أوروبا.. المشلولة

غيمة بركانية تلحق خسائر بالنقل الجوي أكثر من أحداث 11 سبتمبر.. وتفضح غياب التنسيق الأوروبي

مطار شارل ديغول في باريس يظهر على شاشة عملاقة الرحلات الملغاة بسبب البركان (نيويورك تايمز)
TT

أيافيالايوكول.. هذه المنطقة النائية القليلة السكان التي تقع على بعد 125 كيلومترا شرق ريكافيك عاصمة آيسلندا، عرفت الشهر الماضي أول ثوران لبركان منذ عام 1823، وأدى الأمر إلى إجلاء 600 شخص لفترة قصيرة. وقبل أن ينتصف شهر أبريل (نيسان) عادت ثورة البركان من جديد ولكن هذه المرة لم تسفر عن إجلاء المئات من الأشخاص، بل امتد تأثيرها ليشمل معظم الدول الأوروبية... وأصيبت أوروبا بشلل طوال 6 أيام، ومُنيت بخسائر اقتصادية فادحة لن تعرف قيمتها الحقيقية إلا قبل أشهر. تضررت أيضا مناطق أخرى من العالم بشكل غير مباشر، وظل مئات الآلاف من المسافرين عالقين في المطارات قبل عطلة نهاية الأسبوع التي تتزامن مع انتهاء عطلة عيد الفصح في أنحاء أوروبا.

واستمر البركان الذي ثار صباح الأربعاء قبل الماضي في جنوب آيسلندا، في لفظ غمامات هائلة من الرماد، أثارت مخاوف شركات الطيران العالمية المختلفة التي قررت وقف رحلاتها. وأصيبت المطارات الأوروبية بالشلل لعدة أيام، وانتقل تأثير ذلك إلى مطارات أخرى خارج أوروبا، بعدما تعطلت حركة الطيران القادمة إلى أوروبا، أو التي تقلع من مطاراتها.

وعندما طلبت «الشرق الأوسط» من خيرت سكيوت المتحدث باسم شركة «بروكسل إيرلاينز» البلجيكية تعليقه على ما حدث، قال: «إن ما حصل لشركات الطيران يفوق ما حدث في أثناء تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)». وأضاف: «إنه حمل ثقيل على أكتافنا، وصعب علينا كشركة أن نتحمل تبعات ذلك». لا تتمثل الخسائر في بقاء الطائرات على الأرض، وإنما في المصاريف الأخرى مثل توفير الفنادق للمسافرين وتنقلاتهم وتأمين غذائهم ومصاريف أخرى.

وقالت المنظمة الدولية للطيران إن الخسائر اليومية لشركات الطيران كانت تتعدى 200 مليون دولار أو 176 مليون يورو. وطالبت شركة «بروكسل إيرلاينز» من الحكومة البلجيكية اعتبار ما حدث أزمة تستوجب تقديم المساعدة والدعم المالي لشركات الطيران، ومع تمديد بعض الدول الأوروبية إغلاق مجالاتها الجوية لعدة أيام، اعتبرت المنظمة الدولية للطيران المدني أن أضرار حركة الملاحة فاقت ما سببته هجمات 11 سبتمبر 2001، التي كانت تعد الأسوأ في تاريخ النقل الجوي عندما أغلق المجال الجوي الأميركي لمدة ثلاثة أيام، واضطرت حينها شركات الطيران الأوروبية إلى وقف كل الخدمات إلى الولايات المتحدة.

وجاء إغلاق المطارات والأجواء الأوروبية في أعقاب ثوران البركان الآيسلندي وتحرك الغيمة الرمادية البركانية إلى أجواء دول شمال غربي أوروبا، لما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة، ومنها أن الغيمة الرمادية يمكن أن تحد من الرؤية وتلحق الضرر بمحركات الطائرات. وخصوصا أنه في عام 1989 تعرضت إحدى طائرات شركة الطيران الملكية الهولندية (كي إل إم) إلى سحابة بركانية في أجواء ألاسكا. وتوقفت المحركات الأربعة عن العمل وتسرب ذلك الرماد إلى داخل قمرة القيادة. وتسبب ذلك في تحليق الطائرة لمدة خمس دقائق بمحركات متوقفة، ونزلت في تحليقها بضعة كيلومترات. ولم يتمكن ربان الطائرة من تشغيل المحركات إلا حينما كانت الطائرة تحلق على علو لا يتجاوز ألفي متر فوق تلك التضاريس الجبلية الوعرة في ألاسكا. وتسبب ذلك في تعطيل تشغيل النوافذ الزجاجية لقمرة القيادة. وقبل ذلك بسنوات تعرضت طائرة 747 تابعة للخطوط الجوية الإنجليزية «بريتش إيرويز» لحادث مماثل وهي تطير في رحلة إلى أستراليا، حيث هبطت الطائرة نحو سبعة كيلومترات إلى الأسفل قبل أن يتمكن الربابنة من إعادة تشغيل المحركات. وفي عام 1982 خسرت طائرة تابعة لشركة «بريتش إيرويز» قوة الدفع الكاملة في محركاتها كافة بعد أن اجتازت غيمة من الرماد فوق إندونيسيا. وسقطت الطائرة آلاف الأقدام قبل أن تصل إلى بقعة هواء غير ملوثة، مما سمح لمحركاتها بالعمل مجددا.

وأعلنت منظمة الصحة العالمية أن سحب الرماد البركاني المتصاعدة من الانفجار البركاني في آيسلندا يمكن أن يكون لها تأثيرات صحية ضارة على سكان أوروبا إذا اقترب الغبار البركاني من الأرض. وقال مسؤول المنظمة ديفيد إبستين إنه في حال اقتراب الغبار من الأرض يتعين على المرضى الذين يعانون من أمراض بالجهاز التنفسي ومرض الربو البقاء في منازلهم. ويرى البعض من الخبراء أن ثورة بركان آيسلندا يعد تأثيرها محدودا جدا على حياة الإنسان والمناخ، ولن يكون لها تأثير في مقياس درجة الحرارة في العالم إلا إذا انبعثت كميات كبيرة من الرماد وثاني أكسيد الكبريت في الطبقات الجوية، يمكن أن تعكس جزءا من أشعة الشمس لأسابيع أو لأشهر.

وقال بول إينارسون - خبير آيسلندي - إن «الأمر المفاجئ بخصوص ثورة البركان هو مدى حجم الضرر الذي يمكن أن تتسبب فيه رغم أنها لم تكن ثورة هائلة». وأهم الآثار الناجمة عن ثورة البركان هي أنها توجد تحت كتلة جليدية وقد ذاب الجليد، ما أدى إلى فيضانات تسبب تدفقها في إلحاق أضرار بالطرقات والحقول وغير ذلك. ويحتوي الرماد على الكثير من غاز الفلورين، وهو مضر بصحة الإنسان والحيوان على حد سواء. وقد كانت هناك مشكلات واضحة إثر ثورات سابقة لهذا البركان على الحياة الحيوانية.

ونصحت منظمة الصحة العالمية الأوروبيين بتجنب الخروج إذا تسببت سحابة البركان في هطول أمطار قد تنقل ذرات رماد مجهرية يؤدي استنشاقها إلى مشكلات تنفسية. وقال خبير اقتصاد الطيران هانس هيركنس: «لا توجد شركات طيران يمكنها الاستفادة من هذا الوضع، لأن الجميع يكيلون بمكيال واحد، الفرق الوحيد الذي يمكن اكتشافه في مثل هذه الظروف هو في الطريقة التي ستعامِل بها شركات الطيران الرخيصة مثل إيزي - جات وريانار، والشركات الكبرى مثل الخطوط الملكية الهولندية، زبائنها، لأن هذه الأخيرة ستوفر بالتأكيد خدمات أفضل لزبائنها الذين سيعرفون الآن السبب في ارتفاع أسعار مثل هذه الشركات». الخسارة ليست فقط في الأموال التي يدفعها المسافرون، لكن مجرد إبقاء الطائرات على الأرض يكلف الكثير من الأموال.

ويقول هانس هيركنس: «تكلفة الطائرة الواحدة تصل إلى 250 مليون يورو، هذا يعني أنه يجب أن تكسب ما لا يقل عن 25 ألف يورو في اليوم الواحد، فقط لتتمكن من دفع فائض قيمة القرض البنكي الذي حصلت عليه لشراء الطائرة. إنها مبالغ عالية جدا. ومثلما يحدث دائما في مثل هذه الكوارث، فإن بعض القطاعات تنتفع من الوضع، الكثير من المسافرين سيستأجرون سيارات للذهاب في رحلات سياحية بدلا من الطائرة، كما سترتفع الحاجة إلى القطارات العابرة للدول. فمثلا قطار (إيروستار) الذي يربط بين بروكسل ولندن كان محجوزا بالكامل طوال أيام أزمة الغيوم الرمادية البركانية. كما أن قطاع الفنادق شهد أيضا انتعاشة مفاجئة بعد أن اضطر الكثير من المسافرين إلى قضاء الليل في الفنادق. وعكس شركات تأجير السيارات والسكك الحديدية وقطاع الفنادق، فإن الغبار البركاني انعكس سلبا على الشركات والمصانع الأخرى التي وجدت نفسها غير قادرة على نقل بضائعها إلى وجهتها، مما أدى إلى تلف الكثير من المنتجات، واضطر أصحابها إلى إلقائها في القمامة». يقول أنطونيو سيمناتوري من مركز للدراسات الاستراتيجية في بروكسل: «الكثير من الشركات تعتمد نظام (الاستلام في الوقت المحدد). وهي غالبا لا تقوم بجلب بضائعها إلا في اللحظات الأخيرة لأن هذه العملية أقل تكلفة، هذه الشركات واجهت مشكلات كبيرة لأن المخازن فرغت من المنتجات، وهي غير قادرة على إنتاج أو جلب المزيد، هذه بعض انعكاسات مثل هذه الكوارث على الاقتصاد عموما».

وكان لا بد أن يتحرك الجهاز التنفيذي الأوروبي، وأعلنت المفوضية الأوروبية ببروكسل أن رئيسها مانويل باروسو قرر تشكيل مجموعة عمل على أعلى مستوى، وتضم عددا من المفوضين الأوروبيين، تكون مهمتها تقييم الآثار المترتبة على الوضع الناجم عن السحابة الرمادية البركانية، وتأثير ذلك على النقل الجوي الأوروبي بشكل خاص، وعلى الاقتصاد الأوروبي بشكل عام. وقال بيان أوروبي إن رئيس المفوضية أراد التأكيد على أن الاتحاد الأوروبي لديه القدرة على التحليل الجيد للأمور، ليكون قادرا على الاستجابة بشكل مناسب إذا لزم الأمر، ولا بد من التنسيق والتحرك بشكل صحيح، في حال اتخاذ أي تدابير في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، للرد على العواقب الاقتصادية المترتبة على هذا الوضع. وترأس مجموعة العمل نائب رئيس المفوضية المكلف بشؤون النقل سايم كلاس، ومعه المفوضون المكلفون بشؤون المنافسة والشؤون النقدية والاقتصادية. وجرى عقد اجتماع استثنائي لوزراء النقل الأوروبيين، مع تنسيق الجهود والاتصالات بالمنظمات الأوروبية والسلطات الوطنية لبحث تداعيات الأزمة. وتوصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق يوم الاثنين الماضي على تضييق مساحة منطقة حظر الطيران جراء سحابة الغبار المنبعث من بركان في آيسلندا بعد ضغوط من شركات الطيران التي تخسر 250 مليون دولار كل يوم، وبدأت منذ الثلاثاء الماضي الأمور تعود تدريجيا إلى طبيعتها في المطارات الأوروبية.

وكان الاتحاد الأوروبي أعلن عن إلغاء عدد من الاجتماعات على مستويات مختلفة، كانت مقررة سواء في بروكسل أو إسبانيا، حيث الرئاسة الحالية للاتحاد الأوروبي، أو في لوكسمبورغ؛ لصعوبة التنقل بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من خلال الرحلات الجوية، بسبب الغيمة الرمادية البركانية. وعلى الفور بدأت الدول الأوروبية مشاورات بشأن فرص تقديم دعم مباشر لمؤسسات الطيران المتضررة من تعليق نشاط الملاحة الجوية، وبسبب تداعيات تسرب الرماد البركاني. وقال مصدر في المفوضية الأوروبية في بروكسل إن المسالة مطروحة بالفعل، ولكن من الصعب حاليا الجزم بشأن طبيعة الدعم الذي سيتم تقديمه لمؤسسات الطيران. وأضاف أنه وبعد أزمة المصارف التي ضربت أوروبا في خريف عام 2008 فإن الاتحاد الأوروبي سيواجه أزمة حادة تخص قطاع النقل الجوي في حالة استمرار تسرب الرماد.

وقال وزير النقل البلجيكي إتيان سكوب إن حكومته تلقت طلبا بالمساعدة من مؤسسة الخطوط الجوية البلجيكية، وإنه سيكون من الصعب الرد على ذلك في غياب تنسيق أوروبي حول المسألة، وقال الوزير البلجيكي إن بلاده التي تتسلم الرئاسة الدورية الأوروبية خلال شهرين فقط من الآن لا تريد المجازفة باتخاذ مبادرات فردية ومنعزلة عن شريكاتها. وقالت المفوضية الأوروبية إنها قد تقرر تعويض شركات الطيران عن جانب من خسائرها نتيجة إغلاق المجال الجوي. وقال جيوفاني بيسنياني رئيس الاتحاد الدولي للنقل الجوي: «البركان شل قطاع الطيران.. أولا في أوروبا. وبعد ذلك صار له تداعيات في مختلف أنحاء العالم». وأضاف أن شركات الطيران تخسر 250 مليون دولار يوميا.

ومن بين المتأثرين من هذه «الكارثة» الطبيعية كانت العائلة المالكة الهولندية. ونشرت صحف هولندية صورة للملكة بياتريكس وابنها الأكبر الأمير فيلم ألكسندر وزوجته الأميرة ماكسيما وهم يبتسمون من خلال نافذة قطار، في طريقهم إلى كوبنهاغن لمشاركة الملكة مرغريت، ملكة الدنمارك، التي تحتفل بعيد ميلادها السبعين، وكان على العائلة المالكة الهولندية السفر على متن طائرة حكومية. ولكن البراكين لا تميز بين النبلاء والبشر العاديين، واضطرت عائلة الأورانج إلى مغادرة محطة أمستردام المركزية بالقطار بدل الطائرة، كما أن الحظر الجوي كان يعني عدم قدرة بعض زعماء العالم على حضور جنازة الرئيس البولندي ليخ كاتشنسكس الأحد الماضي.

وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد اضطرت إلى الهبوط في البرتغال في رحلة عودتها، قادمة من الولايات المتحدة، بينما تسبب الحظر الجوي في إلغاء أولى رحلات الخطوط الجوية العراقية من العاصمة العراقية بغداد إلى بريطانيا.

ولم يتمكن أيضا وزراء مالية سبع دول أوروبية وبعض المسؤولين الأوروبيين من بروكسل من حضور اجتماع انعقد في مدريد، نظرا لإغلاق المجال الجوي لعدد كبير من الدول الأوروبية بسبب سحابة الرماد البركاني. وجاء ذلك على الرغم من إعلان المفوضية أنها اتخذت حزمة من التدابير لتلافي أية تداعيات للتطورات المرافقة لتسرب الرماد البركاني من آيسلندا على سير المؤسسات الأوروبية، ووتيرة الاجتماعات داخل الهيئات الاتحادية، وخصوصا تنقل كبار الموظفين.

كما نصحت المفوضية الأوروبية المسافرين بالمطالبة بتعويضات من شركات الطيران مباشرة بسبب إلغاء أو تأخير الرحلات الجوية. وقالت متحدثة أوروبية إن المسافرين يمكنهم أيضا الحصول على تعويضات عينية إضافية، إلى جانب المطالبة بسداد ثمن تذاكر السفر، مبينة أن الإجراءات تشمل جميع مؤسسات الطيران الأوروبية والأجنبية العاملة في الفضاء الجوي الأوروبي.

وبعد أن عادت الأمور إلى طبيعتها، وبعد أن واجه التكتل الموحد اتهامات بالمبالغة في الأمور في أثناء الأزمة، يبقى السؤال الهام لدى المواطن الأوروبي: إلى متى سيظل التباين في المواقف بين الدول الأعضاء عندما يواجهون مشكلة أو أزمة؟ دول تعلن عن فتح جزئي للمطارات، وأخرى تقرر إغلاقا تاما. دول تؤكد نجاح الرحلات التجريبية التي قامت بها للكشف عن حجم المخاطر، وأخرى ترفض المغامرة... وكل هذا حدث بعد فترة وجيزة من خلافات بين الدول الأعضاء في أثناء أزمة العجز في الموازنة في اليونان، وتباين المواقف بشأن تقديم المساعدة لهذا البلد العضو في التكتل الأوروبي الموحد، وقبلها أزمة مواجهة إنفلونزا الطيور وبعدها إنفلونزا الخنازير. وسبق ذلك اختلافات بين الدول الأعضاء في تمرير معاهدة لشبونة لإصلاح المؤسسات الاتحادية، وبعد ذلك خلافات بشأن اختيار شخصية تتولى منصب أول رئيس للاتحاد الأوروبي.

ولكن الكثير من المراقبين في بروكسل يرون أن الاتحاد الأوروبي استطاع أن يتجاوز كل هذه الاختبارات أمام الرأي العام الأوروبي، ولم تستغرق أزمة الغيمة الرمادية سوى بضعة أيام. إلا أن البعض الآخر يرى أن ما حدث يجب أن يكون درسا للأوروبيين وغيرهم لإيجاد آليات عمل تكون قادرة على تجاوز الأزمات بأقل قدر من الخسائر وفي أسرع وقت ممكن.