الجيل الضائع في روسيا

عدد المدمنين يقترب من 5 ملايين.. ينفقون على تعاطي المخدرات ما يقرب من مليارين ونصف المليار دولار سنويا

الشباب في روسيا ضحية الإدمان وانتشار المخدرات
TT

يوليا إحدى أجمل فتيات العاصمة الروسية لم تواجه أي صعوبات في طريق العثور على عمل مناسب يتفق مع مؤهلاتها. معرفتها الجيدة باللغات الأجنبية وحسن مظهرها وانتماؤها إلى عائلة تتمتع بثراء موفور ساعدها كل ذلك على شغل وظيفة مرموقة في إحدى أهم وكالات الأنباء الأجنبية بالعاصمة الروسية. لم يمض من الزمن الكثير حتى بلغت يوليا مكانة عالية جعلتها محط أنظار «الصيادين» الذين استهدفوا مالها وجمالها. سقطت يوليا ذات الخمسة والعشرين ربيعا في شرك «صديق سوء» زين لها مفاتن الدخان الأزرق الذي سرعان ما أطاح بآخر ما تملكه من مقومات البقاء. خبا بريق عينيها واعتراها شحوب ملحوظ يعلن عن النتيجة الحتمية التي لم تتغير كثيرا عن مثيلاتها التي عصفت بأحلام «الجيل الضائع» من خيرة الشباب السوفياتي سابقا والروسي لاحقا. فقدت يوليا عملها وقبله كانت فقدت الكثير من جمالها الذي طالما خلب أنظار وألباب المحيطين بها ممن سارعوا بالابتعاد عنها خشية السقوط فريسة هذه «الدائرة الجهنمية» التي لم تتوقف عن التهام الكثير من الضحايا يوما بعد يوم.

الأرقام تقول إن عدد المدمنين في روسيا يقترب من خمسة ملايين مدمن ومدمنة ينفقون على تعاطي المخدرات ما يقرب من مليارين ونصف المليار دولار في العام الواحد، في الوقت الذي يقضي فيه نحبه من جراء تعاطي هذه السموم ما يزيد على أربعين ألفا كل عام. وتقول إحصاءات الأمم المتحدة إن روسيا تشغل المرتبة الأولى في قائمة مستهلكي الهيروين الذي تنفرد أفغانستان وحدها منه بما يقدر بـ90 في المائة من مجمل حجم الإنتاج العالمي. وقد جاء الكشف عن هذه الأرقام مواكبا لما أعلنت عنه موسكو حول عدد ضحايا مرضى الإيدز الذي تجاوز المليون مريض. وتقول المصادر الرسمية إن عدد المدمنين في روسيا تضاعف بمقدار عشرات المرات عن مثيله في نهاية القرن العشرين في الوقت الذي يزيد فيه حجم التجارة غير الشرعية للمخدرات في العالم على ما قيمته خمسمائة مليار دولار، أي ما يقرب من حجم تجارة الأسلحة أو النفط الخام حسب إحصاءات الأمم المتحدة.

وقد أدركت القيادات الروسية أبعاد أخطار المخدرات التي تقض مضاجع الدولة الروسية بوصفها أحد أهم الأخطار التي تهدد أمنها القومي. ولذا كان من الطبيعي أن تعمل هذه القيادات من أجل تنشيط جهودها الرامية إلى البحث عن أنجع السبل لمواجهتها في وقت تظل فيه أصابع الاتهام تشير إلى خصوم الماضي القريب. ويذكر الكثيرون في روسيا والفضاء السوفياتي السابق أن مشكلات إدمان الشباب الروسي والسوفياتي سابقا تعود بتاريخها إلى أولى سنوات الغزو السوفياتي لأفغانستان في مطلع ثمانينات القرن الماضي، مما يعني ضمنا اتهاما صريحا إلى أطراف وقوى بعينها لا أحد يستطيع أن يجزم بعدم تورطها بشكل مباشر أو غير مباشر.

وبادر فيكتور إيفانوف رئيس الهيئة الفيدرالية الروسية لمكافحة المخدرات وجنرال المخابرات السابق، بتصحيح ما جاء في تقرير الأمم المتحدة حول انتشار المخدرات وزيادة عدد المدمنين في روسيا بمقدار عشرة أضعاف خلال السنوات العشر الأخيرة، بقوله إن الزيادة حدثت قبل ذلك، مشيرا إلى أنها بلغت عشرين ضعفا بالمقارنة بما كانت عليه منذ عشرين عاما وأن النسبة المطلقة تعود إلى تسعينات القرن الماضي. وكشف إيفانوف عن أن الرئيس الروسي أصدر تعليماته بوضع خطة واضحة تستهدف مكافحة المخدرات ستكون بمثابة «خطة طريق» تستهدف الحيلولة من دون انتشار المخدرات، التي قال إن إنتاجها في أفغانستان المجاورة يشكل خطرا كبيرا على السلم والأمن العالميين. وأشار إلى أن مجموع ما تتمكن أجهزة المكافحة الروسية من مصادرته من المخدرات الأفغانية لا يزيد على 4 في المائة مما تنجح عصابات التهريب في توريده عبر الحدود المتاخمة لبلدان آسيا الوسطى، وإن زادت النسبة إلى 10 في المائة داخل الأراضي الروسية. وحول هذا الموضوع كشف الجنرال إيفانوف عن أن الهيئة الفيدرالية الروسية لمكافحة المخدرات اقترحت على الولايات المتحدة إيفاد خبراء من الشرطة الروسية إلى أفغانستان للمساهمة في الجهود الرامية إلى تقليص إنتاج المخدرات في هذا البلد الذي يشغل المرتبة الأولى في قائمة الدول المنتجة لهذه المخدرات. ولعل إفصاح إيفانوف عن هذه الرغبة وذلك التوجه يدفع الكثيرين إلى استعادة ذكريات كثيرة أليمة طالما تقافزت على شفاه الملايين من أبناء الاتحاد السوفياتي السابق ممن يذكرون سنوات الغزو السوفياتي لأفغانستان وما واكبه من تدمير للشباب ممن وقعوا فريسة الإدمان بإيعاز ومساعدة خصوم الأمس فيما وراء المحيط.

وبهذا الصدد ننقل بعضا مما سجله عدد من المهتمين بخفايا ما جرى ويجري اليوم في أفغانستان، ومنهم الكاتب الباكستاني أحمد رشيد في كتابه «طالبان.. الإسلام والنفط والصراع الكبير في آسيا الوسطى»، ومحمد حسنين هيكل في كتابه «الزمن الأميركي.. من نيويورك إلى كابول» الذي تضمن فقرات كثيرة من كتاب ألكسندر كوكبيرن وجيفري سان كلير «غسيل الواقع» (White out) - وكالة المخابرات المركزية الأميركية والمخدرات والصحافة. فقد سجلت هذه المصادر واقعة بالغة الإثارة نسبتها إلى الإدارة الأميركية إبان سنوات حكم الرئيس الأسبق رونالد ريجان. قالت إن ريجان بارك مضاعفة إنتاج المخدرات في أفغانستان من أجل المساهمة في تغطية نفقات الحرب ضد السوفيات وغرس الإدمان بين جنودهم في أفغانستان إلى جانب شراء ذمم وتجنيد عناصر المخابرات الباكستانية وغير الباكستانية في المنطقة. وكشفت المصادر عن أن ألكسندر دي ميرانش رئيس المخابرات الفرنسية في ذلك الوقت علم من صديقه القديم وليام كيسي مدير المخابرات المركزية الأميركية ونائبه فيرنون والترز أن الرئيس ريجان مهموم بأمر نقص تمويل عملية «الجهاد الإسلامي» ضد القوات السوفياتية في أفغانستان. ولذا فقد استهل لقاءه مع الرئيس الأميركي الراحل بسؤاله: «السيد الرئيس، هل أستطيع أن أسأل عما تفعلونه بالمضبوطات من المخدرات التي تصادرها الوكالة المختصة بتنفيذ قانون مكافحة الإدمان أو مكتب التحقيقات الفيدرالي أو هيئة الجمارك؟»، قال ريجان إنه لا يعلم عن هذه المضبوطات شيئا، وإنه توقع أن يكون المسؤولون يتولون تدميرها مما جعل الثعلب الفرنسي يسارع بمقاطعته مؤكدا خطأ الاستمرار في مثل هذه السياسة وضرورة الاستفادة من المضبوطات. اقترح دي ميرانش تسريب بعضها إلى معسكرات القوات السوفياتية بهدف غرس الإدمان بين جنودها، مما قد يساهم في زعزعة قدراتها القتالية مثلما كان يفعل الفيتناميون مع القوات الأميركية. وقالت المصادر إن دي ميرانش اعترف بتوجيه هذه النصيحة في مذكراته التي نشرها في عام 1992. أما عن بقية النصيحة فتلخصت في ضرورة تهريب المخدرات إلى الأسواق العالمية وبيعها بما يمكن أن يدر عائدا مناسبا لتغطية نصيب الولايات المتحدة في صندوق تمويل «عملية الجهاد الإسلامي». وتمضي المصادر لتؤكد أن مثل هذه المخططات الإجرامية ساهمت في رفع حجم إنتاج الأفيون في أفغانستان، الذي كان يبلغ 2200 - 2400 طن سنويا بمقدار عدة أضعاف تزيد قيمتها على 6 مليارات دولار كل عام. واعترفت المصادر بأن عددا من ضباط مكتب مكافحة المخدرات التابعين للأمم المتحدة اضطروا إلى تقديم استقالتهم من وظائفهم احتجاجا على تدخل المخابرات المركزية الأميركية والباكستانية في عملهم.

وذلك يدفع اليوم إلى ضرورة التروي في تفسير رفض الناتو لطلب روسيا الذي تقدمت به في مارس (آذار) الماضي حول العمل من أجل تدمير حقول الأفيون والخشخاش في أفغانستان. ونقلت وكالة أنباء «رويترز» عن جيمس أباتوراي المتحدث الرسمي باسم الناتو قوله إن القضاء على حقول الخشخاش ورشها بمبيدات حشرية حسب طلب روسيا لن يكون فعالا بالقدر المطلوب وأن حركة طالبان تملك مخزونا كبيرا من الأفيون.

وأضاف أنه يجب حل مشكلة إنتاج المخدرات في أفغانستان بحذر شديد حتى لا يفقد الناتو ولاء السكان المحليين ممن يعتبرون زراعة الأفيون مصدر دخلهم الوحيد. وذلك قول يغني عن أي تعليق ويعيد إلى الأذهان بعضا من ذكريات ثمانينات القرن الماضي، مما يجعل روسيا تواصل إصرارها على ضرورة توحيد وتنسيق الجهود الرامية إلى الحيلولة من دون التوسع في إنتاج المخدرات ونقلها إلى الخارج عبر الأراضي الروسية بالدرجة الأولى. وكان فيكتور إيفانوف رئيس الهيئة الفيدرالية الروسية لمكافحة المخدرات اقترح على دول الناتو تشكيل فريق مشترك لمكافحة إنتاج المخدرات في أفغانستان على غرار فريق العمل المشترك بين روسيا والولايات المتحدة. وقد أعلن إيفانوف أثناء اجتماع للمجلس المشترك بين روسيا والناتو، عقد في بروكسل في مارس الماضي، أن اللجنة الثنائية للرئيسين «ميدفيديف - أوباما» التي يعمل في إطارها فريق العمل المعني بمكافحة المخدرات «تشكل أساسا جيدا للعمل الجماعي، شأنها في ذلك شأن مجلس (روسيا - الناتو)».

موسكو تدق ناقوس الخطر في محاولة لسرعة التوصل إلى ما يحول من دون تدفق المخدرات عبر الحدود الأفغانية. وكانت قد تنازلت عن حرمة حدودها وأراضيها حين وافقت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 على السماح للقوات والطائرات الأميركية باختراق أجوائها الإقليمية والوجود على مقربة في قواعد عسكرية في عدد من بلدان آسيا الوسطى ليس لمواجهة الإرهاب وحده، بل وتدفق المخدرات الأفغانية إلى أراضيها التي ثمة من استخدمها أيضا معبرا لتهريب السموم إلى أوروبا. وقد عادت إلى التحذير من مغبة التغافل عن خطورة أفغانستان التي تنتج، كما أشرنا عاليه، ما يقرب من 90 في المائة من مجموع الإنتاج العالمي للهيروين، الذي يوظف لتمويل عمليات «طالبان» وغيرها من المجموعات المتمردة والإرهابية. وكان إيفانوف المسؤول عن ملف مكافحة المخدرات في روسيا أعرب عن عدم ارتياحه لسياسات الولايات المتحدة تجاه الحد من زراعة المخدرات في أفغانستان وانتهاجها سبلا مغايرة لما تقوم به في عدد من بلدان أميركا اللاتينية التي تستخدم فيها طرق رش المبيدات الكيميائية لحرق مزروعات النباتات المخدرة، كما تفعل في كولومبيا على سبيل المثال.

وقد أعرب عن مواقف مشابهة كثيرون من الخبراء الروس الذين وصفوا الموقف الأميركي بالقصور وهو ما سارعت واشنطن عبر إذاعة «صوت أميركا» الموجهة الناطقة بالروسية بالرد عليه في إطار برنامج تحدث فيه تيد جيلين كاربنتر من معهد كاتون للدراسات في واشنطن، الذي قال إن الكرملين يبحث عن «كباش فداء»، مؤكدا استحالة وقف تدفق المخدرات من أفغانستان. وربط بين القيام بمثل هذه المحاولة واندلاع الغضب العارم من جانب بسطاء الشعب الأفغاني الذين يعتمدون على زراعة المخدرات التي قال إنها تشكل ما يقرب من ثلث الدخل القومي. وأضاف أن الجزء الأعظم من الصفوة الأفغانية متورط في تجارة المخدرات بمن فيها الرئيس الأفغاني كرزاي والمحيطون به على حد قوله. وأضاف أن قوات التحالف في أفغانستان تبدو مضطرة إلى الحد من عملياتها العسكرية بغية عدم فقدان مؤيديها هناك.

وأشار إلى «أن القضاء على المخدرات الموجودة تحت سيطرة زعماء القبائل والقادة الميدانيين المؤيدين لحكومة كرزاي يعني المخاطرة بنسف مهمة الولايات المتحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب». وخلص كاربنتر إلى القول إن الحكومة الروسية تطلب من الولايات المتحدة المستحيل! أما زميلته جريتشين بيترز مؤلفة كتاب «بذور الإرهاب.. كيف يمول الهيروين طالبان والقاعدة؟»، فقد أشارت إلى أن الولايات المتحدة مهمومة أكثر بالحد من مصادر تمويل الجماعات الإرهابية والمتمردة في الوقت نفسه الذي تبدو فيه مكافحة المخدرات في أفغانستان مسألة ثانوية نظرا إلى أن ما تنتجه من مخدرات لا يصل إلى أميركا! إزاء مثل هذه المواقف التي تحدد بدرجة كبيرة توجهات الإدارة الأميركية تجاه هذه المشكلة، تحاول موسكو الاعتماد على قواها الذاتية واستقطاب حلفائها في بلدان آسيا الوسطى بما في ذلك أعضاء منظمة «بلدان مجموعة شنغهاي» للحد من تدفق المخدرات الأفغانية والاهتمام أكثر بقضايا التوعية ونشر مراكز العلاج القسري من الإدمان - الحكومية والخاصة التي احتضن واحد منها (فاتنتنا) يوليا التي أشرنا إلى قصتها في مستهل هذا التقرير. صحيح أن يوليا تجاوزت مشكلات الأمس القريب.. وحقا عادت إلى صحيح الطريق، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن فقدت الكثير من رونق الماضي وضاعت أحلامها التي كثيرا ما راودتها في مقتبل العمر.