25 عاما على البريسترويكا.. ضياع الحلم والدولة

غورباتشوف مؤسس مفهوم «إعادة البناء» في الاتحاد السوفياتي السابق

ميخائيل غورباتشوف (نيويورك تايمز)
TT

من منا لا يذكر «البريسترويكا» و«الجلاسنوست»؟ كلمتان أودعهما ميخائيل غورباتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي، خطته للتغيير التي أعلنها في ربيع 1985 وتعني الأولى «إعادة البناء»، أما الثانية فتعني «العلانية». بهما أراد غورباتشوف إصلاح ما أفسده سابقوه. في الذكرى الـ25 لـ«البريسترويكا» التي تصادف الشهر الحالي، نعود بالتاريخ قليلا لنتذكر ما أراد غورباتشوف أن يحققه من خلال هاتين الكلمتين الشعارين.

استشعر الملايين من أبناء الاتحاد السوفياتي الأمل في مستقبل يليق بدولة عريقة التاريخ تشغل مساحتها سدس مساحة العالم، وتملك من مقدراته وثرواته الطبيعية ما يزيد على ثلاثين في المائة. كانت البداية عاصفة اقتلعت كثيرا من مخلفات الماضي، وكسرت كثيرا من المفاهيم الجامدة ورسمت ملامح ثورة سرعان ما ترامت أصداؤها إلى ما وراء الحدود لتعصف أيضا بكثير من أركان النظم القائمة في بلدان أوروبا الشرقية.

كان غورباتشوف جاء إلى موسكو من ستافروبول في شمال القوقاز في نهاية سبعينات القرن الماضي، بتوصية من يورى آندروبوف رئيس جهاز المخابرات السوفياتية (كي جي بي) الذي وقف وراء تصعيده عضوا في المكتب السياسي ليكون الأقرب إليه بعد توليه زعامة الحزب في نوفمبر (تشرين الثاني) 1982 خلفا لسلفه ليونيد بريجنيف. وحين فارق الحياة بعد أقل من عام ونصف العام، ولم يمهل الزمن خلفه قسطنطين تشيرنينكو طويلا، سقطت «السلطة» بين يدي ميخائيل غورباتشوف ليبدأ مسيرته العملية متسلحا بقرارات المؤتمر السادس والعشرين للحزب في مارس (آذار) 1985 الذي انتخبه أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفياتي، ليكون أصغر أمنائه في تاريخه المعاصر. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، أعلن غورباتشوف في اجتماع اللجنة المركزية للحزب عن ضرورة «إعادة البناء». قال بـ«ضرورة التمسك بتقاليد لينين وبعدم التفريط في خططه السياسية الحزبية وتنمية الاشتراكية المتطورة». أصدر كتابه الذي أذهل الداخل والخارج «البريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا وللعالم». وأضاف غورباتشوف أن البريسترويكا تجسيد للمبدأ الاشتراكي: «من كل حسب طاقته ولكل حسب مجهوده». أكد أن «الاشتراكية والديمقراطية شيئان لا ينفصمان، وأن جوهر البريسترويكا يتلخص في أنه يجمع هذين الشيئين، ويبعث نظريا وعمليا النظرية اللينينية للبناء الاشتراكي». وكان سبق وقال في لقاء مع كبار رجال السياسة والثقافة من مختلف أنحاء العالم الذين دعاهم إلى موسكو في عام 1987: «إننا لا نتخلى عن قيمنا وعما نؤمن به، وعما أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن. كل ما في الأمر أننا اكتشفنا سوء استخدامنا لم يوفره نظامنا لتطوير الاقتصاد والنظام الاجتماعي.. اكتشفنا حدوث التشوهات التي لا تتفق مع القيم الاشتراكية». قال إنها كانت «تستهدف تغيير الداخل وتعديل أنماط تفكير الخارج، ولم تكن سوى تعبير عن عدم الرضا عن الإخفاقات الاقتصادية. إنها تنبع من إدراك واقع عدم الاستفادة الكافية من الإمكانيات الهائلة للاشتراكية». هكذا كان الزعيم على قناعة من أن الاشتراكية نظام سياسي واقتصادي يجب الاعتماد عليه للتطوير والبناء وإصلاح ما أفسده سوء التطبيق.

أكد في البداية أن البريسترويكا ثورة على الفكر القديم وانقلاب على السلبيات من دون الخروج عن الخط الفكري السابق. قال إن الاشتراكية تحولت إلى كيان دولي بالغ القوة وعنصر من أهم عناصر السياسة العالمية. كما راح يردد أن الاشتراكية تتميز بكونها نظاما يعلم الآخرين دراسة مشكلاتهم ودرء الأزمات والحيلولة دون انفجارها. ولم يكتف بذلك؛ بل أضاف أن «النظام الاشتراكي يقف راسخا في الساحة العالمية، بينما تزداد، استنادا إليه، القدرات الاقتصادية للبلدان الاشتراكية وتسمو بالقدرات الروحية للإنسان».

ولوضع شعاراته حيز التطبيق استهل غورباتشوف فترة حكمه بـ«غربلة» المكتب السياسي وإقالة بعض أعضائه كما سهل الزمن المهمة للتخلص من البعض الآخر من واقع تقدم العمر. وكانت النتيجة رحيل أكثر من نصف عدد الأعضاء القدامى، وفي مقدمتهم آندريه جروميكو عميد الدبلوماسية السوفياتية الذي كان تولى مهمة ترشيح غورباتشوف لزعامة الحزب، ورومانوف أمين الحزب في لينينغراد الذي كان أحد أبرز المرشحين للخلافة قبل غورباتشوف. أعاد غورباتشوف أيضا بنيان فريقه الذي توسم فيه الصلاحيات المناسبة لتنفيذ ما طرحه من شعارات. كانت فرصة للتخلص من مناوئيه وتصعيد رفاقه الجدد؛ بل ووجد النصير في الفرقاء الذين سرعان ما تبنوا توجهات الانفصال، وفي مقدمتهم الفرقاء من ليتوانيا وأوكرانيا. شكلت ليتوانيا جبهة «سايوديس» بزعامة فيتاوتاس لاندسبيرجس أول رئيس لليتوانيا بعد الاستقلال، وحركة «روخ» في أوكرانيا التي وقعت مع بوريس يلتسين في روسيا وشوشكيفيتش في بيلاروس وثيقة «بيلافجسكويه بوشا» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وهي الوثيقة التي كانت الأساس القانوني الذي استند إليه الآخرون في إعلان الانفصال بعد أيام قليلة من هذا التاريخ.

ونعود إلى الأصدقاء الذين أراد غورباتشوف الاعتماد عليهم في مسيرة التحول والتطوير؛ وكان في مقدمتهم يجور ليجاتشوف المسؤول عن قطاع الآيديولوجيا، وألكسندر ياكوفليف المسؤول عن الإعلام، ونيكولاي ريجكوف الذي أوكل إليه رئاسة الحكومة السوفياتية، ثم بوريس يلتسين الذي جاء به من مقاطعة سفيردلوفسك (حاليا يكاتيرنبورغ) ليعهد إليه بشؤون العاصمة موسكو. ولم يمض من الزمن سوى القليل حتى اختلف الرفاق. كان يلتسين أول من أعلن استقالته احتجاجا على الوتيرة البطيئة للتغيير وإن ظل متمسكا بالاشتراكية نهجا وسبيلا إلى الإصلاح ومن دون إعلان القطيعة مع الحزب الشيوعي، الذي اضطر لاحقا وبعد بضع سنوات إلى الرحيل عنه. أما ليجاتشوف فقد أبعده غورباتشوف إلى قطاع الزراعة وهو المنفى التقليدي لمن كان يريد الحزب التخلص منه، بينما لحق به ريجكوف بعد إقالته من منصبه كرئيس للحكومة السوفياتية ليودع آلامه ويعبر عن خيبة آماله في كتابه الذي اختار له عنوان «البريسترويكا.. تاريخ خيانة». أما عن ماهية هذه الخيانة فقد اعترف بها غورباتشوف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حين قال إنه «صار على يقين من أن بناء النظام الاشتراكي مسألة غير واقعية، وأن هذه القضية مشروع مفتعل طوبوي شأن طوبوية الشيوعية التي فرضتها الدكتاتورية»، وإن عاد مجددا ليؤكد أنه كان من الممكن الإبقاء على الاتحاد السوفياتي بنظامه الاشتراكي. ولعل مثل هذه التقلبات والخلافات التي عصفت بأعضاء الفريق الواحد لم تكن إلا لتترك آثارها على المسيرة التي تعثرت وتجلت سلبياتها في تردى الأوضاع الاقتصادية، واختفاء السلع الأساسية، وانهيار دعائم البنية الأساسية للدولة السوفياتية، وانصراف الزعيم إلى الاهتمام بالخارج الذي أمطره بكثير من الثناء والمديح من دون اعتبار لتعثر خطواته في الداخل.

أسباب الفشل كثيرة؛ وأهمها أنه اعتمد منطق التجربة والخطأ، واستهل نشاطه بمحاولات الإصلاح السياسي قبل الإصلاح الاقتصادي على عكس ما فعلت وتفعل الصين تحت قيادة حزبها الشيوعي. كان تسرعه واضحا حين اقترح إلغاء المادة السادسة من الدستور التي تقول بالقيادة والصدارة للحزب الشيوعي في كل مناحي الدولة قبل العثور على البدائل التي تكفل الحفاظ على المقاليد الفعالة لإدارة الدولة. ولذا، كان طبيعيا أن ينفرط عقد القيادة الحزبية وآليات الإشراف على كل مؤسسات الدولة بما فيها القوات المسلحة. تعجل الزعيم إطلاق آليات الحريات الديمقراطية من دون مراعاة لأبعاد الصراعات القديمة والجديدة التي كان معظمها يتسم بطابع قومي. وكان مؤتمر نواب الشعب في عام 1989 فرصة مناسبة لتأجيج هذه الصراعات وظهور النجوم الجدد الذين تزعموا لاحقا الحركات الانفصالية. وبدلا من أن يكون المؤتمر ساحة مناسبة لتبادل الآراء والبحث عن الحلول من أجل إنقاذ الدولة ووضع التصورات اللازمة لتعديل بنود المعاهدة الاتحادية، انصرف نوابه كل إلى أجندته الخاصة. وكانت «مجموعة النواب الإقليمية» برؤسائها المناوبين؛ يلتسين وسوبتشاك وساخاروف وبوبوف، مقدمة لظهور مجموعات المعارضين من جمهوريات البلطيق الذين تزعموا حركات الانفصال في بلدانهم، التي جاءت مواكبة لاندلاع الصراعات والمواجهات الدموية في تبيليسي وباكو وعدد من مناطق آسيا الوسطى. وقد استغل هؤلاء الإضعاف المتعمد لقبضة الدولة وتراجع تسلط مؤسساتها الأمنية لتأجيج الميول القومية لدى شعوب هذه الجمهوريات التي سرعان ما خرجت إلى الشارع تعلن رفضها واحتجاجها على تدهور الأوضاع الاقتصادية وتطالب بمزيد من الحريات. وقد اعترف غورباتشوف بوقوع الملايين من المواطنين في براثن العوز والحاجة، وتدهورت قطاعات الصحة والتعليم، وتحولت الدولة العظمى إلى الاعتماد على صادراتها من الطاقة والمواد الخام شأن أي دولة من دول العالم النامي؛ مما كان أفضل تربة لازدهار الفوضى واندلاع الاضطرابات.

وكان الزعيم السوفياتي السابق اعترف في كتابه «الانقلاب» الذي قمت بترجمته ونشرته «الشرق الأوسط» في أعقاب انقلاب أغسطس (آب) 1991، أنه، وحين اختلى بنفسه، في منتجع «فوروس» (الذي حدد الانقلابيون فيه إقامته في شبه جزيرة القرم) خلص إلى أنهم لم يدركوا في الوقت المناسب مدى طول الطريق الذي يتحتم عليهم اجتيازه وماهية التغييرات العميقة المطلوبة. قال إن الأخطاء تلخصت في عدم تأمين التوقيتات المناسبة لما يتخذونه من قرارات، وأشار إلى أنهم كانوا يتأخرون أحيانا ويتسرعون تارة أخرى من دون تفكير في العواقب. اعترف بما أجمع عليه كثيرون بأنه قام بتدمير الأشكال والآليات القديمة قبل تشييد الجديد منها، وهو الخطأ نفسه الذي عاد بوريس يلتسين وارتكبه في حق روسيا حين أقدم على إلغاء القوانين القديمة قبل تشريع البديل لها فتحولت البلاد وثرواتها إلى لقمة سائغة في أيدي حفنة من المضاربين المحليين والأجانب. وردا على اتهام غورباتشوف بأنه وقع أسير «فكرة البريسترويكا» استجابة لمؤامرة يهودية ماسونية، قال إن «ذلك كله يمكن إدراجه في خانة الشيزوفرينيا السياسية» وهو ما يبدو أيضا قفزا على الواقع ومحاولة لتبييض صفحات سوداء كثيرة. فليس سرا أن اليهود كانوا على رأس المجموعة التي قامت بـ«ثورة» أو «انقلاب» أكتوبر (تشرين الأول) 1917 (لم تعد للتسميات اليوم أهمية)، ومنهم الزعيم فلاديمير لينين (أوليانوف) ورفاقه تروتسكي (برونشتين) وكامينيف (روزينفيلد) وآخرون كثيرون. وحين جاء وقت الحساب تنصل اليهود من أخطاء سابقيهم وراحوا يهللون احتفاء بسياسات البريسترويكا ومنهم ألكسندر ياكوفليف الذي عاد غورباتشوف ونعته بـ«يهوذا» حين خذله وانضم إلى غريمه يلتسين.

وكانت الأوساط الثقافية، ومعظم رموزها من اليهود، قد تزعمت حملات التهليل للتغيير وراحت تدعو إلى اجتثاث جذور الماضي مطالبين في الوقت ذاته بالاعتماد على أساليب هي أقرب إلى أساليب البلاشفة على نحو مشوه تلونه الهستيريا والذعر على حد قول غورباتشوف الذي استشهد بقول صديق إسباني لم يذكر اسمه: «إذا كان الحزب أو بعضه يغالي في تقديره السلبي لماضيه فإنه يفقد أرضية وجوده في الدولة الديمقراطية». وإذا كان ذلك صحيحا، وهو بالفعل صحيح، فإن الواقع يقول أيضا بأن الماضي، الذي لم يكن كله أسود، كان في كثير من مشاهده يوحي بأن الدولة متعددة القوميات في سبيلها إلى الانهيار ما لم يتدارك القائمون عليها الأخطاء التي شابت العلاقات القومية ونالت من حقوق كثير من الشعوب بسبب تسلط النظام الشمولي. ولعل كثيرين، وبعد النتيجة المروعة التي أسفرت عنها البريسترويكا، يتساءلون اليوم: «هل كان الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى البريسترويكا؟ وهل كان من الضروري الاتجاه نحو مثل تلك التحولات التي كان واضحا أنها مملوءة بكثير من المخاطر؟ ومن المسؤول عن ضياع الحلم وفشل التجربة؟ كان الجميع على يقين من الحاجة إلى إصلاح كل تلك الأوضاع المتردية؛ وإن كان هناك من ممثلي الحرس القديم من أعرب عن مخاوفه من سلبيات التغيير وفي مقدمتهم من سارع غورباتشوف بإقصائهم تحت مختلف الذرائع. وعلى الرغم من كل ما صدر من اتهامات وانتقادات لسلبيات تلك المرحلة، فإن غورباتشوف عاد ليعلن مع حلول الذكرى الخامسة والعشرين لإعلان سياسات البريسترويكا أنه كان على حق وأنه لا يزال يتلقى الرسائل التي تشكره على ما قام به من إصلاحات وما أطلقه من حريات. لم يعرب عن ندم أو أسف؛ وإن أشار على استحياء إلى أنه يشعر ببعض الندم تجاه انهيار الاتحاد السوفياتي. ما كشف عنه غورباتشوف يقترب مما سبق وقاله فلاديمير بوتين حول أن «من لم يشعر بالأسى تجاه انهيار الاتحاد السوفياتي إنسان بلا قلب، ومن يعرب عن رغبة في استعادة الاتحاد السوفياتي إنسان بلا عقل». لكن غورباتشوف، وحين أراد الاعتراف بمسؤوليته عما حدث، اختار أسلوب التعميم سبيلا إلى محاولة التملص من المسؤولية، مكتفيا بالقول: «إنهم كانوا السبب في الانهيار وليس غيرهم من الخارج كما يقال». أنحى باللائمة على غريمه التاريخي بوريس يلتسين.. أعرب عن أنه نادم على عدم «نفيه» سفيرا في الخارج.. قال إن يلتسين يقف في صدارة المسؤولين عن الانهيار حين تسبب في دفع كل الجمهوريات السوفياتية إلى إعلان استقلالها خلال أسبوعين فقط من تاريخ انقلاب أغسطس (آب) 1991.. اتهمه بانتحال رئاسة الاتحاد السوفياتي وإصداره للمراسيم الفيدرالية باسم رئيس الدولة وقائدها الأعلى للقوات المسلحة مما دفع زملاءه من رؤساء الجمهوريات الأخرى إلى الاحتجاج على استيلائه على السلطة في موسكو. وعاد غورباتشوف وبعد ربع قرن ليعلن أن يلتسين «إنسان خطير.. خطير جدا ومغامر».

وقد يكون غورباتشوف محقا في ذلك إلى حد كبير؛ فقد أدرك يلتسين عقم أنصاف الحلول وضرورة الاستناد إلى الجماهير الجائعة العارية من أجل تصفية حسابات شخصية مع قيادات البريسترويكا ممثلة في غورباتشوف وليجاتشوف. وحين اكتسح في عام 1989 انتخابات نواب الشعب في موسكو بأصوات بلغ عددها ما يزيد على الستة ملايين، تصور البعض أنه سوف يكون خير ضمان للأمن والاستقرار، لكنه سرعان ما اصطدم بمقاومة المحافظين الجدد في مؤتمر نواب الشعب ممن كادوا يحرمونه من عضوية «السوفيات الأعلى» التي فاز بها بعد انسحاب أحد النواب الذي أعرب عن استعداده للتنازل شريطة أن يكون يلتسين هو المستفيد. وراح يلتسين يبحث عن أنصار جدد، سرعان ما وجدهم في المنشقين والرافضين من ضحايا التحولات الاشتراكية، في الوقت الذي انصرف فيه غورباتشوف إلى استجداء دعم الخارج من خلال كثير من التنازلات التي نالت من أمن ووقار الدول السوفياتية. ولذا، لم يكن غريبا أن يبادر غورباتشوف بالنزول على إرادة الدوائر اليهودية والغربية التي كانت تواصل ضغطها من أجل إطلاق حرية الهجرة إلى إسرائيل وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. ويذكر كثيرون تعديل الكونغرس الأميركي «فينيك – جاكسون» الذي فرض القيود على منح الاتحاد السوفياتي وضعية الرعاية التجارية بسبب موقفه من هجرة اليهود السوفيات. ولعل من الغريب أن هذا التعديل لا يزال ساري المفعول حتى اليوم بعد كل ما بذله غورباتشوف ويلتسين من أجل استرضاء اليهود وأنصارهم في الخارج؛ لم يكتف بإطلاق حرية الهجرة وبإعادة العلاقات الدبلوماسية والتوسع في افتتاح مؤسساتهم الثقافية والدينية في مختلف أرجاء البلاد؛ بل وفتح الباب على مصراعيه أمام أثرياء روسيا الجدد من اليهود من أمثال فلاديمير جوسينسكي وبوريس بيريزوفسكي وميخائيل خودوركوفسكي ممن بدأوا رحلة تكديس المليارات انطلاقا من قراراته حول حرية تأسيس التعاونيات. غير أن هؤلاء سرعان ما تحولوا عنه في اتجاه تأييد غريمه بوريس يلتسين ما كان مقدمة لقرارات الخصخصة التي استنها أناتولي تشوبايس مع بدايات عصر يلتسين وآلت بموجبها ثروات الوطن إلى مثل تلك الحفنة الصغيرة من المغامرين المضاربين خصما من رصيد الوطن والمواطن. ولذا، كان من الطبيعي أن يواصل يلتسين خطواته غير المحسوبة التي راح من خلالها يدعم كل من وقف معارضا لغورباتشوف ومناهضا لتحولاته. سافر إلى تالين ليوقع مع رؤساء جمهوريات البلطيق إعلان الاستقلال في مطلع عام 1991. دعم يلتسين التوجهات الانفصالية للحركات القومية في عدد من الجمهوريات السوفياتية، وحين حاول غورباتشوف تأليب الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ضمن حدود روسيا الاتحادية سافر يلتسين إلى تترستان ليعلن صيحته الشهيرة «خذوا من الاستقلال ما تستطيعون أن تبتلعوه». فبعد دعمه للمسيرة الانفصالية لجمهوريات البلطيق وتأييده لكثير من تحركات المجموعات المناهضة للبريسترويكا كان يلتسين أيضا أول من بادر بالتوقيع مع رئيسي أوكرانيا وبيلاروس على وثيقة «بيلافجسكويه بوشا» التي كانت الأساس القانوني لعملية التصفية. لم يعر نتيجة استفتاء مارس (آذار) 1991 اهتماما على الرغم من أن ما يزيد على 76% من سكان كثير من الجمهوريات السوفياتية قالوا بتأييدهم لبقاء الاتحاد السوفياتي دولة موحدة. وسقطت الدولة التي طالما كانت عنصر توازن اعتمد عليه كثير من البلدان العربية وكانت خير كابح لجماح الآخرين ممن يعيثون اليوم فسادا في الساحة الدولية بعد أن أعلنوا بناء عالم القطب الواحد من دون اعتبار للشرعية الدولية والأمم المتحدة. حين جاء وقت الحساب عكف كثيرون على دراسة ما للبريسترويكا وما عليها.. وبينما راح البعض يتساءل عن مدى حتمية الإقدام على مثل هذه التجربة، تحول آخرون إلى كيل الاتهامات التي بلغت حد نعت غورباتشوف بالخائن، وبلغ الشطط بأحد هؤلاء حد توجيه صفعة إليه خلال إحدى جولاته الانتخابية في عام 1996 بعد أن تجاسر ورشح نفسه في الانتخابات الرئاسية لروسيا الاتحادية حيث غادر السباق من جولته الأولى ولم يتعد عدد ناخبيه أكثر من 0.50% (نصف في المائة!!). غير أن التقييم الموضوعي، وعلى حد اعتقاد كثيرين، يقول بأن التغيير كان ضروريا انطلاقا من تردي الأوضاع الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد؛ فقد كان الشعب السوفياتي متعدد القوميات في أمس الحاجة إلى الحريات السياسية والاقتصادية والخروج من العزلة الدولية، وهو ما أدركه غورباتشوف.. لكن بعد فوات الأوان. وعلى الرغم من السقوط المدوي للدولة السوفياتية الذي اعتبره بوتين «أكبر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين»، فإن كثيرا من شواهد التاريخ يقول بأن هذه المنطقة الأوروآسيوية التي تشغل سدس مساحة العالم مكتوب عليها العيش في تقارب. وفي الحاضر الراهن ما يشير إلى مثل هذا التقارب عبر آليات الاتحاد الجمركي الذي يضم روسيا وبيلاروس وقزقستان، وإذا أضفنا أوكرانيا التي عادت لتنشد كثيرا من التقارب وإصلاح أخطاء «الثورة البرتقالية»، فإننا نكون أمام قدرات اقتصادية تبلغ نسبة تقرب من 90% من قدرات الاتحاد السوفياتي السابق. وإن غدا لناظره قريب.