روسيا في الشرق الأوسط

تحتاج إلى إعادة اكتشاف صورتها إذا رغبت في توفير أكثر من اسم ومكان لاستضافة مؤتمر سلام

TT

استضافت روسيا الاجتماع الأخير للجنة الرباعية المعنية بالشرق الأوسط. وجاء لقاء هؤلاء الوسطاء الدوليين في وقت بالغ الأهمية، حيث تقود الولايات المتحدة جهود دفع عجلة محادثات غير مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي توقفت في أعقاب الإعلان الإسرائيلي عن خطط لبناء مستوطنات جديدة في القدس الشرقية. وأسفر ذلك عن تفاقم أعمال العنف مجددا بين الجانبين وتراجع العلاقات الأميركية - الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات. على الرغم من كل ذلك، لم يكن من قبيل المفاجأة أن يختتم اجتماع موسكو أعماله من دون ترك تأثير واضح على الديناميكيات الراهنة للصراع. أما العنصر الوحيد المثير للاهتمام فتعلق بفحوى المناقشات، وليس الدولة المضيفة. منذ البدء في تنفيذ سياسة أوباما، غير الناجحة حتى الآن، للتعاون من جديد في قضايا الشرق الأوسط وقراره بإعادة توجيه العلاقات الأميركية - الروسية (القرار الذي ترك حتى الآن نتائج غير واضحة المعالم)، أثيرت تساؤلات حول ما إذا كانت السياسة الروسية في الشرق الأوسط، التي بلغت طور النضوج خلال حقبة التنافس الأميركي - الروسي الجيوسياسي في ظل إدارة جورج بوش، تشهد تغيرا من أجل استيعاب الواقع الجديد في المنطقة. يعد الشرق الأوسط واحدة من مناطق العالم التي لا يزال بمقدور روسيا الاعتماد على إرثها السوفياتي مع ضمان إحراز بعض النجاح، وذلك كأداة لتعزيز نفوذها ومكانتها. ولا يزال لدى روسيا كثير من الأصدقاء في المنطقة ممن يتذكرون، بمشاعر يغلب عليها الحنين، برامج المساعدات السوفياتية والتعاون مع الاتحاد السوفياتي الذي مس حياة كثيرين. حتى أولئك الذين لم يكونوا من المنتفعين من التعاون السوفياتي رحبوا بذلك الوضع في ظل وجود قوتين عظميين تسعيان لكسب نفوذ إقليمي، مما خلق بالتالي توازنا في النفوذ بينهما ومساحة للدول الإقليمية للتأكيد على مصالحها من خلال استغلال هذا التنافس. جاء انهيار الاتحاد السوفياتي ليزيح هذا التوازن من المنطقة. لكن على خلاف الحال مع أوروبا، حيث أعقب ذلك تحرك حلف «الناتو» وتوسيع الاتحاد الأوروبي لسد الفجوة، تسبب الواقع الجديد في الشرق الأوسط القائم على وجود قوة عظمى واحدة مهيمنة على إثارة مزيد من القلاقل والصراعات بالمنطقة. وعليه، لاقت عودة روسيا إلى الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة من رئاسة فلاديمير بوتين ترحيبا من جانب كثيرين داخل الشرق الأوسط، على الرغم من عجز كثيرين عن تحديد توقعاتهم المرتبطة بمشاركة روسيا الجديدة في حقبة ما بعد السوفياتية في المنطقة. وشرعت روسيا في إعادة بناء، وإن كانت على نحو أكثر براغماتية بكثير وبعيدة عن النهج الآيديولوجي السابق المميز لها، شراكاتها القديمة مع سورية وليبيا والفلسطينيين. واستأنفت روسيا تنافسها التقليدي مع الولايات المتحدة، الذي انعكس في صورة معارضة روسيا للحرب العراقية ومعارضتها لأجندة جورج بوش الابن لتعزيز الديمقراطية، وكان من شأن هذين الموقفين ترك أصداء إيجابية لصالح روسيا في مختلف جنبات الشرق الأوسط. وفي استعراض للتوجه الانفرادي القوي الجديد لموسكو، توجه الرئيس بوتين لزيارة قادة منطقة الخليج في أعقاب توجيهه نقد حاد للسياسة الأميركية في مؤتمر ميونيخ للأمن. في الواقع، باستثناء العراق - الذي تسبب هو الآخر في إلحاق الضعف بـ، بدلا من تعزيز قبضة واشنطن ومصداقيتها بالمنطقة - عمدت روسيا إلى ممارسة الضغوط. وجاءت دبلوماسيتها النشطة في المنطقة في مواجهة سياسة أكثر سلبية لإدارة بوش التي عمدت إلى تجنب الوقوع في شرك عملية السلام في الشرق الأوسط. في مناسبات نادرة، عندما كان من الضروري ممارسة ضغوط دولية - مثلما الحال لدى شن إسرائيل هجمات ضد لبنان - اتخذت روسيا موقفا هامشيا ولم يعد إسهامها - المتمثل في وحدة من الشيشانيين أرسلت للمساعدة في إعادة بناء الجسور - محاولة على صعيد العلاقات العامة لتعزيز صورتها. كما ظل التناقض مهيمنا على العلاقات الروسية - الإسرائيلية، مع ممارسة إسرائيل قدر أكبر بكثير من النفوذ على روسيا عما عليه الحال في الاتجاه المعاكس. المثير أنه في الوقت الذي شكل الإرث السوفياتي نقطة عودة دخول مهمة مع بعض الدول العربية، فإنه كان عاملا مهما ساعد في إحداث تحول في العلاقات الروسية الإسرائيلية، التي اتسمت بالعداء خلال الحقبة السوفياتية. ويشكل ملايين اليهود الذين كانوا يعيشون سابقا في الاتحاد السوفياتي وانتقلوا الآن للعيش داخل إسرائيل ولا تزال تربطهم صلات بالوطن الأم السابق، مصدرا ضخما محتملا للنفوذ الروسي. بيد أن المشكلة هنا تكمن في أن كثيرين منهم يميلون للتحلي بتوجه أكثر محافظة بكثير تجاه عملية السلام عن الحكومة الروسية. وللأسف، ارتبطت السياسة الروسية بدرجة أكبر على نحو متزايد بالعناصر المتشددة. إضافة إلى ذلك، يوجد لدى روسيا قدر أكبر من المصالح الاقتصادية داخل إسرائيل عما عليه الحال في الاتجاه المقابل. الملاحظ أن كثيرا من الأثرياء الروس لديهم روابط، أو منازل ثانية، داخل إسرائيل، ويزور آلاف الروس إسرائيل سنويا في ظل اتفاق جديد أبرم عام 2008 يخول لهم دخول إسرائيل من دون الحصول على فيزا. ويتمثل عماد آخر من الأعمدة التي تعتمد عليها العودة الروسية إلى الشرق الأوسط في علاقات روسيا مع - أو نفوذها على - إيران. الملاحظ أن العلاقات الروسية - الإيرانية، على الرغم من أنها تضرب بجذور عميقة في مشاعر شك وريبة تاريخية وسخط متزايد في الجانبين، فإنها بقيت متحلية بطابع ودي وبراغماتي على امتداد الحقبة ما بعد السوفياتية بأكملها. وجعل ذلك من روسيا، وهي عضو بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وسيطا قيما في إطار كثير من الجهود الدولية الرامية لفضح وكبح جماح الأطماع النووية الإيرانية، التي تتولى واشنطن حاليا قيادة الجزء الأكبر منها. المعروف أن كثيرا من دول الشرق الأوسط تنظر إلى هذه الأطماع باعتبارها مصدر تهديد. وقد سعدت روسيا بتعزيز دورها المحتمل كوسيط في التعامل مع إيران. إلا أن المشكلة تكمن في عدم توافر أدلة واضحة حول امتلاك موسكو بالفعل نفوذا داخل طهران، خاصة في ما يتعلق باللعبة النووية المعقدة التي تخوضها الأخيرة. في الواقع، ظلت روسيا معتمدة لسنوات، بما في ذلك صناعتها النووية المدنية والدفاعية، على طلبات الشراء الإيرانية. وعلى الرغم من أن هذا الاعتماد المالي لم يعد مهما لموسكو الغنية بالنقد حاليا، فإنه من الناحية النفسية لا يزال القلق يساور موسكو إزاء إمكانية تعمد إيران خلق صعوبات أمامها داخل منطقة القوقاز وبحر قزوين ووسط آسيا، مما يدفعها نحو تفضيل عدم إثارة حالة من العداء الشديد مع طهران. وفي ظل انخراطها أو إعادة انخراطها في الشرق الأوسط، بذلت روسيا جهودا دؤوبة لتصوير هويتها باعتبارها جزءا من العالم الإسلامي، حيث قاد بوتين الجهود الروسية الرامية للفوز بوضع مراقب داخل منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي خطاب الرئيس ميدفيديف في القاهرة أمام اجتماع لوزراء خارجية جامعة الدول العربية - الذي تصادف إلقاؤه في غضون أيام قلائل من إدلاء الرئيس أوباما بخطابه الشهير في القاهرة - جرت الإشارة إلى أن الرئيس الروسي ليس «بحاجة إلى السعي لبناء أواصر صداقة مع العالم الإسلامي» لأن الروس المسلمين البالغ عددهم 20 مليون نسمة يشكلون، تبعا لما يراه ميدفيديف، «جزءا جوهريا من هوية روسيا». ومع ذلك، لا يزال الشرق الأوسط غير مقتنع بهذا الأمر بالنظر إلى أعمال العنف الروسية بحق المسلمين في الشيشان وأجزاء أخرى من شمال القوقاز، التي كانت ولا تزال واحدة من الأدوات الرئيسة التي يستغلها تنظيم القاعدة في حشد مجندين من الأجيال الجديدة من المسلمين في المنطقة. وعلى الرغم من إصرار الدول الإقليمية على تأييدها روسيا في جهودها للحفاظ على وحدة أراضيها، فإنها بقيت متعاطفة مع مأساة المسلمين في الشيشان، خاصة أن شتاتا ضخما ممن فر أسلافهم من غزو روسيا الإمبريالية في القرن التاسع عشر لشمال القوقاز لا يزالون يعيشون في الشرق الأوسط. وكان قرار روسيا فتح قناة حوار مع حماس في أعقاب انتصارها الانتخابي إحدى السبل لإقناع العناصر الإقليمية المتشككة بأنها جادة في حديثها إلى العناصر الراديكالية إذا ما كان لديها ادعاء مشروع للمطالبة بالسلطة. ومع ذلك، فإن قادة حماس على الرغم من الاستفادة الكبيرة التي جنوها من وراء دعوة روسيا للحوار في وقت رفضت باقي الدول الغربية وإسرائيل التعاون معهم، فإنهم ظلوا مترددين حيال قبول روسيا كوسيط مفضل لديهم. في الوقت الذي شكلت فيه عودة روسيا إلى الشرق الأوسط في ظل قيادة بوتين تحولا هائلا مقارنة بغياب روسيا الذي استمر على امتداد عقد كامل، فإن قدرة موسكو على الإبقاء على، ناهيك بفرضها، مواقفها كقوة إقليمية في ظل البيئة الجيواستراتيجية المتبدلة بسرعة الجديدة بقيت أمرا مشكوكا فيه على نحو متزايد. وكان من شأن وصول أوباما إلى الرئاسة إحداث تحول ضخم في السياسة الأميركية مقارنة بما كانت عليه الحال في ظل إدارة بوش، حيث عمدت الولايات المتحدة مجددا إلى المشاركة في عملية السلام في الشرق الأوسط، وأبدت خلال تلك الفترة استعدادها لانتقاد إسرائيل بسبب سياساتها الاستيطانية. ومع أن واشنطن لم تحرز تقدما كبيرا بعد، ولم تنجح ضغوطها على حكومة نتنياهو، فإنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة سترحب بالفعل بالحراك الروسي. من بين السبل الأخرى المحتملة كي تترك بصمتها المميزة على المنطقة هو أن تتحول روسيا إلى عنصر اقتصادي مهم في المنطقة. إلا أنه ينبغي التأكيد على أنه سيكون من العسير للغاية أن تكافئ روسيا حجم المساعدات الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لدول المنطقة، خاصة في ضوء الأضرار الشديدة التي لحقت باقتصادها جراء الأزمة المالية العالمية، حيث تراجع إجمالي الناتج الداخلي الروسي عام 2009 بنسبة قاربت 8%. على الرغم من أن روسيا لم تعد تعاني من ركود، فإنها لا تزال عرضة للهزات الاقتصادية. وبدلا من أن تكون قوة اقتصادية عظمى في الشرق الأوسط، من الملاحظ أن روسيا ذاتها تعتمد على نحو متزايد على المنطقة لمساعدتها في تجنب التعرض لأزمة مستقبلية. وتوفر دول الشرق الأوسط سوقا مهمة للصناعة الدفاعية الروسية المثقلة بالأزمات. في ظل هذه الظروف، يجري النظر مجددا إلى روسيا باعتبارها أضعف حلقة داخل اللجنة الرباعية للشرق الأوسط. ومن المحتمل أن تكشف الأزمة الإيرانية الوشيكة حدود النفوذ الروسي بدرجة أكبر. وفي الوقت ذاته، فإن القوى الجديدة - خاصة تركيا - التي تتبع سياسة شاملة في المنطقة ترمي لأن تحل محل موسكو بين قوى الوساطة المهمة في الشرق الأوسط. إن روسيا بحاجة إلى إعادة اكتشاف صورتها إذا ما رغبت في توفير أكثر من مجرد اسم ومكان لاستضافة مؤتمر سلام للشرق الأوسط.

* باحثة في المعهد الدولي للدراسات الاستراتجية