مقتدى الصدر.. زعيم بالصدفة

تياره تميز بمواقفه الوطنية والمناوئة للوجود الأميركي.. ويحمل اليوم مفاتيح مهمة لتشكيل الحكومة المقبلة

TT

الصدفة وحدها، القدر وحده، الوراثة وحدها، عوامل اجتمعت في مكان محدد وزمان معين ووسط أحداث طارئة للغاية، لتصنع زعامة مقتدى الصدر الذي يقود اليوم تيارا له 40 مقعدا في البرلمان العراقي المنتخب، ويشكل قوة سياسية ستلعب دورا أساسيا في شكل الحكومة القادمة. إذا قلنا إن هذا الشاب لم يكن يفكر في هذه الزعامة، فسنكون بعيدين عن الدقة. فمن الصواب أن نقول إنه لم يتخيل يوما، مجرد تخيل، أن يكون في هذا الموقع. وبالتالي فهو لم يخطط له، وكيف لشخص أن يخطط لأن يكون في موقع لا يناسب قياساته ولا طموحاته ولا اهتماماته؟ إنه ببساطة لم يتخيل أن يحظى بهذه الزعامة، ولم يخطط للوصول إليها، لأنه غير مهيأ لها أصلا.

زعامة وإمامة، بالصدفة والوراثة، والإمامة عند الشيعة لا تأتى بالصدفة على الإطلاق، كما أنها لا تأتي عن طريق تخطيطات سياسية أو أوامر حزبية أو انقلابات عسكرية ولا حتى توجيهات حكومية أو مؤامرات إمبريالية.

الإمامة أو الاجتهاد عند الشيعة لا تطلب، ولا تشترى، ولا تعطى، ولا تُهدى، ولا تؤخذ، ولا تُغتصب، بل تُكتسب بالجهد الحثيث، والدراسة الحوزوية الصعبة والمعقدة. تبدأ بالحوزة، والحوزة بيوتات ومدارس تنتشر في النجف، أساسا، يتعلم فيها طلاب العلم على أيدي مجتهدين وعلماء وأئمة، يستهلون بالمقدمات، مرورا بالسطوح وبحث الخارج ولا ينتهون من طلب العلم حتى وإن صاروا مراجع كبارا. وتحصيل درجة المجتهد أو الإمام لا تخضع لحيز زمني محدد، فقد يدرس طالب العلم أكثر من نصف قرن وهو لا يزال بحاجة إلى المزيد.

لكن مقتدى الصدر، الذي كان قد درس في مدارس حكومية اعتيادية غير حوزوية، وانتسب إلى ثانوية الصناعة ولم يكمل الدراسة فيها، فذهب «بناء على ضغوط من والده محمد صادق الصدر، الذي تصدى للمرجعية، ليتلقى دروسه الحوزوية على يد المرجع إسحاق الفياض» فكان يجلس منزويا، هادئا في آخر الصالة أو المجموعة، لا يناقش ولا يجادل ولا يسأل، خلال دوامه المتقطع وغير المنتظم لهذه الدروس، وبقي على هذا المستوى، حسبما أوضح أحد الذين درسوا معه وقتذاك.

لم يكن الصدر يفكر في الزعامة أو الإمامة لأسباب موضوعية، أبرزها أن تسلسله الثالث بين إخوانه الأربعة، وأسماؤهم، التي تبدأ بحرف الميم، حسب تسلسلهم العمري هي: مصطفى، ومؤمل ومقتدى ومرتضى.

شقيقه الأكبر ،مصطفى، لم يكن حوزويا، أي لم يدرس في الحوزة ولم يرتد الزي الديني، بل كان «أفنديا» على حد وصف أهالي النجف، أي أنه كان يرتدي البدلات الاعتيادية، وكان مقيما في بغداد أكثر منه في النجف.

في عام 1991 وبعد الانتفاضة (الشعبانية) التي اشتعلت في مارس (آذار) 1991، وبعد رحيل واحد من أكبر وأهم مراجع الشيعة في العالم، أبو القاسم الخوئي، برز السيستاني كمرجع لخلافة الخوئي، لكن اتجاه النظام الحاكم كان يمضي نحو تأييد أو دعم مرجع عربي عراقي وليس إيرانيا، فعمل كريم حسن راضي، قيادي بعثي شيعي ينحدر من مدينة الحلة، وكان محافظا للنجف على ترشيح ودعم محمد صادق الصدر ليكون هو المرجع، فجاءت تعليمات قيادته بأن يتحرك في هذا الاتجاه، وهناك غالبية من شيعة العراق، وهم عرب أقحاح، قد ساندوا واتبعوا هذه المرجعية، على الرغم من أن المرجعية الشيعية تعمل وفق الحديث النبوي الشريف «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى»، وأن الشيعة لم يميزوا بين مرجع إيراني أو أفغاني أو باكستاني أو عربي، بل يميزون بين من هو أكثر علما واجتهادا.

فإذا كان من المفترض أن يرث أحدهم زعامة التيار الصدري، فيجب أن يكون النجل الأكبر لمحمد صادق الصدر، وإذا تجاوزنا النجل الأكبر فهناك النجل الثاني، غير هذا عرف عن مقتدى أنه لم يكن مقربا من والده ولم يُشاهد في النجف بأنه رافقه يوما في مشوار أو اجتماع أو حتى صلاة الجمعة التي فرضها الصدر الأب على المسلمين الشيعة عندما كان يلقي خطبه الحماسية والساخنة على أتباعه وبقية المصلين. وهناك من أبناء النجف من يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد أن «علاقة مقتدى لم تكن أصلا طيبة بوالده كونه لم ينتظم في الدراسة الحوزوية وأن اهتماماته لم تكن قريبة من طموحات الأب».

لقد عرف عن مقتدى في سنوات فتوته وشبابه المبكر نزوعه للتمرد والحرية وعدم التقيد بالشروط التي تفرضها المرجعية الدينية أو الحوزة العلمية، أو حتى الحياة الاجتماعية في مدينة شيعية، بل هي مركز الشيعة في العالم، محافظة حد الصرامة في تقاليدها الظاهرية المعلنة، وينزع أهلها إلى ممارسة كل ما هو غير مقبول اجتماعيا في السر وفي سراديب النجف المشهورة.

العامل الأول، أو الموجة الأولى التي دفعت بمقتدى إلى واجهة الأحداث، بلا موعد، وبلا تخطيط مسبق، وبلا توقعات، كان مقتل والده مع اثنين من أشقائه، مصطفى ومؤمل، على أيدي مسلحين مجهولين قرب ساحة ثورة العشرين عند مدخل مدينة النجف في شباط عام 1999، حيث يصر العارفون من أهالي المدينة على أن «جهات إيرانية متنفذة هي من قتلتهم في مخطط للقضاء على المراجع الشيعية العربية حتى تنتقل المرجعية إلى الإيرانيين»، ويذهب هؤلاء إلى أعمق من ذلك عندما يقولون «إن واحدة من أبرز أهداف الجمهورية الإسلامية في إيران هي التقلقل من مدينة النجف كمركز للشيعة في العالم، ونقل مركز المرجعية واهتمام الشيعة إلى مدينة قم التي لا تبعد سوى 120 كيلومترا عن العاصمة الإيرانية طهران».

وطبيعة الأحداث تشير، حتى وإن لم تكن بقصدية إلى صحة هذا الرأي، إذ تسيد المشهد المرجعي في النجف وفي عموم عالم الشيعة علي السيستاني، الإيراني الأصل والجنسية، كمرجع أعلى، وحدث ذلك بعد غياب المرجع العربي العراقي محمد صادق الصدر بسبب الاغتيال.

لكن الجهات الإيرانية ترد وبشدة على أن «الأجهزة الأمنية العراقية هي من اغتالت المرجع الصدر كونه كان يتحدث ضد نظام صدام حسين في خطبه خلال صلاة الجمعة»، لكن الأحداث تؤكد حرص النظام، والرئيس العراقي السابق صدام حسين وقتذاك على أن تبقى المرجعية عربية عراقية، بل إن النظام من دفع باتجاه اعتبار الصدر مرجعا شيعيا ودعم هذه المرجعية، في وقت لم يكن النظام الحاكم وقتذاك يتورط في أي مشكلات مع الشيعة من الوزن الثقيل، ومن نمط اغتيال مرجع شيعي مع نجليه وفي النجف».

فجأة وجد مقتدى نفسه في حمأة الأحداث، بل في واجهتها تماما، فهو غدا - بعد مقتل والده وشقيقيه - النجل الأكبر للمرجع الراحل، وهو من تلقى تعازي القيادة السياسية العراقية، وتعازي الشيعة من مراجع وعلماء ومجتهدين، كذلك تعازي السنة، وتعازي قادة بعض الدول. بل صار في ليلة وضحاها النجل الأبرز في عائلته على حساب شقيقه الأصغر مرتضى الذي عرف كونه مريضا وبعيدا عن كل المحافل الاجتماعية.

إن ما أنتجته حركة محمد صادق الصدر (بعد الانتفاضة) من تأسيس تيار شعبي واسع يغلب عليه الانتماء الشعبي والعشائري، وينضوي تحته المحرومون من أبناء الوسط والجنوب العراقي، ويضم توجهات سياسية متعددة وأحيانا متباينة في مواقفها المعلنة، سمي لاحقا بالتيار الصدري، وله ميليشيا تسمى «جيش المهدي»، الذي تأسس في حياة محمد صادق الصدر، كما يقول أحد قادته ويدعى «أبو سجاد» من مدينة الصدر: كان «جيشا عقائديا مهيأ للثورة ضد الحكم لولا مؤامرة قتل الصدر الأب». و«الجيش مدرب من خبراء عسكريين من الجيش السابق».

لقد بقيت وراثة زعامة مقتدى للتيار الصدري الذي ورثه عن والده مجمدة، أو منسية خلال سنوات حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وبعد رحيل المرجع محمد صادق الصدر هرع مقتدى وتنفيذا لوصية والده التي كان قد أعلنها لأنصاره وتياره وأتباعه ومقلديه في حياته بأن من سيخلفه مرجعيا أحد المرجعين، إسحاق الفياض المقيم في النجف، أو كاظم الحائري المقيم في إيران، وبالفعل اتجه الابن إلى الفياض طالبا منه تنفيذ وصية الوالد، لكن، وبما عرف عن اعتدال الفياض واهتمامه بالعلم والفقه والتدريس، مشيا على خطى أستاذه والأب الروحي له المرجع أبو القاسم الخوئي، وابتعاده وعدم تدخله في الشأن السياسي، فإنه اعتذر عن هذه الوصية.

الفياض شدد على مقتدى بأن ينصرف إلى العلم وأن يحضر حلقات الدروس الحوزوية، ويترك السياسة ومسالكها. لكن الضغوط والإغراءات التي كان يتعرض لها مقتدى، وهو في مقتبل عمره، كانت أقوى من أن ينفذ نصيحة الفياض، فاتجه إلى المرجع أو الخيار الثاني، كاظم الحائري الذي عرف عنه اهتمامه بالسياسة، على عكس الفياض، فاستجاب لرغبة الابن تنفيذا لوصية الأب، وبالفعل أصبح المرشد الروحي والديني لمقتدى وتياره وأنصار والده.

وبعد فترة ليست بالطويلة انصرف مقتدى عن الحائري عندما وجد نفسه بأنه ليس بمقدوره اتباع تعاليمه وتنفيذها، وعندما رأى في نفسه الزعيم الذي يستطيع أن يستقل بذاته.

لكن مقتدى لم يتجه على الإطلاق إلى المرجع علي السيستاني، بل إن ثمة عداء معلنا بين والده الذي كان يسمي مرجعية السيستاني بـ«المرجعية الصامتة» كونها مهتمة بالدين وفقهه وبالعلم والحوزة ولم تتورط في الشأن السياسي أو تتدخل فيه، وكان محمد صادق الصدر يطلق على مرجعيته تسمية «المرجعية الناطقة».

لقد طبعت حركة التشيع في العراق ميزتان أساسيتان، الأولى الطبيعة الاثنية والثانية العائلية، ويفسر الباحث الإسلامي غانم جواد، المهتم بالشأن العراقي، هذه الظاهرة قائلا «إن الدين بطبيعته عابر للجغرافيا والإثنيات بشكل عام، تشترك في هذه الخاصية كل الأديان والمذاهب، عند المسلمين الشيعة عموما فإن المذهب أكثر عابرية للمناطق والإثنيات، يدلنا على ذلك أن مراجع النجف حاليا السيد السيستاني والشيخ الفياض والسيد سعيد الحكيم والشيخ البشير، ينتمون لإثنيات مختلفة ولأصول جغرافية متعددة». أما تفسير الميزة الثانية وهي سيادة وتمثيل أبناء مدن العتبات المقدسة للقرار الشيعي الديني والسياسي، فيعود لسببين: أولا، لأنهم يديرون المراقد الدينية والمؤسسات الشيعية، وكونهم جزءا متميزا من التيار الديني المحافظ (التشيّع الحوزوي). ثانيا، انتماؤهم لعوائل أو عشائر كبيرة مشهورة ولها امتداد تاريخي». ومن النماذج التاريخية مثلا: عائلة الشبيبي، التي برز منها الشيخ محمد رضا الشبيبي، وجعفر الشبيبي، وعائلة الجواهري، وعائلة الحكيم، وعائلة الصدر، وعائلة الشيرازي، وعائلة الشرقي، وعائلة الكليدار، وعائلة كاشف الغطاء، وعائلة الخالصي وغيرها. هذه العائلات التاريخية لعبت دورا في الماضي، واستنادا لذلك الإرث، تلعب اليوم دورا مهما في الحياة السياسية العراقية - الشيعية.

ويتحدث جواد عن التشيع السياسي، وهي الظاهرة الأبرز في السياسة العراقية اليوم، قائلا: إن قوى التيار الشيعي في الإسلام السياسي، ظهرت بشكلها الحركي التنظيمي، من بين أوساط الحوزات الدينية في مدن مراقد أئمة المسلمين الشيعة، ومقر مرجعيتهم الدينية (النجف، كربلاء، الكاظمية) منذ منتصف القرن الماضي، حيث ازدهرت في تلك المدن العلوم الدينية والفلسفية والتاريخ الإسلامي واللغة العربية وآدابها المتنوعة من الشعر العربي بصيغة التفعيلة، والقصة بتشكيلتها القصيرة والطويلة، والمقالة الأدبية»، مشيرا إلى أنه «في الوقت ذاته نأت المرجعية الدينية ـ في العراق ـ عن الانخراط في العمل السياسي، بعد إخفاق ثورة العشرين عام 1920، بسبب تضييق الحكومات المتعاقبة على النشاط المرجعي السياسي، ولانكفائها هي على نفسها، وهو ما يعتبر سببا آخر. مؤَسِسَةً لنمط تقليدي في علاقة الفقيه بالشأن العام (المجتمع والسلطة) نتج عنها تضيق في العمل السياسي في أوساطها وأصبح بمثابة العمل المحرم».

أما على الصعيد المناطقي، فنلحظ هيمنة النجف على الحياة السياسية الشيعية، والسبب ربما يعود في جزء كبير منه لوجود المرجعية الدينية في النجف. ولكن ظهرت إلى جانبها منافسة كربلاء لنفس الاعتبار، أي وجود بعض المراجع المقيمين في كربلاء، فحدث تنافس على قيادة الشيعة من هاتين المدينتين. وقد دخلت مدن الجنوب (البصرة والعمارة والناصرية) متأخرة في مجال المنافسة أيضا، ولكن على صعيد قيادة التنظيمات الدينية وليس المرجعية. لهذا لم يكن غريبا أن تنشأ التنظيمات الدينية في محيط المرجعية: النجف وكربلاء. فحزب الدعوة ظهر في النجف، ومنظمة العمل الإسلامي ظهرت في كربلاء، وحتى تلك الأحزاب الصغيرة التي ظهرت في بغداد وغيرها كانت مجرد توابع في الفلك النجفي والكربلائي. على أن هناك استثناء في ذلك وهو حركة السيد محمد صادق الصدر، فعلى الرغم من وجوده المرجعي في النجف، فإن قواعده الشعبية كانت في مناطق المحرومين الشيعة الممتد من مدينة الصدر (الثورة) في بغداد إلى البصرة. بعكس حزب الدعوة وغيره، الذي كان يمثل النخبة المتعلمة الشيعية، فإن محمد صادق الصدر توجه في حركة مشابهة لموسى الصدر بجنوب لبنان إلى العشائر والريف والمحرومين، الذين كانوا مهملين من قبل المرجعية ومن الأحزاب الدينية، وهناك بنى قواعده الشعبية. بينما التفت المجلس الإسلامي الأعلى، حتى وهو في المنفى إلى دور العشائر وحاول استقطابها، إلا أن نجاحه كان محدودا، لأن الصدر كان السباق في هذا المجال، وما زالت العشائر عصب قوة مقتدى الصدر، وتهيم بوالده لأنه اهتم بها في وقت لم يهتم بها أحد، لا الدولة ولا المرجعية ولا الأحزاب.

كانت بشائر ممارسة مقتدى الصدر لدوره كزعيم للتيار الصدري مع استهلال الهجوم الأميركي البريطاني على العراق مطلع 2003 من أجل إسقاط نظام صدام حسين، وعلى الرغم من أن هناك من أشار إلى تعاون سري نشأ بين مقتدى والقوات الخاصة الأميركية قبيل دخول هذه القوات إلى مدينة النجف، وسقوط النظام الحاكم، إذ التقى قسما منهم في صحراء بحر النجف، إلا أن لا وثائق أو أدلة تؤكد هذه المعلومات، بل على العكس، فقد طبعت علاقة القوات الأميركية ومقتدى بالمطاردة واللا ودية.

ومع سيطرة القوات الأميركية على مدينة النجف في نهاية مارس (آذار) 2003، بدأ مقتدى يتنفس الصعداء، وهيئ له بأنه سيفرض سيطرته الكاملة على المدينة، في وقت كان أتباعه ينتشرون في النجف مرتدين أثواب (دشاديش) سوداء ويحملون أسلحة كلاشنيكوف وهم يقودون سيارات «بيك آب» كانت مملوكة للدولة، وعليها صورة محمد صادق الصدر. وكان هذا أول ظهور قوي وعلني للتيار الذي سيقوده بصورة مطلقة مقتدى الصدر.

أثناء ذلك حدث ما يعكر صفو وسعادة ونشوة مقتدى، إذ هبطت في صحراء بحر النجف وقريبا من معمل اسمنت الكوفة، طائرة هليكوبتر كانت تقل مجيد الخوئي، نجل المرجع الراحل أبو القاسم الخوئي، الأمين العام لمؤسسة الإمام الخوئي في لندن، قادما من بريطانيا عبر توقف لأيام معدودة في البحرين.

وما أن ظهر الخوئي بعد أقل من 24 ساعة من وصوله، في فجر اليوم التالي في شارع الرسول وسط مدينة النجف متجها إلى بيت المرجع السيستاني، حتى أحاطت به جموع غفيرة من الناس غير مصدقين عودته المفاجئة، وعندما قام بزيارة مرقد الإمام علي (عليه السلام) بعد لقائه بنجل المرجع، حيث يقع الصحن الحيدري على مسافة أمتار من بيت السيستاني، لأداء الصلاة عند مرقد الإمام، كانت جموع الناس قد تناقلت وبسرعة وجود نجل أبو القاسم الخوئي في المدينة، إذ كان قد ترك ذكرى طيبة لدى أهل مدينته قبل أكثر من 11 سنة من مغادرة العراق.

هذا الحدث كان صادما ومؤثرا وأكثر من مزعج لمقتدى الذي اعتبر وجود الخوئي منافسة غير متكافئة، فالخوئي معروف ورجل دين ودرس في الحوزة وأمين عام مؤسسة خيرية ومدعوم من قوى عربية وأوروبية بسبب اعتداله وانفتاحه، ونجل مرجع كان وما يزال محط احترام شيعة العالم، ووصوله إلى النجف يعني إنهاء دور مقتدى تماما، هذا على الأقل ما فكر أو آمن به الصدر الذي خطط أتباعه لاغتيال الخوئي في أقرب وقت مناسب، وهذا ما حصل في العاشر من أبريل (نيسان) 2003 بعيد يوم واحد من سقوط بغداد في أيدي القوات الأميركية مما عرضه وأكثر من 25 من أتباعه إلى الملاحقة القانونية حسب مذكرة قضائية كان قد أصدرها القاضي رائد جوحي الذي حقق فيما بعد مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

لقد اتسمت علاقة مقتدى بعد مقتل الخوئي مع الإدارة الأميركية في العراق، وخاصة مع بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي للعراق، بالعدائية. إذ أصدر بريمر قرارا بإغلاق صحيفة «التيار» التي كانت تصدر عن التيار الصدري لمدة 60 يوما. مما أدى إلى تدهور العلاقة بين مقتدى الصدر والحاكم الأميركي وأدت إلى تصاعد الأحداث الدامية بين أنصار الصدر والقوات الأميركية التي تعتبر محتلة للعراق، بعد أن قتلت القوات الأميركية متظاهرين كانوا يتظاهرون سلما محتجين على إغلاق الحوزة وواجهت المعتصمين منهم بالدبابات. فحث الصدر أتباعه على ترويع قوات الاحتلال بعد أن قال إن الاحتجاجات السلمية لم تعد مجدية.

وتبع ذلك مواجهات عسكرية بين القوات الأميركية وجيش المهدي الذي كان يقوده مقتدى بنفسه، ففي 14 مايو (أيار) 2004 كانت بداية معارك دامية بين القوات الأميركية وجيش المهدي في مدينة النجف وبالتحديد في مقبرة النجف في محاولة من القوات الأميركية للقبض على الصدر، كما قامت هذه القوات بقطع الطريق المؤدي إلى الكوفة من النجف للحيلولة دون ذهاب الصدر إلى مسجد الكوفة الذي كان يؤم فيه أنصاره في صلاة الجمعة، إلا أنه تمكن من الوصول إلى الكوفة وإلقاء خطبة الجمعة واضعا على كتفه الكفن الأبيض تيمنا بما كان يفعله والده في إشارة إلى أنه لا يخشى الموت والشهادة.

لقد اتسمت مواقف مقتدى بالمتداخلة والمتضاربة، فهو في الوقت الذي صرح فيه بعدم شرعية الانتخابات العراقية ما دام الاحتلال موجودا لم ينه أصحابه وأنصاره عن المشاركة في الانتخابات. فلقد شارك فيها التيار الصدري وحصد 40 مقعدا في البرلمان القادم.

لكن ما يميز مقتدى عراقيا وتياره هو انتماؤهم للطبقات الفقيرة من المجتمع العراقي وإصرارهم على عدم قبول وجود القوات الأميركية في العراق، والأكثر من هذا عدم تبعيتهم للقرار الإيراني على الرغم من وجود زعيم التيار في قم ليتلقى دروسا حوزوية في الفقه الشيعي تمهيدا لزعامته كإمام أو مجتهد ديني.

يتميز قادة التيار الصدري بعراقيتهم وروحهم الوطنية، وأن غالبيتهم من حملة الشهادات الجامعية العليا، ودفاعهم عن قضايا الشعب العراقي بعيد عن الانتماءات الطائفية، وانفتاحهم على بقية التكوينات السياسية بلا عقد.

مقتدى الصدر مواليد مدينة النجف في 12 أغسطس (آب) 1973، وهو متزوج مرتين، الأولى ابنة عمه محمد باقر الصدر، والثانية شقيقة مدير مكتبه السابق رياض النوري.