ستيفنز.. صوت الدستور

عاصر 7 رؤساء أميركيين.. وأصبحت فترة عمله رابع أطول فترة في تاريخ المحكمة العليا الأميركية

القاضي جون بول ستيفنز
TT

بعد 35 عاما من العمل في أحد أبرز المناصب الأميركية، يستعد القاضي جون بول ستيفنز للتقاعد من المحكمة العليا الأميركية. وعلى الرغم من أنه يحتفل بعيد ميلاده التسعين الأسبوع المقبل، فإن هذا القرار لم يكن سهلا على رجل عاصر 7 رؤساء أميركيين، وتمسك بعمله حتى مع تقدم عمره، لتصبح فترة عمله رابع أطول فترة في تاريخ المحكمة العليا الأميركية. ومع أنه أعلن تقاعده الأسبوع الماضي، فإن ستيفنز سيواصل عمله في المحكمة العليا حتى بداية شهر يوليو (تموز) المقبل مع انتهاء الدورة الحالية للمحكمة.

وبعد عيد ميلاد الـ90، الذي يصادف 20 أبريل (نيسان) الحالي، بيوم واحد، يستقبل أوباما قياديين جمهوريين وديمقراطيين في البيت الأبيض للبحث عن مرشح أو مرشحة لشغل مقعد القاضي التاسع في المحكمة العليا. ويؤكد البيت الأبيض أن الخيار لن يكن سهلا بسبب تاريخ ستيفنز العريق، وحنكته في تفسير الدستور الأميركي تطابقا مع المتغيرات الاجتماعية للبلاد. ووصف أوباما ستيفنز بـ«البارع وغير الآيديولوجي والبراغماتيكي وملتزم أكثر من أي شيء آخر بالعدالة والكرامة وسيادة القانون». وعدم تمسك ستيفنز بآيديولوجية محددة ربما أبرز خصاله التي جعلته يصف نفسه حتى وقت قريب بأنه جمهوري، ولكن في الوقت نفسه يعتبر قائد القضاة الليبرالي مع تفسيراته الليبرالية للدستور الأميركي. وقال الصحافي جيفري توبين، الذي قابل ستيفنز مرات كثيرة، بأن القاضي «وصف نفسه بالجمهوري» عند توليه منصبه في المحكمة، إلا أن توبين سأله مجددا إذا كان جمهوريا مؤخرا، لكن الأخير رفض الإجابة.

وقال أوباما عن ستيفنز إنه «يترك منصبه وهو في مقدمة عمله.. سنشتاق إلى قيادته بشدة». ويذكر أن ستيفنز أكبر عضو في المحكمة العليا، تليه بعد روث جينسبرغ، التي تحتفل بعيد ميلادها الـ77 هذا العام، مما يجعله يمثل جيلا سابقا من القضاة، ولكنه أيضا جيل عاش خلال فترات صعبة، مثل الحرب العالمي الثانية وحرب فيتنام ونكسات سياسية عدة، وهي صفحة تنطوي مع تقاعده. كما أن ارتداءه ربطات العنق التقليدية وطريقة كلامه المشهورة بأدبه ولقبه يجعله من بين جيل سابق من رجال الولايات المتحدة القدامى.

يذكر أن قضاة المحكمة العليا يبقون في مناصبهم بعد تعيينهم مدى الحياة، إلا في حال قرروا الاستقالة، ولهذا عادة ما يبقى القضاة في مناصبهم حتى عمر متقدم. ويعتبر النظام الأميركي أن هذه قضية أساسية لمنع تأثير الساسة والرؤساء على القضاة بالإضافة إلى إعطائهم استقرارا عمليا وفكريا.

إلا أن ستيفنز قرر الاستقالة بعد تقدم عمره ولمنح أوباما فرصة التفكير في بديل مناسب له وتعيينه، بدلا من ترك الأمور لظروف غير معروفة في حال توفي ستيفنز. وفي مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» بداية الشهر الحالي، وقبل إعلانه قرار التقاعد، قال ستيفنز: «يمكنني أن أقول بأنني أعشق عملي، وقراري حول إذا ما كنت سأترك هو قرار صعب جدا»، مضيفا: «أريد أن أتخذ قرارا بأفضل طريقة ممكنة للمحكمة». وتصريح ستيفنز هذا يعتبر أكبر دليل على طريقة عمل ستيفنز، الذي عرف بأسلوبه المهذب ومعالجته للقضايا الطريقة التي يراها تخدم المصلحة العامة بشكل عام. وخدمة المصلحة العامة لم ينحصر فقط في مجال القضاء.

وعلى الرغم من شهرته في الأوساط السياسية بعد وصوله إلى المحكمة العليا، فإن ستيفنز خدم بلاده لسنوات كثيرة قبل ذلك، وبخاصة خلال خدمته في البحرية الأميركية التي انضم إليها قبل هجوم اليابان على الولايات المتحدة في «بيرل هاربر» بيوم واحد. والمزج بين خبرته العسكرية والقضائية جعل ستيفنز نادرا، كما أنه دخل إلى المحكمة العليات في ديسمبر (كانون الأول) 1975، عندما كانت الولايات المتحدة قد اهتزت سياسيا بعد فضيحة «ووتر غيت»، التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون. وقد رشحه إلى المنصب الرئيس جيرالد فورد، الذي وصفه بأنه «يخدم بلاده بشكل جيد، بكرامة وذكاء ومن دون انحياز سياسي».

واهتمام ستيفنز بالقضاء لم يأت فجأة، فوالده كان محاميا كما كان شقيقيه الأكبر منه. وستيفنز، الذي ولد في مدينة شيكاغو، ترعرع فيها ودرس في مدارسها. وتخرج عام 1941 في جامعة شيكاغو، بعد أن حصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية التي يعشقها، مع تأثير والدته التي كانت معلمة، كما أنه أراد أن يتخصص في اللغة الإنجليزية من خلال الحصول على شهادة الماجستير. إلا أنه غير رأيه مع تفاقم الحرب العالمية الثانية، وفي 6 ديسمبر 1941 التحق بالبحرية، وبعدها بيوم كان هجوم «بيرل هاربر»، الذي جعله يخدم في الحرب العالمية الثانية. وبسبب ذكائه وقدرته على حل الألغاز، اختص ستيفنز حينها بفك الشفرة والاستخبارات، ليحصل على ميدالية لمهاراته في فك الشفرة.

وبعد انتهاء الحرب، عاد ستيفنز إلى شيكاغو المحببة إلى قلبه عازما مواصلة دراساته العليا، إلا أن أخيه المحامي روبرت ستيفنز أقنعه بالتوجه إلى المحاماة، فحصل على شهادة المحاماة عام 1947 بدرجة شرف لتصبح المحاماة عمله الرئيسي حتى عام 1970، حين عينه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قاضيا في محكمة استئناف، قبل أن يعينه الرئيس فورد في المحكمة العليا عام 1975. وكانت قضية أساسية في عام 1969 قد لفتت انتباه نيكسون لتعيينه في محكمة الاستئناف، وهي عمل ستيفنز على مكافحة الفساد في شيكاغو خلال تحقيقه في قضية وصلت المحكمة العليا في ولاية إلينوي. وبدأ ستيفنز عمله في المحكمة وهو يدون بيانات ويراقب عمل باقي القضاة، منتظرا الحصول على الخبرة الكافية، وبناء سمعته بين أعضاء المحكمة الثمانية الآخرين قبل أن يحدد مسارا خاصا به في المحكمة.

وعادة ما يشتهر قضاة المحكمة العليا الأميركية بحسب القضايا الرئيسية التي يؤثرون عليها، وفي حالة ستيفنز فإنها كثيرة، وبخاصة مع تقدمه في المحكمة وممارسته الطويلة فيها. ومنذ تسعينات القرن الماضي، عرف ستيفنز بميوله الليبرالية، وبخاصة في الدفاع عن الفصل بين الدين والسياسة، بالإضافة إلى حماية الحقوق المدنية والبيئة. إلا أن ستيفنز يقول إنه لا يعتبر نفسه يساريا، بل «متوسط» الميول، بناء على تفسير الدستور. إلا أن المعارضين اليمينيين يعتبرونه يساريا، أو على الأقل ليبراليا. وعدم تمسك ستيفنز بتوجه سياسي حزبي محدد لم يمنعه من إعطاء آراء سياسية مهمة، أبرزها موقفه من قرار المحكمة العليا فيما يخص سباق الانتخابات الأميركية المثيرة للجدل بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ونائب الرئيس الأميركي السابق إل غور. وكتب بيانا شديد اللهجة بعد حكم المحكمة لصالح بوش ورفض إعادة عد أصوات ولاية فلوريدا في انتخابات عام 2000، قال حينها إن قرار المحكمة يظهر «فقدان الثقة في عدم انحياز وقدرة القضاة في الولاية الذي سيتخذون القرارات الخطيرة في حال تم إعادة عد الأصوات». وأضاف أن «مصادقة هذا الموقف من غالبية (قضاة) هذه المحكمة لا يمكن إلا أن يزيد من آراء التقييم الأكثر سخرية لعمل القضاة في كافة أنحاء البلاد»، معتبرا أن «الوقت سيشفي الجرح لتلك الثقة من جراء قرار اليوم، ولكن هناك أمرا واحدا مؤكدا. على الرغم من أننا قد لا نعلم باليقين القاطع هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية، فإن هوية الخاسر واضحة تماما، فهي ثقة الوطن في القاضي كوصي على سيادة القانون». وهذا التقييم اللاذع لقرار المحكمة التي كان يسيطر عليها الجمهوريين أصبح من أشهر مواقف ستيفنز في وقت لم يجرؤ عدد من القضاة على إظهار رأي مختلف. وقبل عامين، خاض ستيفنز بشكل لافت في نقاش حول قوانين الإعدام في البلاد، معلنا مطالبته بتحديد استخدام لعقوبة الإعدام بسبب «الخطر الحقيقي من الخطأ».

كما أن ستيفنز يعتبر قائد القضاة في المحكمة العليا الذين عارضوا معاملة إدارة بوش السابقة للمعتقلين في سجن غوانتانامو. وكان ستيفنز من أكبر المطالبين بإعطاء المعتقلين حق المثول أمام المحكمة. وفي القضية «رسول مقابل بوش» عام 2004، وجد ستيفنز أن من حق المعتقلين في السجن العسكري تحدي قرار اعتقالهم في المحكمة الفدرالية. ليلي ذلك رأيه عام 2006 في قضية «حمدان ضد رامسفيلد» لرفض المحاكم العسكرية كالوسيلة الأفضل لمحاكمة المعتقلين في غوانتانامو.

ومن جهة أخرى، أبقى ستيفنز حياته الخاصة خاصة جدا، وربما ذلك يفسر لماذا فقط 1 في المائة من الأميركيين الذين سئلوا عن تسمية أعضاء المحكمة العليا استطاعوا تذكر اسم ستيفنز، إذ يبقى بعيدا عن الأضواء ما عدا حالات نادرة، مثل رأيه في انتخابات الرئاسة عام 2000. وفي الأوقات التي لا يعمل فيها ستيفنز في واشنطن، يقيم في فلوريدا في منطقة هادئة حيث يتابع آخر تطورات القضايا المهمة في البلاد ويمارس هواياته، أبرزها الرياضة. ويبتعد ستيفنز عن إلقاء المحاضرات أو حضور الحفلات المرموقة في واشنطن، مفضلا إبقاء حياته الخاصة على بعيدة عن الأضواء، مما يقول المقربون منه إنه يساعده على الإبقاء على نشاطه وحيويته، على الرغم من دخوله عقده التاسع. ويتمتع ستيفنز بصحة جيدة، ولسبب رئيسي هو اهتمامه بصحته وممارسته للسباحة ورياضة كرة المضرب، وتعتبر العائلة مهمة في حياة ستيفنز الذي تزوج المرة الأولى إليزابيث جين شيرين عام 1942، وهو ما زال يخدم في البحرية إلا أنه قرر طلاقها بعد 37 عاما في عام 1979، ليتزوج ماريان مولهولند سايمن في العام ذاته. وما زال ستيفنز متزوجا ماريان التي يلعب معها لعبة «بريدج» في ورق اللعب في ناد محلي في فلوريدا. ولديه 4 أولاد، جون جوسف وكاثرين وإليزابيث وسوزان. ومع تقاعد ستيفنز، على أوباما أن يبحث عن شخصية مثله، تعتبر فريدة من حيث عدم الانحياز إلى حزب معين، والالتزام بروح الدستور الأميركي، وهي الصفة الأبرز للمحكمة العليا الأميركية.