النيجر.. انقلاب بلا دماء

الانقلاب له علاقة مباشرة بتنافس إيراني ـ أميركي على مواد طبيعية أولها اليورانيوم

TT

انقلاب النيجر الأخير هو الانقلاب، الذي سيدخل كتب «غينس» للأرقام القياسية، لكونه الأسرع في الوصول إلى غايته بأقل الخسائر والأكثر تأييدا ودعما في صفوف النيجريين، بالمقارنة بالانقلابات السابقة. سيناريو الانقلاب في غاية البساطة أمام حالة التعقيد السياسي والدستوري التي تعيشها البلاد. عملية عسكرية محدودة لم تستغرق سوى بضع دقائق لا أكثر، كما فهمنا من بعض الإعلاميين النيجريين المتابعين عن قرب، حدثت كالتالي: اجتماع حكومي موسع برئاسة الرئيس النيجري المخلوع مامادو تانجا وطلقة نارية واحدة من مسدس العقيد دجيبو، قائد الانقلاب. كانت «كلمة السر» في بدء التحركات، التي تمحورت حول اقتحام مقر رئاسة الجمهورية بقصف المدخل الرئيسي وإطلاق النار على من يرفض تسليم سلاحه. آثار القصف كانت واضحة على مدخل المبنى الرئاسي، لكن عدد القتلى بالمقارنة بسرعة الإنجاز ودقة التخطيط والتنفيذ قليلة جدا، بالمقارنة بانقلابات مماثلة تحدث في العالم. أما هدف الانقلاب، فكان حماية النيجر من تعديلات دستورية أدخلها الرئيس المخلوع تعزز صلاحياته وتبقيه في السلطة لما بعد ولايته الدستورية. قادة الانقلاب في النيجر قالوا: لا يمكن السماح لهذا بالحدوث والكثير من دول أفريقيا تتحول إلى الديمقراطية.

الكثير من رجال الأعمال والتجار أكدوا أنهم لم يشعروا بأي قلق أو خوف عند سماع خبر الانقلاب، الذي كان متوقعا بين اللحظة والأخرى، بل أشادوا بالمواقف أو التصريحات الأولى للمجموعة الانقلابية والوعود التي أطلقتها بالعودة السريعة إلى الديمقراطية، التي هددها أنصار النظام السابق وبعض أفراد أسرته، الذين شجعوه على المضي في التمسك بمقعد الرئاسة وأقحموه في هذه الورطة.

مدير المدرسة التركية يروي كيف عاشت مدرسته اللحظات الأولى للعمليات الحربية، فيقول: «كنا في قاعات التدريس في وضح النهار، سمعنا أصوات طلقات الرصاص والانفجارات القريبة، داهمنا الخوف وسارعنا لجمع الطلاب في أماكن محمية، تحققنا من الأسباب، ثم بدأنا الاتصال بالأهل ندعوهم إلى الحضور لأخذ أولادهم. لكن الكثير قال لنا إن أضمن مكان لهم هو بقاؤهم في أماكنهم ريثما تنجلي الأمور. اليوم نضحك نحن عندما نكتشف أن الكثير من أبناء الانقلابيين والمبعَدين عن السلطة على السواء هم طلابنا نحن وأنهم تحت سقف هذه المدرسة وما زالوا أصدقاء وكأن شيئا لم يقع». أكثر من استفسار وعلامة استفهام حول ما جرى أوضحها أحد كبار الضباط المتقاعدين، الذي شارك في أكثر من عملية قوات حفظ سلام دولية دعمتها النيجر. تساءلت «الشرق الأوسط»: لماذا مجموعة من صغار الضباط؟ أين قيادة الصف الأول في الجيش ولماذا لم تتحرك؟ فردّ الضابط الكبير: اطرح هذا السؤال على الرئيس المبعد والضباط أنفسهم. سألت «الشرق الأوسط» مرة أخرى: هل من المتوقع حدوث مفاجآت دراماتيكية أخرى في البلاد؟ هل يرد أنصار الرئيس المخلوع بانقلاب مضاد مفاجئ؟ رد القائد العسكري: «لا أعرف ذلك، لكن المؤشرات كلها تؤكد استبعاد وقوع مثل هذه المفاجأة. غالبية الشعب والأحزاب والقوى الاقتصادية والإعلامية أعلنت عن مساندتها المشروطة لما جرى. كانت هناك حالة احتقان كبير، وكان لا بد لنا من مخرج مناسب يضع حدا لهذا الوضع غير الطبيعي. فكانت عملية عسكرية محدودة ومحددة كما شاهدت. المهم الآن الإسراع في تسليم شؤون إدارة البلاد إلى القيادات المدنية لتتولى هي إنجاز الانتخابات العامة وإعادة تعديل الدستور، الذي بدله الرئيس تانجا كما يريد».

وكما أن تعديل الدستور كان كافيا لقيام انقلاب، فإن هناك من يتحدث عن «بعد خارجي» للانقلاب. فهل كان وراء الانقلاب أصابع دول أجنبية شاركت، بشكل أو بآخر، في التحريض أو التخطيط لحدوثه؟ الإجابة التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» من أكثر مَن تكلمت معهم هى: «كل شيء ممكن، وهذا ما سيظهر إلى العلن في الأيام المقبلة». لكن ما هو ظاهر حتى الآن هو أن الانقلاب صناعة محلية وبإرادة محلية بحتة، على الرغم من كل ما يقال ويذكر عن صفقات والتحضير لصفقات يورانيوم ونفط عالمية وقعها الرئيس المخلوع مع بعض الدول والعواصم، ومنحها فيها الكثير من الامتيازات بما يتعارض مع حسابات ومصالح بعض القوى الإقليمية والعالمية الأخرى، إيران تحديدا هي التي لها مصالح استراتيجية مع النيجر بسبب مخزونها من اليورانيوم، بل إن البعض يرى أن الانقلاب له علاقة مباشرة بولادة تكتلين دوليين يتحاربان للهيمنة على مواد النيجر الطبيعية: حلف إيراني – صيني، وآخر أميركي - أوروبي، ويبدو هنا أن الحلف الثاني هو الرابح من خلال هذه الضربة، التي لم توجه إلى الرئيس المخلوع وحده، بل إلى خياراته واستراتيجياته واستعداده لإدخال البلاد في مسار سياسي وإقليمي مليء بالحفر والعوائق. ويقال، مثلا، إن الرئيس تانجا مثلا الذي كان يعد العدة لتوسيع رقعة التعاون والانفتاح على إيران «دفع ثمن ذلك بإقصائه عن الحكم».

أحد كبار رجال الأعمال النيجريين، وهو من أصل عربي قال لـ«الشرق الأوسط»: مع الأسف، الرئيس تانجا تلاعب بالكثير من المواد الدستورية وبالإرادة الشعبية، وتجاهل الكثيرين لصالح طلبات ورغبات المحيطين به، الذين أقنعوه بأنه الوحيد والقادر على حماية التوازنات النيجرية السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية . وكان أن سارع إلى تغيير الدستور بشكل غير معهود عبر مواد جديدة مطاطة تحوله إلى رئيس يعمل للبقاء في السلطة بقدر ما يشاء، ويتصرف كما يحلو له من دون رقابة أو رادع. هو حل المجلس النيابي وغيّر قضاة المحكمة الدستورية، الذين عارضوا ما يفعل، وقاد عملية استفتاء شعبي مشبوه لصالح بقائه في الحكم. لكن الضربة الأقوى، التي دفعت غالبية النيجريين إلى عدم الصمت أمام ما يجري كانت التخلي عن تعهده أمام الشعب قبل سنوات بعدم العمل على تمديد فترة بقائه في السلطة ومغادرة مقعد الرئاسة ما إن تنتهي فترة حكمه.

أكاديمي آخر من أساتذة التاريخ المعاصر في البلاد يروي مبتسما لـ«الشرق الأوسط»: إن ما جرى ليس انقلابا بالمعنى التركي للانقلابات (أنتم تحطمون وتكسرون وتعتقلون وعندكم تطول المسائل وتتضاعف). ما جرى هنا هو مجرد عملية جراحية عاجلة. لم نكن نريد أن يتدخل الجيش لحسم المسائل لكن سياسات الرئيس السابق ومواقفه هي التي أوصلت الأمور إلى هنا».

ويبدو أن الرئيس المخلوع كان يراهن دائما على استحالة حدوث أي تدخل عسكري في الأزمة، لكون علاقاته مع قيادة الجيش العليا جيدة وكونه يلم بمجريات الأمور داخل هذه المؤسسة، لكن المفاجأة جاءته من حيث لم يتوقع، من الجيش نفسه، لكن من الصف الثاني، وهو صف لا تربطه مصالح أو علاقات قوية بالنظام.

دروس الانقلاب في النيجر تستحق فعلا التعامل معها بشكل حذر ودقيق قبل إطلاق الأحكام. فهناك، أولا، إصرار من قبل الكثير من المواطنين العاديين النيجريين على وصف ما جرى بأنه «انقلاب داخل الجيش» ضد بعض ضباط الجيش نفسه، الذين رجحوا الوقوف على الحياد أو تجاهل ما يقوم به الرئيس النيجري المخلوع تانجا، الذي هو أيضا عسكري سابق خلع بذلته، ودخل الانتخابات قبل سنوات ضمن مسار اللعبة الديمقراطية، لكنه اختار هذه المرة أساليب أغضبت الكثيرين، لأنها خرجت عن اللعبة الديمقراطية لتحقيق غاية الاحتفاظ بالسلطة. دروس الانقلاب في النيجر تستحق المتابعة أيضا، لأنه لا تعني الرئيس تانجا، وحده، بل أقرب المقربين منه، الذين حاولوا تقديم النصائح والتوصيات المغلوطة، والتي دفعته إلى اتخاذ قرارات أوصلت البلاد إلى حافة الانفجار. قد تكون النيجر بلدا فقيرا يعاني الجوع والحرمان والعوز، لكنه على الرغم من كل شيء لقننا قبل أسبوعين درسا مهما حتى في إدارة الانقلابات.. السلمية ولأهداف ديمقراطية.

ومع ذلك، فستظل صورة السيدة النيجرية التي قطعت عدة كيلومترات سيرا على الأقدام رافعة فوق رأسها حمولة كيس البطاطا وهي في طريقها إلى سوق المدينة لاستبداله بعض أرغفة من الخبز به، أهم من حسابات ومصالح وسياسات الكثير من الأنظمة والدول وخياراتها.