الأزهر.. في عباءة السياسة

منح مصر دورا إقليميا ودوليا مميزا.. وقاد علماؤه الثورات الكبرى ضد الاحتلال

رجل يقرأ القرآن أمام جامع الأزهر في القاهرة (رويترز)
TT

شهدت العقود الخمسة الأخيرة بروزا واضحا لدور المرجعيات الدينية في العالم، وعلى رأسها الأزهر الشريف كمؤسسة دينية كبرى وتعليمية وثقافية ومرجعية دينية للمسلمين السنّة في العالم. وكلما زادت الحكومات من «الاستخدام» السياسي للمرجعيات الدينية تصاعد دورها في حياة الشعوب. وفي الظروف الشائكة، وما أكثرها مكانا وزمانا، لا يتوقف دور الأزهر على الجانب الديني، ويمتد دوره إلى الحياة السياسية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وإلى الثقافة العامة، بدءا من مساندة السلطة - بحسب البعض - بفتاوى يرونها «فتاوى سياسية وليست دينية»، مثل مدى شرعية العمليات الاستشهادية في مواجهة العدو المحتل، وحق المقاومة، وقضايا حرية التعبير بالكتابة والنشر وحقوق التظاهر والاحتجاج والاعتصام، وكذلك دور الأزهر كمؤسسة دينية في مصادرة كتب يرى علماء الأزهر أن مضمونها يمس «ثوابت الدين». وأيضا مدى شرعية فوائد البنوك، انتهاء بالوصول إلى المفردات البسيطة لحياة الناس مثل الأكل والشرب والسكن واللباس.. الكل في هذا الزمان يريد فتوى، إما بهدف تقنين تصرفاته شرعا من دون أن «يستفتي قلبه»، أو هروبا من مسؤوليات واستحقاقات قانونية، وربما محاولة لـ«غسل الضمير».. وفي عصر القنوات الفضائية التلفزيونية تدخّل «الدعاة الجدد» في كل تفاصيل الحياة، حتى أن أحدهم تناول في أحاديثه وفتاواه «كيفية مواقعة الرجل زوجته».

كل هذا يثير تساؤلات كثيرة حول دور الأزهر وموقعه على الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية. وأدى خلط الأوراق في كل هذه القضايا إلى التباسات متكررة، جعلت الأزهر كمؤسسة دينية محل هجوم من جهات مختلفة، يقابله علماء الأزهر في الجهة الأخرى بدفاع مستميت عن دورهم في الحياة العامة والخاصة للمسلمين. لكن الأزهر كمؤسسة دينية يرفض التشدد الديني رسميا، ويعلن تمسكه بمبدأ الوسطية والاعتدال. وعلماؤه يقولون في الوقت ذاته بأنهم لا يسمحون بالتفريط في ثوابت الدين، حتى وإن نال البعض منهم ضربات موجعة يسددها إليهم أي طرف في لعبة الحياة والسياسة، سواء كان هذا الطرف جهة رسمية أو أهلية، أو أشخاصا، ضاربين المثل بالدكتور أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر قبل أكثر من 10 سنوات، حين وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، بين أن يختار الانضمام إلى طلابه المتظاهرين من أجل ما يرونه يمس دينهم - معركة رواية «وليمة لأعشاب البحر» - وأن يساند السلطة في موقفها الرافض للاحتجاج والتظاهر، فاختار الدكتور هاشم الانضمام إلى صفوف طلابه واعتصم معهم في مسجد المدينة الجامعية (السكن الطلابي)، لينتهي الأمر بإقصائه عن موقعه بصورة ما، وإن بقي يلعب أدوارا أخرى على الساحة السياسية والدينية، ربما أكثر تأثيرا.

الجامع الأزهر، أهم المساجد في مصر وأشهرها في العالم الإسلامي، هو جامع وجامعة منذ إنشائه سنة 361 هجرية، الموافق 972 ميلادية على يد جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله، أول الخلفاء الفاطميين بمصر. وقد مر الأزهر بمراحل كثيرة، إذ أنشئ لغرض نشر المذهب الشيعي لتخريج الدعاة الفاطميين، ليروجوا للمذهب الإسماعيلي الشيعي (الشيعة السبعية)، الذي كان مذهب الفاطميين، وحينما تولى صلاح الدين حكم مصر (567هـ/1171م إلى 589هـ/1192م)، حوّله إلى جامعة إسلامية سنّية وظل يدرس المذهب السني حتى الآن.

تمت تسمية الجامع الأزهر بهذا الاسم تيمنا بفاطمة الزهراء، بنت نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشادة بذكراها. إقليميا ودوليا، ظل الأزهر على مدى تاريخه منارة للفكر الإسلامي المستنير، فكان جامعا وجامعة ومؤسسة للتعليم والعلم والبحث في علوم الدين والدنيا، فاتحا أبوابه للطلاب والعلماء من أبناء المسلمين في كل أنحاء العالم الإسلامي، فضلا عن بعثاته التعليمية والدعوية في شتى أرجاء الأرض. وقد حفظت الأمة الإسلامية للأزهر الشريف هذه المكانة، وكسبت مصر باحتوائها إياه مكانة خاصة في العالم الإسلامي، إذ ساعد كثيرا في أن تلعب مصر دورا إقليميا مميزا عبر العصور.

ومحليا، قاد الأزهر بشيوخه وعلمائه المقاومة المصرية ضد الاحتلال بأنواعه كافة، بدءا بمقاومة الحملات الصليبية، والمماليك، ويظل موقفه ضد الحملة الفرنسية على مصر، ماثلا في الأذهان، إذ قاد شيوخ الأزهر الشعب في ثورة القاهرة الأولى عام 1798، وثورة القاهرة الثانية 1800، وبعد خروج الفرنسيين قادوا ثورة 1805 التي انتهت باختيار محمد علي واليا على مصر.

كما ساند الأزهر وعلماؤه الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي. وكان طلبة الأزهر في مقدمة ثورة 1919، بل إن قائد الثورة نفسه سعد زغلول كان من الذين تعلموا وتخرجوا فيه. وحديثا، في عام 1956، لجأ جمال عبد الناصر إلى الجامع الأزهر ليعلن من فوق منبره بدء المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر، وهي خطوة كان لها مفعول السحر عند المصريين، الذين تدفقوا على منطقة قناة السويس ليندرجوا في صفوف المقاومة التي انتهت بجلاء 3 من أكبر قوى العالم آنذاك، إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، عن البلاد.

الأزهر الآن، وعلى مدى السنوات الماضية، صار محل جدل، بعضه ديني وأغلبه سياسي ومنه ما هو ثقافي واجتماعي. الجدل يروح ويتجدد مع كل مناسبة تكون المؤسسة الدينية طرفا فيها، تزيد حدته أحيانا وتنخفض أحيانا أخرى. وقبل 3 أسابيع تجدد الجدل حول من سيتولى منصب شيخ الأزهر بعد وفاة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي. وبعدها بأيام تولى سدة الأزهر شيخ جديد هو الدكتور أحمد الطيب - يحمل الرقم 48 في قائمة شيوخ الأزهر - ليصبح الإمام الأكبر للمسلمين السنّة في العالم، وصاحب المنصب الديني الأبرز الذي لا يتم خلعه إلا بالموت. فلا أحد لديه صلاحية قانونية لعزل شيخ الأزهر، وهو ما يضفي على المنصب جلالا خاصا، ويزيد من خطورة دوره.

وبجلوس الدكتور أحمد الطيب على مقعد شيخ الأزهر - المقعد الأثير لعلماء الإسلام - تتجدد التساؤلات حول الأزهر وقضية تطويره، بخاصة في معية شيخ معروف عنه الاستنارة، ومنفتح على الثقافات الغربية، فهو يجيد الفرنسية، وحصل على دكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، الأمر الذي جعل الكثيرين يترقبون حزمة من الإصلاحات، وضخ دماء جديدة في شرايين الأزهر، يستعيد معها دوره كمنارة علمية توازن بين متطلبات وتغيرات الحياة، ومتطلبات الشريعة، وكيفية تجديد الخطاب الديني، والحفاظ على ثوابته. وفي مقدمة هذه الإصلاحات تبرز طريقة تعيين الإمام الأكبر، وتطوير جامعة الأزهر، والحد من ظاهرة تعدد الفتاوى، وبخاصة بين دار الإفتاء التابعة لوزارة العدل، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، كما يترقب الناس أن يستعيد الأزهر دوره الديني المستنير في الحياة العامة، وكذلك إعادة النظر في قضية رقابة الأزهر على المطبوعات وحدود تدخله فيها وطبيعته.

وفيما يتعلق بتعيين شيخ الأزهر كان النظام المتبع في البدايات الأولى هو أن يختار كبار العلماء من بينهم «ناظر» يشرف على شؤون الأزهر الدينية، حتى استحدث الأزهريون منصب شيخ الأزهر للمرة الأولى في عهد الحكم العثماني ليتولى رئاسة علمائه ويشرف على شؤونه الإدارية، ويحافظ على الأمن والنظام في الأزهر، وكان أول من تولى هذا المنصب هو الشيخ محمد عبد الله الخراشي سنة 1690. وبعد ذلك تمت تسمية هيئة لكبار العلماء تتولى شؤون الأزهر كافة، وعلى رأس مهامها اختيار الإمام الأكبر، وظل هذا الوضع قائما حتى صدر قانون تطوير الأزهر رقم 103 لعام 1961، الذي أعطى رئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر، كما حل مجمع البحوث الإسلامية، محل هيئة كبار العلماء.

ويرى علماء كبار في الأزهر أمثال الدكتور عبد المعطي بيومي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن المجمع بوضعه وشكله الحالي لا يصلح لاختيار شيخ الأزهر، ويحتاج إلى كثير من الإصلاحات التي تتعلق بطريقة اختيار أعضاء المجمع أنفسهم، حتى يتمكنوا من اختيار الشيخ.

علماء آخرون أكدوا في لقاءات متفرقة مع «الشرق الأوسط» أن معركة الأزهر ليست بهذه البساطة، ويقولون: «التحديات التي تواجهنا داخليا وخارجيا، تجاوزت مسألة مصادرة كتاب، أو حتى تعيين الشيخ.. فلدينا في الداخل أنواع مختلفة من التطرف، والمسلمون متهمون في الخارج بالإرهاب.. كل هذا محسوب على الإسلام، والإسلام منه بريء، وعلينا تصحيح الصورة. المسألة ليست دينية فقط بل لها أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وتعليمية.. معركتنا الحقيقية هي الاستيعاب في الداخل أي استيعاب المتطرفين وإعادتهم إلى صحيح الدين، والانفتاح على الخارج في زمن تتسع فيه موجات الخوف من الإسلاميين أو ما يسمونه بـ(الإسلاموفوبيا)».

أما الذين يتحدثون عن تطوير الأزهر، ويقصدون جامعة الأزهر، فهناك من يتحدث عن ضرورة إلغاء الكليات العلمية، والاكتفاء بالكليات التي تُدرس المواد الشرعية، وآخرون يعتبرون أن هذه الخطوة تعتبر «تطويقا» وليس «تطويرا» للأزهر، حيث يرون أنها ستهدم تراث بناه الأزهر عبر عشرات السنين، وتم في إطاره تخريج دعاة أطباء وصيادلة ومهندسين وكيميائيين، وفيزيائيين، ومحاسبين، وإداريين، ومترجمين، فضلا عن الدعاة الدارسين للفقه والشريعة وأصول الدين، وعلوم الحديث والسنة والسيرة. الأحاديث المتفرقة لأساتذة جامعة الأزهر تشير إلى «أزمة» يمر بها التعليم الأزهري.

الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الجديد بادر منذ لحظة تسلمه مهام منصبه بإعلان استمرار مسيرة التطوير التي بدأها في جامعة الأزهر بالتعاون مع الرئيس الجديد للجامعة، بحيث نصل في النهاية إلى أن يكون لدى الأزهر خريجون فاهمون للواقع ومستوعبون للمتغيرات والثقافات. وأضاف: «إننا نسعى لكي يجيد خريج الأزهر، اللغات ويفهم صحيح الإسلام بمنهجه المعتدل ويجمع بين التراث والمعاصرة»، في إشارة إلى محاولته الناجحة بتعميم تدريس اللغات بكليات الجامعة، وبخاصة الكليات الشرعية.

وحول منهجه الفكري قال الطيب إن نشر المنهج الإسلامي الوسطي المعتدل من أهم أولوياته، وشدد على أن الأزهر هو الحارس الأمين على وسطية الإسلام واعتداله، لأن مناهجه الدراسية تقوم على نشر التسامح ونبذ التعصب والابتعاد عن الغلو والتطرف.

الدكتور محمد رأفت عثمان، أستاذ الشريعة في جامعة الأزهر، يرى أن فكرة فصل الكليات العلمية عن الكليات الشرعية، أو الإلغاء، تهدف إلى القضاء على ثقل الأزهر باعتباره جامعة كبيرة ذات تأثير علمي وشرعي كبيرين، وقال: «الإسلام لا يمنع أن يجمع الداعية بين الجانب العلمي العملي والناحية الشرعية، وأنا أرفض نهائيا فصل الكليات العلمية عن الكليات الشرعية، لأن جامعة الأزهر بوضعها الحالي تساعد على تخرج طالب على مستوى عال من الثقافة الإسلامية الوسطية المعتدلة، وكذلك على مستوى العلمي الذي درسه، سواء كان في الطب أو الهندسة أو الصيدلة وغير ذلك».

ويؤكد الدكتور عثمان أن السبب في ضعف دور الأزهر حاليا هو تراجع دور طلاب العلم بشكل ،عام سواء في الأزهر أو المؤسسات الأخرى، ويضيف معلقا: «عندما يضعف دور الخريج يضعف تأثيره في المجتمع داخليا، كما يضعف تأثيره في الخارج بطبيعة الحال»، في إشارة إلى ضعف دور الداعية الإسلامي، ويشير إلى حاجة الأزهر إلى الدعم المادي الكبير كي يستعيد دوره على الأصعدة كافة، أو بعضها على الأقل.

أما بالنسبة إلى مسألة رقابة الأزهر على النشر وعلى المصنفات الفنية، فإن عددا كبيرا من المثقفين يتهمون الأزهر بفرض رقابة دينية على الثقافة وعلى ما أبدعته قريحتهم شعرا ونثرا، حيث يراقب مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ما يُنشر، وقد يقرر مصادرة كتاب يرى أنه يمس «ثوابت الدين».. المثقفون وعلى مدى سنوات طويلة يخوضون معركة ضد أنواع الرقابة كافة على كتاباتهم.. لكن رجال الأزهر عقبوا على تلك المعارك قائلين في أكثر من مناسبة وعلى لسان الكثير من العلماء: «لن نسمح بالتفريط في ثوابت ديننا».

رجال الأزهر - مدعومون قانونا - يقفون في جانب، والكتّاب والفنانون على الجانب الآخر مسلحون بكلماتهم.. يصعب أن يلتقيا، حيث يصر الأزهريون على أنهم سيقفون بالمرصاد، لكل ما يرونه «مساسا بالدين»، والمثقفون بحكم ميلهم إلى الحرية يريدون إلغاء أنواع الرقابة جميعها، ويرون أن الرد على الكتابة يكون من النوع نفسه، أي بكتابة أخرى وليس بفرض سلطة على الإبداع.

مجلس الدولة حسم الأمر حين أصدر حكما عام 2004 قال فيه: «إن تقدير الشأن الإسلامي فيما يتعلق بحماية النظام العام والآداب والمصالح العليا للدولة، من ولاية الأزهر وهيئاته وإداراته حسب قانونه».

ويؤكد الدكتور أحمد الشريعي، عضو الأستاذ في جامعة الأزهر، عضو مجمع الفقه، إن الأزهر لا يصادر الإبداع بل يدعمه بشدة، ويقول: «نحن نتصدى فقط لمن يتطاول على الدين والشرع والسنة والرسول وصحابته والأنبياء كافة»، ويتساءل: «هل من يتطاول على هؤلاء مبدعا؟ أليس أدعى لأي كاتب أن يهتم بقضايا المجتمع من دون أن يتعرض للدين الذي هو عماد أساسي في تكوين الأمة؟».

إلى ذلك، يعود احتفاظ الأزهر على مدى تاريخه بمكانته الروحية والقيادية، إلى استقلاليته عن الدولة ونظام الحكم فيها، إذ ظل الأزهر كمؤسسة حتى خمسينات القرن الماضي، يدير أمواله وأوقافه بنفسه ولحسابه، ولم يلجأ إلى الدولة في أي شيء، بل كان الحكام يستمدون منه جزءا من شرعيتهم.. حتى جاءت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، فبدأت منذ عامها الأول في القضاء على استقلاليته حين وضعت يد الدولة على أوقاف الأزهر، وجعلته مؤسسة حكومية. وفي 21 سبتمبر (أيلول) 1953، قررت إلغاء المحاكم الشرعية الخاصة بالأحوال الشخصية تماما، وضمها إلى المحاكم العامة وألغت كل القوانين المتعلقة بترتيبها واختصاصها وألحقت دعاوى الأحوال الشخصية والوقف والولاية إلى القضاء العادي.

واستكملت ثورة يوليو حلقات السيطرة على الأزهر عام 1961، حين أصدرت القانون رقم 101، الذي يسند صلاحية تعيين شيخ الأزهر ووكيله ورئيس جامعته وعمداء كلياته إلى رئاسة الجمهورية، ليفقد الأزهر استقلاليته تماما، بعد أن أصبح مؤسسة حكومية تابعة للنظام الحاكم في مصر.