السؤال الذي يشغل أوروبا

صعود اليمين المتطرف يواجهها ومواطنيها ومهاجريها بسؤال الهوية والاندماج والمواطنة

اليمين المتطرف في اوروبا يشكل تحديا لحالة الاندماج في القارة (إ.ب.أ)
TT

في التاسع من يونيو (حزيران) القادم، يتوجه الهولنديون إلى صناديق الاقتراع في إطار الانتخابات التشريعية. والسؤال الذي يشغل هولندا ومعها الاتحاد الأوروبي ليس برامج الأحزاب المتنافسة ولكن معرفة ما إذا كان حزب اليمين المتطرف المسمى «حزب الحرية» (PVV) سيحدث المفاجأة التي يعد بها ناخبيه بأن يتحول إلى أول قوة سياسية في البلاد وبالتالي يتولى دفة الحكم في هولندا لتطبيق برنامج يميني متطرف أساسه الأول العداء للإسلام والأجانب وتنفيذ سياسة تمييزية عنصرية وقومية. وبالنظر إلى ما حصل عليه «حزب الحرية» في الانتخابات البلدية العام الماضي حيث حصد بقيادة زعيمه غيرت فيلدرز على 17 في المائة من الأصوات وتحول إلى القوة السياسية الثانية، فإن كثيرا من المراقبين لا يستبعدون أن تكون هولندا أول دولة داخل الاتحاد الأوروبي يحكمها اليمين المتطرف الذي تتعارض فلسفته مع الفلسفة التي قام عليها الاتحاد وأيضا مع معايير حقوق الإنسان التي تسهر عليها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

وما يحصل في هولندا ليس حالة منعزل، فاليمين المتطرف الأوروبي يسجل نقاطا في غالبية الدول الأوروبية: فرنسا، وبلجيكا، وإيطاليا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، ورومانيا، والنمسا، والدنمارك، وفنلنده، وسويسرا. والأساس الأيديولوجي الذي ينهض عليه واحد: هو الخوف من فقدان الهوية الوطنية، والخوف من الإسلام ومن الأجنبي بشكل عام خصوصا إذا جاء من المستعمرات السابقة أو من بلدان بعيدة.

ويقول المحلل السياسي الفرنسي ألان دوهاميل، في محاولة منه لتحديد الآليات التي يتوسلها اليمين المتطرف لكسب عطف الناخبين وتأييدهم، إن الخيوط تقود كلها إلى وجود «أزمة» مرتبطة من ناحية بموضوع أزمة الهوية الوطنية، ومن ناحية أخرى الأزمة الاقتصادية المتأتية عن العولمة.

وفي كلتا الحالتين، ثمة بحث عن «مذنبين». وهؤلاء هم أحيانا المسلمون الذين يصعب دمجهم في المجتمعات الأوروبية بسبب ما يثيرون من خوف من تقاليدهم وعاداتهم التي تغير وجه البلد المضيف وأحيانا أخرى اليهود أو الأقليات الإثنية وما شابه. ففي المجر، أظهرت الانتخابات التشريعية التي حصلت الشهر الماضي أن حزب اليمين المتطرف الجديد المسمى «جوبيك» قد أحرز تقدما باهرا، إذ حصد 16,7 في المائة من الأصوات ليكون بذلك القوة السياسية الثالثة في البلاد بعد اليمين الكلاسيكي الذي يقوده فيكتور أوروبان والاشتراكيون.

ويمثل حزب «جوبيك» الذي يتزعمه غابور فونا الصيغة الجديدة للمنظمة الميليشاوية المسماة «الحرس المجري» الممنوعة رسميا التي رأت النور قبل سبع سنوات. وفي العام الماضي، حقق الحزب المذكور أول نجاح له حيث استطاع أن يوصل اثنين من مرشحيه إلى البرلمان الأوروبي. أما في الانتخابات التشريعية، فقد قطع خطوة إضافية حيث أثبت حضوره الانتخابي والسياسي ونجح في تكوين مجموعة نيابية من 47 نائبا معتمدا في دعايته الانتخابية على رفع لواء معارضة الاتحاد الأوروبي والتنديد بهيمنة صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية على الاقتصاد المجري فضلا عن العودة إلى «أساسياته» الدعائية في محاربة الحضور اليهودي والتنديد بالأقلية الغجرية الموجودة في المجر.

لكن تأثير اليمين المتطرف لا يقاس فقط بعدد المقاعد التي حصل عليها بل بقدرته على التأثير على النقاش السياسي في البلاد، حيث إن حزب «فيديش» الذي حصل على ثلثي مقاعد البرلمان جبر مواضيع القومية التي يروج لها «جوبيك» مثل الدفاع عن الأقليات المجرية الموجودة خارج الحدود والتركيز على إعطاء الأولوية للمؤسسات والشركات الوطنية على المؤسسات المتعددة الجنسية وتحميل هذه الأخيرة مسؤولية صعوبات بودابست الاقتصادية والمالية والأزمة التي دفعت بها إلى أحضان صندوق النقد الدولي. والأهم من كل ذلك أن حزب «جوبيك» أوجد «مناخا عاما» يمجد «الشعور القومي» المجري ويحمل الطبقة السياسية بكل أطيافها مسؤولية «الانحطاط» الذي أصاب الأمة، ويعد بإنهاضها من كبوتها.

* «موزار» يكره الإسلام ومعجب بإسرائيل

* تقول باسكال جوانين، المديرة العامة لمؤسسة «روبير شومان» الداعية إلى التكامل الأوروبي، إن وجه الخطورة في التحولات السياسية الحاصلة في هولندا أنها «تطال بلدا مؤسسا للاتحاد ولا تطاله الأزمة الاقتصادية التي تضرب المجر» التي انضمت حديثا إلى الأسرة الأوروبية وتعاني من أزمة مالية - اقتصادية خانقة.

وتضيف هذه الباحثة السياسية والاجتماعية أن اليمين المتطرف الذي أخذ يتقدم بسرعة منذ أن انفجر التحالف الحاكم في البلاد بسبب الخلاف على السياسة الواجب اتباعها إزاء أفغانستان ومشاركة قوات هولندية في الحرب على «طالبان»: «يتوكأ على الشعور الذي أخذ ينتاب نسبة من الهولنديين بأنهم بصدد خسارة هويتهم الوطنية بسبب المهاجرين كما يستثمر الشعور المعادي لبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) وللطبقة السياسية التي حكمت بالتناوب أو معا ولم تعرف أن تواجه هذه المشكلات». وتخلص باسكال جوانين إلى القول إن «هوس هولندا أنها بلد أوروبي صغير يخاف من أن تذوب هويته في محيط أجنبي» داخلي وخارجي.

ويقول الباحث لوران مارشان، في مقال نشرته صحيفة «وست فرانس» في 23 من الشهر الماضي، إن «الخوف الأكبر» للهولنديين هو الإسلام الذي يرون فيه «حصان طروادة» الذي يهدد صورة البلاد و«جوهرها». ويرى مارشان أن اغتيال تيم فورتوين عام 2002 وبعده ثيو فان غوغ عام 2004 جسد بالنسبة إلى الهولنديين «الخطر الإسلامي» وقوى النزعات المعادية له. الأول قتله متعصب هولندي اسمه فولكر فان در غراف قبل ستة أيام من الانتخابات التشريعية. وخلال محاكمته قال غراف إنه قتل فورتوين «لمنعه من استغلال المسلمين في دعايته الانتخابية إذ إنهم الطرف الأضعف». وأثار اغتياله تعاطفا شعبيا مع لائحته التي حصلت على 1.61 مليون صوت مما مكنها من الفوز بـ26 مقعدا في البرلمان (17 في المائة من مجموع المقاعد) والتحول إلى القوة السياسية الثانية في البلاد بفضل تركيزها على ثلاثة محاور دعائية: معاداة الإسلام والمهاجرين والاتحاد الأوروبي. أما فان غوغ وهو حفيد شقيق الرسام الهولندي الشهير فنسان فان غوغ، فقد اغتاله محمد بويري في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) بسبب استفزازاته للمسلمين والإسلام وآخرها إخراجه فيلما حمل اسم «الخضوع» وفيه يظهر امرأة عارية خطت على جسدها آيات قرآنية.

يعد غيرت فيلدرز الوريث الشرعي لتيم فورتوين، فهو مثله شديد التعصب وبالغ العداء ضد الإسلام. ويصنف فيلدرز البالغ من العمر 46 عاما والمسمى «موزار» بسبب تسريحة شعره على يمين أقصى اليمين المتطرف. وقد منع العام الماضي من زيارة بريطانيا لتخوف السلطات البريطانية من «رسالة الحقد والعنف» التي يحملها ويعمل على بثها. و«موزار» ملاحق في بلاده بسبب تشبيهه القرآن الكريم بكتاب هتلر «كفاحي». وكان فيلدرز قد وصف الإسلام بأنه «دين فاشي». فضلا عن ذلك، فإن حزبه يضم في صفوفه مجموعات هولندية فاشية. ويتميز فيلدرز بأنه «صديق لإسرائيل» التي يرتادها باستمرار وسبق له أن عاش في إحدى الكيبوتزات وهو لا يفوت فرصة للإعراب عن «انبهاره» بـ«المعجزة الإسرائيلية».

و«حزب الحرية» الذي يتزعمه مؤهل لأن يضاهيه في الانتصار الانتخابي الذي حققه فورتوين في عام 2002. وفي الانتخابات البلدية في شهر أبريل (نيسان) الماضي، حصل حزب فيلدرز الذي تأسس في عام 2006 على المرتبة الأولى في مدينة ألمير القريبة من أمستردام وعلى المرتبة الثانية في مدينة لاهاي. وعلق فيلدرز على ذلك بقوله إن «ما كان ممكنا في هاتين المدينتين يمكن تحقيقه على مستوى هولندا ككل. سوف نسيطر على البلد بكليته وسنشكل الحزب الأول فيه بعد انتخابات 9 يونيو».

والتف أنصار فيلدرز ومحازبوه حول شعار «محاربة أسلمة هولندا». وليست نتائج أبريل الماضي المفاجأة الأولى للحزب إذ إنه فاجأ الهولنديين في الانتخابات الأوروبية قبل عام إذ حل في المرتبة الثانية على المستوى الوطني بحصوله على 16.7 في المائة من الأصوات «بعد الحزب اليميني المحافظ» وقبل الحزب العمالي. ولذا فإن انتخابات الشهر القادم ستكون حاسمة لحزب الحرية ولهولندا بشكل عام إذ ستبين المسار الذي سيسلكه هذا البلد الذي اشتهر في الماضي بتسامحه وباحترام التعددية الثقافية والدينية. لكنه اليوم مرشح لأن يكون أول بلد في الاتحاد الأوروبي يحكمه «موزار» عنصري ومتطرف.

في 29 أبريل الماضي وعلى الرغم من الأزمة السياسية واقتراب موعد حله، صوت البرلمان البلجيكي بإجماع أعضائه (باستثناء صوتين من أصل 138 صوتا) على قانون يمنع بموجبه ارتداء البرقع منعا تاما في كل الأماكن العامة في البلاد بما في ذلك الشوارع والساحات والحدائق... وبذلك تكون بلجيكا قد خطت الخطوة الأولى في أوروبا على درب إصدار تشريعات تطوق انتشار ظاهرة النقاب. وينص القانون الذي لم يصبح بعد نافذا على تغريم المرأة المخالفة مبلغا ماليا أو إنزال عقوبة السجن بها قد تصل إلى سبعة أيام إذا ما تكررت مخالفتها. وعلى الرغم من أن مجموعة اليمين المتطرف لمنطقة الفلاندر المسماة «Vlaams Belang» صوتت لصالح القانون، فإنها انتقدته لعدم تشدده وللمطالبة بالتزامات من الحكومة بتطبيق الأحكام الواردة فيه. وعلق نائب ليبرالي على إجماع النواب بقوله إن حظر النقاب في بلجيكا «عنصر للافتخار بالانتماء إلى بلجيكا».

تقول الباحثة الاجتماعية ناتالي لاكوب، في مقال لها في صحيفة «لاكروا» الكاثوليكية الفرنسية إن بلجيكا مثل هولندا، بلد صغير «خائف من ضياع هويته». ويبدو وضع بلجيكا أكثر هشاشة إذ إنها إلى حد ما «بلد مركب» وحديث العهد وهو محكوم بنزاعات لغوية وإثنية واقتصادية واجتماعية وبنزعات انفصالية رأس حربتها الحزب الفلاندري العنصري (VB).

وهذا الحزب ورث في الواقع حزب «الكتلة الفلاندرية» (Vlaams Block) الذي أمرت أعلى سلطة قضائية في بلجيكا نهاية عام 2004 بحله لكونه يضم جمعيات عنصرية. وما كان من قادته إلا أن اجتمعوا وأوجدوا حزبا جديدا أبقى على شعاره القديم وعلمه «الأصفر والأسود» وقادته ودعايته السياسية. وينص البرنامج السياسي لهذا الحزب على انفصال منطقة الفلاندر واستقلالها عن بلجيكا وعلى محاربة الهجرة والدفاع عن القيم العائلية التقليدية والعداء للإسلام وحماية الثقافة والحضارة الغربية المتفوقة. وكان أحد زعمائه واسمه فيليب دو مان يزعم أن المسلم «لا يمكن أن يكون ديمقراطيا» وأن الإسلام «لا يستطيع التعايش مع القيم الغربية» ولذا فإنه «يشكل خطرا عليها». وفي المقلب الآخر، أي لدى البلجيكيين الفرنكوفونيين، ثمة حضور لأحزاب اليمين المتطرف وأشهر مكوناته «الجبهة الوطنية» التي تستوحي اسم وأيديولوجية الجبهة الوطنية الفرنسية التي تزعمها حتى الآن جان ماري لو بن. غير أن هذه الجبهة لا تتمتع بالحضور نفسه الذي يتمتع به اليمين المتطرف لدى الفلاندريين، لكنها، بأي حال، تشكل حالة أيديولوجية يعتبر الكثيرون أنها يمكن أن تنمو أكثر مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ولذا وبالنظر إلى الصعود المتنامي لليمين المتطرف، فإن الأنظار تنصب على الاستحقاق الانتخابي في بلجيكا حيث ينظر إلى الانتخابات التي لا بد أن تحصل في الأسابيع القادمة كمخرج من الأزمة السياسية والمؤسساتية التي تعيشها البلاد. ويتوقع المراقبون أن توسع تيارات اليمين المتطرف حضورها مما يعني ذلك استهدافا إضافيا للمهاجرين والإسلام والتركيز على مواضيع الهوية وامتداداتها التقسيمية.

* جان ماري لوبن

* في الأول من مايو (أيار)، وقف جان ماري لوبن يخطب في محازبي حزب الجبهة الوطنية تحت تمثال جان دارك، بطلة تحرير فرنسا من الإنجليز، وذلك للمرة الأخيرة في تاريخه السياسي. فزعيم اليمين المتطرف البالغ من العمر 81 عاما قرر ترك المعترك السياسي وتسليم القيادة إلى ابنته مارين لوبن التي تبدو واثقة من خلافة والدها على الرغم من أن الجبهة الوطنية ستعقد مؤتمرا عاما بداية العام القادم لتسمية رئيسها الجديد. وتنافس مارين لوبن أحد رفقاء الأب وهو برونو غولنيش. غير أن المراقبين يعتبرون أن العملية محسومة سلفا وأن لوبن الأب قد هيأ ابنته لتكمل مشوار اليمين المتطرف في فرنسا باعتبار أنها تحمل اسمه من جانب وتتمتع بالكفاءات السياسية التي تؤهلها لهذا المنصب كما أنها شابة وتجيد الخطابة ولذا فإنه ينظر إليها على أنها الوريثة المنتظرة التي سيعود إليها تجديد الجبهة الوطنية.

ويترك لوبن المسرح السياسي من الباب الواسع وذلك بفضل الانتخابات الإقليمية التي جرت في شهر مارس (آذار) الماضي والتي أعادت اليمين الفرنسي المتطرف إلى الواجهة. فقد حصل لوبن في الدورة الانتخابية الثانية على 22.8 في المائة من الأصوات في منطقة الألب - الشاطئ اللازوردي - وحصلت ابنته على نسبة مشابهة (22.2 في المائة) في منطقة شمال فرنسا كما استطاعت الجبهة الوطنية أن تتنافس للدورة الثانية في 12 منطقة من أصل 22 وأن تحصل على نسبة إجمالية وصلت إلى 17.8 في المائة. وفي الدورة الأولى من هذه الانتخابات، حصدت الجبهة الوطنية 2.2 مليون صوت (11.42 في المائة) مقابل 1.1 مليون صوت (6.34 في المائة) في الانتخابات الأوروبية في عام 2009 مما يعني أنها ضاعفت كثيرا من أصواتها خلال أقل من عام وعادت لتفرض نفسها لاعبا رئيسيا على الساحة السياسية الفرنسية. وفي خطابه المشار إليه، أعلن لوبن أن جبهته «لن تتوقف عند هذا الحد» وأن النتيجة التي حصلت عليها «مقدمة للمعارك اللاحقة التي ستخوضها من أجل بناء مستقبل مختلف» إذ إن هوية فرنسا «مهددة» وهي «تناضل من أجل بقائها». وخلص لوبن الذي أسس الجبهة الوطنية في عام 1972 إلى القول: «هذا ربيع الأمة ونحن نحضر لموسم الحصاد».

والواقع أن عودة الجبهة الوطنية بقوة مردها إلى الخيبة التي أصابت الكثير من ناخبيها الذين تركوها في الانتخابات الرئاسية في عام 2007 والتحقوا بالمرشح نيكولا ساركوزي. وكان الأخير استعاد نوعا ما خطاب الجبهة المتشدد الذي يركز على الأمن والسلامة العامة ووقف تيار الهجرة الكثيفة إلى فرنسا وتقنين الهجرة «المختارة» والدفاع عن الهوية الفرنسية والحاجة إلى إثبات حضور الدولة وأجهزتها على كل الأراضي الفرنسية. وأكد ساركوزي أكثر من مرة أنه «قتل» الجبهة الوطنية عندما «شفط» الكثير من ناخبيها في الانتخابات الرئاسية إلى درجة أن الجبهة دخلت مرحلة الانحطاط وعرفت صعوبات مالية كبيرة وتراجع عدد المنتسبين إليها. ولكن بعد ثلاث سنوات من رئاسة ساركوزي، تبين لناخبي الجبهة الوطنية أن المشكلات ما زالت مكانها على الرغم من «الإصلاحات» التي قامت بها حكومة فرنسوا فيون وأن الوعود بتحسين القوة الشرائية للفرنسيين ومحاربة البطالة لم يتحقق منها الكثير.

فضلا عن ذلك، يرى المراقبون أن ساركوزي «خدم» من حيث لا يدري جان ماري لوبن عندما طلب من وزير الهجرة والهوية الوطنية أريك بيسون طرح موضوع هذه الهوية على النقاش العام مما أطلق الخطاب العنصري والمعادي للإسلام من عقاله وأفضى إلى الترويج مجددا لخطاب الجبهة الوطنية. ويربط كثيرون بين عزم الحكومة الفرنسية على استصدار قانون يمنع ارتداء البرقع على كل الأراضي الفرنسية بالرغبة في الالتفاف على الجبهة الوطنية واستعادة أصوات ناخبيها في الاستحقاقات القادمة وأهمها الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ربيع عام 2012. لكن زمن المجد الذي عرفه لوبن في الانتخابات الرئاسية عام 2002 عندما استطاع التأهل للدورة الانتخابية الثانية على حساب مرشح اليسار رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان لا يبدو أنه سيتكرر على الرغم من العودة القوية للجبهة الوطنية. ومع ذلك، فإن اليمين المتطرف أصبح أحد المكونات الثابتة في المشهد السياسي الفرنسي.

* ثوابت اليمين المتطرف في أوروبا يرى الباحثون في طفرة أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ظاهرة سياسية - اجتماعية مقلقة سمتها الأولى أن تراجع الأحزاب التقليدية لم يفد، كما في الماضي، الأحزاب اليسارية ويسار اليسار التي لم تعد تشكل راية الاحتجاج على الواقع القائم والوعد بتغييره بل أفاد اليمين المتطرف. والوجه الثاني للأزمة أن هذا اليمين تحول في كثير من البلدان الأوروبية من مجموعات هامشية إلى أحزاب تشارك في الحكومات مما يجمل صورتها الإجمالية و«يطبع» وجودها في المشهد السياسي. وكانت النمسا أول من اجتاز هذه الخطوة في عام 2000. وفي إيطاليا، تشارك «عصبة الشمال» اليمينية المتطرفة التي يتزعمها أومبرتو بوسي في حكومة سيلفيو برلسكوني. أما إذا بقيت هذه الأحزاب خارج جنة الحكم كما في الدنمارك، فإنها توفر الدعم للحكومات القائمة لتؤثر على قراراتها وتوجهاتها. وفي كل الأحوال، فإن أدبياتها السياسية أصبحت رائجة، لا بل إنها دخلت في البرامج السياسية والاقتصادية الحكومية.

ويمثل العداء للإسلام في بلدان أوروبا الغربية مهما تكن الجنسية الأصلية (شمال أفريقيا، أو جنوب شرق آسيا، أو أفريقيا...) لمعتنقيه الخيط الرابط بين قوى اليمين المتطرف. وفي الأشهر الأخيرة برز ذلك من خلال الجدل حول بناء المساجد أو المآذن كما في سويسرا أو فرنسا أو بلجيكا، أو حول البرقع والقوانين قيد الصدور لمنعه منعا تاما في الفضاء العام.

ولا تشذ بريطانيا عن هذا المعطى على الرغم من ترسخ ديمقراطيتها. فزعيم المحافظين دايفيد كاميرون أطلق حملته الانتخابية في مدينة ليدز حيث استعاد خطاب الحزب القومي البريطاني «BNP» بالدعوة إلى سلوك سياسات «تأخذ بعين الاعتبار أوضاع الناس العاديين الذين يعملون حقيقة لتنشئة عائلاتهم والذين يدفعون الضرائب ويخضعون لحكم القانون ويسيرون على الطريق القويم». واغتنم كاميرون المناسبة ليؤكد أن ثمة «إكثارا» في الهجرة إلى بريطانيا وأنه حان الوقت لاتباع سياسة الحصص (الكوتا) للمهاجرين وإنشاء شرطة الحدود لتطبيق هذه السياسة. وهذه المواضيع كلها ماركة مسجلة للحزب القومي البريطاني الذي بقي حتى تاريخه هامشيا، إذ لم ينجح حتى الآن في إرسال أي نائب عنه إلى البرلمان، وجل ما حصل عليه فوزه بنائبين في البرلمان الأوروبي.

يبقى أن هذا التطور السياسي - الاجتماعي انعكس تطورا في العقليات والممارسات. فعندما تشكلت في عام 2000 حكومة المحافظين في النمسا ومن بين صفوفها الزعيم اليميني المتطرف يورغ هايدر، ثارت ثائرة الدول الأوروبية الأخرى التي صدمها الأمر فقامت بمقاطعة الحكومة النمساوية «قدر الإمكان»، لا بل إنها فرضت عليها نوعا من «العقوبات» أو المقاطعة. أما الآن، فإن الوضع تغير وتغيرت الذهنية التي تتحكم في الأوروبيين وأصبح أمرا عاديا وجود اليمين المتطرف بخطاباته التمييزية والعنصرية في هذه الحكومة أو تلك.