الأغنية السياسية.. دفتر أحوال مصر

واكبت أفراحهم وأتراحهم ودشن ملامحها سيد درويش

TT

عندما عاد سعد زغلول، زعيم الأمة المصرية من منفاه عام 1923 ليستقبله الآلاف من المصريين في الإسكندرية.. كان جثمان موسيقار مصر العظيم سيد درويش يوارى الثرى، وهو بعد في الواحدة والثلاثين من عمره، كان الحزن عليه يتوارى بجانب فرحة الاستقبال، لكن عزاء درويش أن غناءه خرج صادحا من حناجر المستقبلين للزعيم.. «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي».. وهي الأغنية التي أعدها ولحنها لاستقبال الزعيم لكن القدر لم يمهله لغنائها أمامه.. وبعد نصف قرن، أصبحت أغنيته النشيد الوطني لمصر.

كان درويش رائد ما عرف بالأغنية السياسية في مصر، التي ثوَّرت الناس وحشدتهم للكفاح.. واعترضت في الوقت نفسه على أفعال الساسة وقمع المحتل.. فهو من استنهض المصريين بـ«قوم يا مصري.. مصر ديما بتناديك. قوم لنصري، نصري دين واجب عليك».. في أعقاب ثورة 1919. كما حثهم على الاعتراض على أسعار المحروقات فناداهم قائلا: «استعجبوا يا أفندية لتر الجاز بروبية». وكان أول من غنى ما عرفته الأجيال الجديدة بمصطلح «الغناء البديل»، الذي يغنى للصنايعية والعمال والفلاحين بعيدا عن الهيام العاطفي ووصاية المؤسسة.. وميراث النغم «العثمانلي» الثقيل. وخلال الفترة الليبرالية من تاريخ مصر، الممتدة من العشرينات إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي، احتلت الأغنية دورا مهما في العملية السياسية. اتكأ عليها مقاومو الاحتلال ومناصرو الأحزاب. فاستعان بها حتى أكثر الجماعات يمينا ومحافظة خلال هذا الوقت ومنها الإخوان المسلمون. فبحسب دراسة كتبها حسام تمام عن أغاني الإخوان في تلك الفترة، بزغ نشيد كتبه أحمد حسن «الباقوري» هو «معشر الإخوان» تقول كلماته: «يا معشر الإخوان لا تترددوا.. عن حوضكم حيث الرسول محمد.. نادتكم الفردوس فامضوا نحوها في دعوة الإسلام عزوا واسعدوا». واستلهمت الأحزاب والحركات تراثا من الغناء السياسي في العالم، مثلما كان الأميركيون يمجدون الجنرال واشنطن في أعقاب ثورتهم. السلطة أيضا لجأت إلى الأغنية لحشد التأييد لزعيمها، فغنت أم كلثوم للملك فاروق مثلا: «اجمعي يا مصر أزهار الأماني يوم ميلاد المليك.. واهتفي من بعد تقديم التهاني شعب مصر يفتديك». وفي نهاية مشوارها الليبرالي، كانت مصر على موعد مع ضربات عنيفة، منها هزيمة 1948 في حرب فلسطين، وتفجر الأوضاع الداخلية والسخط الاجتماعي، فجاءت الأغنية لتداوي بعض الجراح وتنمي الثقة بالنفس، غنت أم كلثوم في عام 1951 «مصر تتحدث عن نفسها» لحافظ إبراهيم. وتفرعت الأغنية السياسية، فلم تعد تقتصر على حشد الناس والمقاومة مثلما فعل درويش أو مدح الحكام، بل اشتملت أيضا على الفخر بالوطن.

ومع قيام ثورة يولية 1952 في مصر، دخلت الأغنية السياسية عصرا جديدا، فأصبح ظهورها يتواكب مع ثورة الإذاعة وفوران حركات التحرير. استخدمت الأغنية كوسيلة للمد الثوري وسلاح للتبشير بالعهد الجديد، فغنت أم كلثوم مثلا للثائرين الجدد من كلمات عبد الفتاح مصطفى: «ثوار.. ثوار ولآخر مدى».

وفي السياق نفسه، كان عبد الحليم حافظ يغني: «ثورتنا المصرية أهدافها الحرية وعدالة اجتماعية ونزاهة ووطنية».

وكان النشيد الجماعي «وطني الأكبر» هو المعْلم الأهم في حقبة الستينات للأغنية السياسية الرسمية في مصر، معبرا عن طموح الثورة الوحدوي، ويقول مطلعه: «وطني حبيبي الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم أمجاده بتكتر وانتصاراته ماليه حياته». وبعد أن اشترك أغلب مطربي مصر في الاحتفاء بالعهد الجديد، تحول عبد الحليم حافظ مع كلمات صلاح جاهين إلى ما يشبه مطرب الثورة الرسمي، تفاعل مع مشروعاتها، وتحدياتها ومعاركها، وكان أول لقاء بينه وبين صلاح جاهين وكمال الطويل، وهم الثلاثي الذي أنتج الروائع الوطنية في عهد الثورة عام 1956 بأغنية «حكاية شعب»، التي تروي ملحمة بناء السد العالي: «قولنا هنبني وادي احنا بنينا السد العالي.. يا استعمار بنيناه بأدينا السد العالي». كما توحد الشدو للثورة ومشروعاتها مع الغناء لزعيمها جمال عبد الناصر، فشدا عبد الحليم في أغنية «المسؤولية» من كلمات جاهين: «ريسنا ملاح ومعدينا.. عامل وفلاح من أهالينا.. ومنا فينا الموج والمركب..والصحبة والريس والزينة». لكن مع النكسة والهزيمة القاسية، انهار المشروع واتجهت الأغنية السياسية اتجاهين، الأول سعى لتضميد الجراح وإعادة الحشد، والثاني فجر الغضب وحنق على الثورة ونظامها التسلطي. كان الأبنودي وعبد الحليم أول من تفاعل مع الجرح، فكانت «عدى النهار»، التي حاولت كلماتها الحزينة لملمته: «عدى النهـــار.. والمغربية جاية».

على المنهاج نفسه ومع تسارع طلقات ما عرف بحرب الاستنزاف، كانت أغنيات الصمود ملاذا لشد الأزر، وظهرت أصوات جديدة عبرت عن الرفض العربي للهزيمة بصرف النظر عن موقفها من النظام. كان محمد حمام واحدا من أصوات اليسار، دخل معتقلات الستينات وذاق تعذيبها، لكن مرارته الشخصية لم تمنعه من غناء يا «بيوت السويس» التي كتبها الأبنودي، قالت الأغنية: «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي.. أستشهد تحتك وتعيشي إنتي.. يا بيوت السويس يا بيوت السويس.. هيلا هيلا هيلا يا لله يا بلديا شمر درعاتك الدنيا أهيه».

أيضا في تلك الأثناء، برزت السخرية من النظام وانتقاد الأوضاع الاجتماعية المتردية، وفتحت النوافذ بقوة لنوع آخر من الغناء السياسي، تلاحم مع صفوف الجماهير وشارك في انتفاضاتهم وتظاهراتهم، متمثلا بامتياز في الثنائي اللاذع: الشيخ إمام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم. كانت نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، هي التي أنقذت أحمد فؤاد نجم الشاعر الخارج من السجن على إثر قضية جنائية، والشيخ إمام الضرير الذي تعلم الموسيقى والعزف والتلحين في مدرسة المشايخ، وكانت أغنية «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا.. يا محلى رجعة ضباطنا من خط النار.. يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار».

نفض بركان «الهجاء السياسي» عن كاهله تراب «أغاني الثورة»، وزعيمها عبد الناصر، وأصبح أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ظاهرة، فقد طالت ألسنتها رموز النظام ككل في تلك الفترة، ومنهم رموز الغناء فهاجما أم كلثوم وعبد الحليم ويوسف السباعي، وظهر ما عرف بـ«غناء الثورة على الثورة»، ثم اتسعت الظاهرة لتشمل التعاطف مع الثوار ومهاجمة أباطرة الرأسمالية، والطغيان، والاحتلال، والإقطاع.. فغنيا لجيفارا، واستنزاف الوطن.

بينما لم ينس أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، بعد أن هدأ الغضب، أن يمارسا دورهما في حشد الهمم وإعداد المصريين للمواجهة وإعادة الثقة بنفوسهم لحرب أكتوبر (تشرين الأول)، فكانت رائعتهما «بهية» في صورة فيلم «العصفور» ليوسف شاهين، بمثابة مرثية أمل موجعة، وأيضا شارة على الصمود والتجاوز والتحدي لمحن الزمن وعثرات الحياة. يقول مطلع الأغنية: «مصر يا امه يا بهية يا أم طرحة وجلابية.. الزمان شاب وانتي شابة.. هو رايح وانتي جاية». كما برزت أسماء أخرى تشد على قلوب المصريين وتدور على الجبهات ومنهم الشاعر إبراهيم رضوان صاحب كلمات: «مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد.. يا ضهر من غير جلد إنجلد»، التي غناها محمد نوح وتحولت إلى ما يشبه الأيقونة الثورية. وفي عصر الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، أعاد نصر أكتوبر الحياة للأغنية السياسية مشهدها «الاحتفائي». وكان من الواضح أن رموز الأغنية الوطنية في الستينات قد تعلموا الدرس، فقللوا من شدوهم لأشخاص حتى لو كان الرئيس، وركزوا على صناع الفرح من العساكر والضباط والشهداء، والضحايا المهمشين، وأعادوا للوطن اعتباره فغنوا لأصالته وتاريخه. وكانت «على الربابة»، التي غنتها وردة ولحنها بليغ حمدي وكتب كلماتها عبد الرحيم منصور.

بعد انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973 وقبلها بعامين، كانت أغنية الهجاء السياسي على أشدها، واتسعت ظاهرة الشيخ إمام ومحمد فؤاد نجم لتهاجم من استقبلوا نيكسون بطل الوترجيت «شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الوترجيت.. عملولك قيما وسيما سلاطين الفول والزيت». واستمرت تفرعات الأغنية السياسية في عصر الرئيس المصري محمد حسني مبارك، فمنها ما وجه إليه شخصيا مثل أوبريت «اخترناك»، الذي لحنه عمار الشريعي واشترك فيه عدد من المطربين والمطربات بينهم لطيفة ومحمد رشدي، ومحمد ثروت، وبعضها استمر يشدو للوطن «مصريتنا حماها الله» لمحمد ثروت، و«بلدي» لمحمد ثروت وهاني شاكر. أو روائع من قبيل «حبيبتي من ضفايرها طل القمر» من كلمات سيد حجاب.

وبينما ترسخت الأغنية السياسية المهتمة بالشأن العام، ظهرت أصوات جديدة وسط الطلبة وتجمعات المثقفين وإن خفت توهجها على عكس ما كان مع نجم وإمام، فكانت أسماء مثل وجيه عزيز الذي شدا بأشعار فؤاد حداد وعلي سلامة.

بينما استمرت أغاني القضية الفلسطينية على توهجها واشتعالها وخاصة وقت التوتر، لكن مع اتساع الفضائيات خف وهج الأغنية السياسية بصدقها وعفويتها، واعتراها غبار الربح المادي والخسارة، وتحولت إلى سلعة، يتسابق عليها المطربون، ويؤدونها أحيانا بلا روح وحماس. وإزاء ما عرف بربيع الديمقراطية في مصر واتساع مساحة نقد السلطة، كانت الأغنية ساحة للتراشق، ازدهرت ظاهرة الفرق الموسيقية المتخصصة بالغناء البديل أو السياسي، ومنها فرقة «إسكندريلا» و«أنا المصري». كما برزت أغاني المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم ليغني لوزير الخارجية المصري آنذاك عمرو موسى «أنا بكره إسرائيل وبحب عمرو موسي». كانت الأغنية طاغية وتسببت في جدل عالمي نقلت بعضا منه محطة «سي.إن.إن» الأميركية. ثم أعجبت شعبان اللعبة فواكب الأحداث وهاجم بوش بعد ضربه بالحذاء قائلا: «خلاص مالكش لازمة يا بوش يابن اللذينا.. تستاهل ألف جزمة عاللي انت عملته فينا».

كما هاجم شارون بشدة وانتقد تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين يوم عيد الأضحى قائلا: «مش لاقي كلام أقوله.. مش لاقي كلام أقوله ولو قلت أقول لمين..ع الفيلم والسيناريو بتاع صدام حسين.. خلاص مات الكلام وكله في التمام.. والمسرحية خلصت واتنفذ الإعدام».

وواصل شعبان تفاعله مع الأحداث الجارية فغني سريعا للرئيس مبارك بعد عودته من إجراء جراحة بألمانيا الشهر الماضي ومهنئا في الوقت نفسه ابنه جمال بإنجابه فريدة في التوقيت نفسه، فقال شعبولا من كلمات شاعره الأثير إسلام خليل: «مبروك شفاك يا ريس.. وسلامة حضرتك.. يا رب ودايما كويس وبكامل صحتك.. مبروك علينا سلامتك والنعمة وحشتنا.. وصوتك وابتسامك ووجودك وسطنا». ثم تابع مهنئا جمال مبارك: «مبروك شفاك يا ريس وتملي في أحسن حال.. وعلى الحفيدة فريدة بنت الأستاذ جمال». لكن شعبولا الذي انتقد متابعون سذاجته وسخروا من كونه مطربا للسلطة، مؤكدين أنه يشبه عصره، كاد ينقلب على نهجه ففكر في الغناء للبرادعي محتفيا به، وصرح الأسبوع الماضي قائلا: «كنت أنوي عمل أغنية للبرادعي لكن ولاد الحلال قالولي هتتعلق من لسانك»، كان شعبان يظن أن البرادعي من أقارب الرئيس بحسب تعبيره. لكن البرادعي وجد من يغني له، ففي مظاهرة المنصورة حرف مؤيدوه أغنية محمد منير «شدوا القلوع يا مراكبي» لتصبح: «شدوا القلوع يا برادعي». وإزاء الحراك البادي الآن في مصر، تنتظر الأغنية السياسة دورا، يرى البعض أنه سيكون حريفا ولاذعا وخاصة في الفترة المقبلة، حيث ستشهد مصر معركتين انتخابيتين كبريين هما: الانتخابات البرلمانية، وانتخابات الرئاسة.