه فيهم يسرحون ويمرحون في الخارج كما يقول بعض المتشددين المعارضين.

ومع أن مدحت سنجر الأكاديمي في كلية الحقوق بأنقرة يرى أنه من الضروري فعلا إطلاق حملة تغيير شاملة في تنظيم وبنية القضاء وأنه كان بالإمكان محاكمة المدعي العام لمدينة أرزنجان دون اعتقاله، لكن البعض كما يبدو أرادها مواجهة مفتوحة على طريقة «عليّ وعلى أعدائي»، فان الأكاديمي والكاتب، ممتازر تورك اونه، يصف عملية وقوف بعض رجال القانون وراء مجلس القضاة على هذا النحو، بأنه ألحق الضرر الكبير بمفهوم دولة القانون في تركيا غامزا من قناة صلاحيات وقدرات هذا المجلس الاستثنائية في التأثير على الجسم القضائي التركي ككل. وعلى الرغم من أن الكاتب الليبرالي طه اقيول اقترح عقد هدنة وإعادة السيوف إلى أغمادها، فإن الرئيس الفخري لمجلس القضاء الأعلى المتقاعد، ولكن الدائم الجهوزية للدخول على الخط عند الضرورة صبيح قنات أوغلو، أهم اللاعبين الحقوقيين في أزمة انتخابات الرئاسة التركية التي وقعت قبل عامين قال، إن المدعي العام في أرضروم أساء إلى وظيفته وخرج عن صلاحياته عندما أرسل الملف إلى اسطنبول، لقد كان على علم بخبر تجريده من صلاحياته، حتى لو لم يكن قد تسلم القرار بصورة رسمية، من هنا يجب ضرورة الإسراع في التحقيق بهذه القضية وتفاصيلها ومحاكمة المخالفين دون التوقف عند مواقعهم ومناصبهم، مذكرا أن أي قانون حول تنظيم شؤون السلك القضائي سيعاد إلى المجلس من قبل المحكمة الدستورية. مما دفع بالمدعي العام المتقاعد، رشاد بتك، للرد بإصرار على أنه لا يمكن إطلاق يد البعض داخل الجسم القضائي ليتحركوا على مزاجهم وبالأسلوب الذي يريدونه دون رقابة أو رادع، الحل يبقى في إصدار قانون جديد ينظم تركيبة وهيكلية القضاء في البلاد ضمن معايير جديدة أكثر توازنا واعتدالا وانفتاحا.

مواجهة تحت عنوان «حزب القضاء الأعلى» كما قال الإعلامي، امره أك أوز، وسانده في ذلك الكاتب والأكاديمي محمد التان الذي قال، كل شيء بات مكشوفا وعلنيا وماثلا أمام الأعين لا حاجة للإطالة. الإفادات والوثائق والأدلة والقرائن التي جمعت والتي هي تنتظر من يعود إليها ليعرف حقيقة ما يجري. كل شيء موثق، ونحن ننتظر المستندات التي بعث بها المدعي العام في أرضروم إلى اسطنبول مطالبا بدمجها بملفات قضية «أرغينيكون». العدالة والتنمية، الذي يشعر في الكثير من الأحيان بأنه بين فكي كماشة القضاء والجيش، يحاول المنازلة رغم معرفته أن الحسم لن يكون بهذه السهولة، فالمواجهة الأولى وقعت قبل 4 أعوام، عندما حاول المدعي العام لمدينة فان الشرقية فرحات صاري قايا، لفت الأنظار نحو أحد كبار ضباط الجيش، يشار بيوك انت، بطلب إحالته إلى المحكمة ومقاضاته، فدفع ثمن هذا الخطأ إخراجه من السلك القضائي، أما المواجهة الثانية فحسمت عندما صدر قرار المحكمة الدستورية التي عين الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سيزر معظم أعضائها بإلغاء قانون السماح بمحاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية كانت حكومة العدالة توليه أهمية كبيرة على طريق إعادة تنظيم علاقتها بالمؤسسة العسكرية أولا وإطلاق حملة إعادة تركيبة الجسم القضائي وبنيته وهيكليته ثانيا، المواجهة الثالثة التي ما زالت قائمة ولم تحسم بعد، تدور رحاها في مجلس شورى الدولة، قلعة أخرى للقوى العلمانية، التي ترفض قرارات مجلس التعليم العالي في تغيير عملية احتساب علامات المرشحين لامتحانات دخول الجامعات، وهو وعد سياسي طرحته حكومة أردوغان لإزالة حالة الغبن التي لحقت بطلاب مدارس الخطباء والأئمة والثانويات المهنية كما تقول. نقطة الاحتكاك الرابعة التي تفجرت قبل عامين تقريبا وما زالت تتفاعل وتكبر مثل كرة الثلج، سببها اعتقال عشرات الضباط والأكاديميين ورجال السياسة بتهمة تشكيل منظمة «أرغينيكون» السرية الهادفة لتحريض الجيش على تنفيذ انقلاب عسكري يطيح بحكومة العدالة ويعيد الأمور إلى سابق عهدها كما كانت عليه قبل 8 سنوات. لكن هذا لا يمنع من القول إن كوادر ونواب العدالة والتنمية هم أيضا لن يتراجعوا بهذه السهولة وإنهم خلال المواجهات يطلقون مواقف تصعيدية هجومية، كما فعل مؤخرا أحد نواب الحزب الذي قال: «تنصتوا علينا طيلة 40 عاما، وحان الوقت لنرد عليهم نحن هذه المرة» مما أغضب قيادات الحزب واستوجب إيقاظه وتوبيخه واعتبار ما قاله رأيا شخصيا لا يعكس وجهة نظر الحزب الرسمية. كل هذا يجري ويدور طبعا أمام أعين المدعي العام في مجلس القضاء الأعلى عبد الرحمن يلشن قايا الذي لن يتردد في الكشف عما في جعبته من مفاجآت قد تقود حزب العدالة والتنمية مرة أخرى للمثول أمام المحكمة الدستورية بتهمة الحظر والمنع من ممارسة العمل السياسي بعدما فشل قايا في محاولته الأولى.

سيناريو آخر سيطرح حتما على طاولة البحث والنقاش داخل تركيا في الأيام المقبلة لا دلائل ملموسة حوله ويتمركز حول معرفة إذا ما كان هناك أي دور لإسرائيل في كل هذه المتلاحقات الداخلية التركية بعدما أغضبتها حكومة العدالة والتنمية وتلاعبت بنفوذها وعنفوانها وغرورها وتركتها في حالة من السخرية والازدراء أمام الرأي العام الدولي في أكثر من مواجهة إعلامية وسياسية ودبلوماسية خلال الأشهر الماضية، هل لتل أبيب أي إصبع في تفاعل الأزمات والانقسامات والمواجهات في تركيا، ضمن خدمات تقدمها للتسريع في إزاحة العدالة والتنمية عن الحكم، وحمل شركاء جدد يعيدون المياه إلى سابق مجراها في مسار العلاقات التركية - الإسرائيلية؟

في تركيا، تتردد هذه الأيام طرفة تتساءل عن الوسيلة الأسرع لاختراق قلب الحبيبة فيأتي الجواب الساخر: سكين حادة تصوب بمهارة بين عظام القفص الصدري. هل هي الوسيلة ذاتها الواجب اتباعها لاختراق قلب النظام؟ حسابات قديمة لم يتم تصفيتها بعد، وهي لن تتوقف بمثل هذه السهولة بين جناحي العدالة والتنمية بجذوره الإسلامية، وجناح العلمانيين الذين يصرون على أن ما يجري يستهدف قلب النظام وشكله وأسسه المعلنة قبل 90 عاما.