السيدة التي ترعى باكستان

ساعدت بلقيس إدهي وزوجها مئات الآلاف من الأطفال المنبوذين والفتيات وذوي الاحتياجات الخاصة حتى باتت تلقب بـ«الشقيقة الكبرى»

بلقيس مع أطفال أحد الملاجئ التي تديرها (أ ف ب)
TT

منحت الحياة للآلاف من الأطفال غير المرغوبين من ذويهم، أو ممن يعانون إعاقات ذهنية أو بدنية ونبذتهم أسرهم في شوارع باكستان. بشخصيتها الدافئة التي تشع حنانا أشبه بحنان الأم باتت أشهر شخصية نسائية في باكستان، إذ تعرف في مختلف أرجائها باسم «باجي» أو «الشقيقة الكبرى» باللغة الأردية. تلك هي بلقيس إدهي (58 عاما) التي وضعت على كاهلها عبء، أو متعة كما ترى هي، رعاية الفقراء والمحتاجين بباكستان التي يعيش أكثر من 30% من أبنائها تحت وطأة الفقر وظروف معيشية بالغة الصعوبة.

في حياتها، تتبع بلقيس هدفا بسيطا يتمثل في مساعدة الأفراد العاجزين عن مساعدة أنفسهم. وبالتعاون يدا بيد مع زوجها عبد الستار إدهي، تتولى إدارة أكبر منظمة خيرية في البلاد (مؤسسة إدهي) التي تملك أكثر من 300 مركز بمختلف أنحاء البلاد، بجانب الكثير من المراكز في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأجزاء أخرى من العالم.

أنشئت «مؤسسة إدهي» عام 1952 على يد عبد الستار إدهي، الذي ولد وترعرع في ولاية جوجارات الواقعة غرب الهند التي كانت موحدة في السابق. ويعود ميل عبد الستار لتخفيف معاناة الآخرين إلى سنوات الطفولة. في الـ11 من عمره، اضطر عبد الستار إلى تولي رعاية والدته التي أصيبت بالشلل وعانت من صورة حادة من مرض السكري. وتولى عبد الستار شؤون استحمامها وإطعامها وتبديل ملابسها. وكتب في مذكراته الشخصية التي نشرها عام 1996 بعنوان «مرآة الكفيف»: «رعاية والدتي جعلتني أفكر مليا في شقاء الذين عانوا ولم يكن حولهم من يرعاهم. منذ ذلك الوقت، شرعت في التفكير في كيفية مساعدة هؤلاء الأشخاص».

أما بلقيس فقد ولدت في 14 أغسطس (آب) 1946. وسبق أن قالت بفخر: «لقد ولدت من أجل باكستان». توفي والد بلقيس الذي كان يملك متجرا لإصلاح الدراجات وهي في العاشرة من عمرها. وعملت والدتها مدرّسة في مدرسة خاصة بعد وفاة زوجها، لكنها غيرت مهنتها بعد ذلك لتعمل قابلة. وأثناء عمل الأم، وقعت مسؤولية رعاية شقيقي بلقيس على عاتقها.

عندما كانت بلقيس في الـ16 من عمرها، وطلبت من عبد الستار السماح بانضمامها إلى المؤسسة التي كان قد أنشأها منذ 14 عاما في ذلك الوقت، وذلك بهدف خوض تدريب يؤهلها للعمل ممرضة. ورغم أنه يكبرها في العمر بـ20 عاما، سرعان ما تقدم عبد الستار لخطبة بلقيس وتزوجا بالفعل عام 1966. وقالت: «لقد قبلت عرض مولانا صاحب بالزواج»، في إشارة على اللقب الذي تطلقه بحب على زوجها. وأضافت: «جاءت موافقتي رغم أنه سبق له عرض الزواج على 7 أو 8 نساء قبلي ورفضنه».

وبالفعل، أقيم حفل الزفاف وجاء تنفيذه على نحو شكل حياتهما المقبلة، فبعد حفل الزفاف، قاما بزيارة مستوصف حيث عثر زوجها على طفلة في الـ12 من عمرها مصابة بجروح بالغة في الرأس. وسارع العروسان إلى نقلها إلى المستشفى وقضيا الليلة في الإشراف على عمليات نقل الدم وتهدئة أقارب الفتاة الذين سيطر عليهم الهلع.

وتتذكر بلقيس بحب السنوات الأربع أو الخمس الأولى بعد الزواج عندما اعتادت العيش على سطح المستوصف. ولاحقا، بعد مولد أطفالها الأربعة، انتقلت للعيش بمنزل والدتها حيث تولت أمها رعاية الأطفال. واعتادت بصورة يومية التنقل بين منزلها و«مركز إدهي». وبعد أن شب الأطفال عن الطوق وتزوجوا، رحلت والدة بلقيس. ويقضي الزوجان أياما وليالي كثيرة داخل «مركز إدهي». وعلى مدار حياتهما الزوجية الممتدة لـ44 عاما، ربما وقعت 1000 حالة على الأقل لم يعودا فيها إلى المنزل ليلا قط. حتى الآن، عندما يرغب أبناؤهم في رؤيتهم، يحضرون معهم طعاما ليتناولوه برفقة والديهم.

ويؤكد كل من زار كراتشي، أن جميع الشوارع والطرق تقريبا تحمل لافتة تقول: «لا تقتلوا الطفل الرضيع، اتركوه يعيش في مهده». يذكر أنه مع شروق شمس كل يوم تقريبا، تقدم امرأة ما على التخلي عن طفل غير شرعي لها أو ذي احتياجات خاصة أو غير مرغوب فيه لسبب آخر بمختلف أرجاء باكستان.

وطبقا لسجلات «مؤسسة إدهي»، فإنه يعثر بشكل دوري على عشرات الجثث لأطفال حديثي الولادة في أكوام القمامة أو قنوات الصرف. ونظرا لأن ولادتهم لم تسجل، فكذلك لا تسجل وفاتهم. ولدى العثور على مثل هذه الجثث، تتصل الشرطة بـ«مؤسسة إدهي» التي تتولى جمع ودفن الجثث الصغيرة. والملاحظ أن تقريبا جميع الأطفال الرضع الذين نبذهم ذووهم وقتلوهم من الفتيات. إلا أن أعداد الأطفال الضحايا لمثل هذه الجرائم تراجع إلى النصف لما كان عليه منذ 4 عقود ماضية، حيث أصبح الناس الآن يتركون الأطفال في مهدهم على أعتاب المنازل التابعة لـ«مؤسسة إدهي». وتشير الإحصاءات إلى أن 90% من الأطفال المنبوذين من الفتيات.

الملاحظ أن الأطفال من البنات يشكلن عبئا بمختلف أرجاء شبه القارة الهندية، حيث يمكن للذكور العمل وإعالة أسرهم عندما يكبرون. أما الفتيات فمن المتعذر عليهن العمل، في الوقت الذي يتوجب إطعامهن وتوفير الملبس لهن وتوفير مهور لهن. في العادة، يبلغ المهر 3 أضعاف الراتب السنوي للأب. بالنسبة للكثير من الأسر، خاصة تلك التي أنجبت فتيات بالفعل، عادة ما يكون من المتعذر الاحتفاظ بطفل ذي احتياجات خاصة. أما الصبية المنبوذون، فجميعهم ثمار علاقات تمت خارج إطار الزواج وتخلصت أمهاتهن منهم خوفا من التعرض للرجم حتى الموت علانية أو التعرض للقتل على يد الأقارب انتقاما للشرف.

وقد ظهر أول مهد لطفل رضيع خارج مستوصف خيري يديره عبد الستار عام 1952. وكان عبد الستار قد تملكه الفزع حيال انتشار جرائم قتل الأطفال الرضع ورغب في توفير بديل للأمهات القانطات. على مدار قرابة 6 عقود من العمل، تمكنت مؤسسته من إنقاذ عشرات الآلاف من الأطفال الرضع ورغم مشاعر التحامل الاجتماعية ضد هذه الفئة من الأطفال، نجحت المؤسسة في وضع 16.700 منهم في رعاية أسر بديلة تبنتهم.

وبحلول عام 1970، وبناء على إدراكهم أن نبذ الأطفال أوسع انتشارا بكثير عما سبق اعتقاده، شرع عبد الستار وزوجته في حملة تثقيف عامة وعمدا إلى وضع أسرة صغيرة بمختلف أرجاء المدينة لتشجيع الأمهات على وضع أطفالهن غير المرغوب بهم فيها.

واليوم، يتبع المؤسسة نحو 50 فرعا صغيرا للأطفال في كراتشي و350 آخرين بمختلف أرجاء البلاد. وفي أي وقت، يعتمد قرابة 50 ألف طفل على المؤسسة للبقاء على قيد الحياة.

في هذا الصدد، قال نادهي رازدان، مراسل لحساب قناة تلفزيونية هندية تتناول تغطية قصة «مؤسسة إدهي» بباكستان: «هذا أمر مذهل، لأن هنا مجتمعا لا مكان فيه للطفل غير الشرعي، وهم يوفرون له هذا المأوى».

وقد واجهت المؤسسة معارضة من جانب قيادات دينية مسلمة وأعضاء آخرين في المجتمع المحلي، وأعلن بعضهم أن الأسر الصغيرة التي تحتضن الأطفال المنبوذين والموزعة في الشوارع آثمة بقدر إثم الإجهاض. وتعرض متطوعون لصالح المؤسسة للاختطاف وحرق أصوليون منازل أعضاء بالمؤسسة.

وترد بلقيس على هذه الاعتراضات بقولها: «إن ترك الأطفال غير المرغوب فيهم للموت في أكوام القمامة هو الخطيئة الكبرى. أنا مسلمة، لكنني أؤمن بصورة أساسية بالإنسانية فوق العرق أو الطبقة». وأوضحت المؤسسة أن الأطفال الذين تأويهم الملاجئ تجري تنشئتهم كمسلمين، لكن «مؤسسة إدهي» تنظر في عروض التبني التي تتقدم بها أسر من أي ديانة في محاولة للتوفيق بين الأطفال والبالغين الذين يشبهونهم. ونوهت المؤسسة بأنها تستقبل الأطفال بغض النظر عن عرقهم أو ديانتهم، لكنها تبذل جهودا للتوفيق بين الأطفال والأسر التي تنتمي لنفس العرق أو الديانة التي ينتمون إليها، إذا كانت معروفة - الأمر الذي يعد قضية بالغة الحساسية في أوساط القيادات الدينية بالبلاد. وتقول بلقيس خلال مقابلة أجرتها معها إحدى المجلات النسوية: «لقد تلقينا تهديدات منذ البداية، لكننا لن نخاف، فالموت سيأتينا في أجله المحدد. وعندما يحين الأجل، لن يكون بمقدورنا فعل أي شيء لصده. لذا، لسنا خائفين».

وتعتمد «مؤسسة إدهي» في تمويلها بالكامل على التبرعات ويعمل لديها 3500 شخص، وعشرات الآلاف من المتطوعين بمختلف أرجاء البلاد. وتوفر المؤسسة سيارات إسعاف ومستشفيات وملاذات ومراكز لإعادة تأهيل مدمني المخدرات. ويشتهر رقم هاتف الطوارئ الخاص بالمؤسسة (115) بقدر ما شهر رقم الطوارئ (999). وتنتشر سيارات الإسعاف الخاصة بالمؤسسة بمختلف أرجاء البلاد في حوادث الطوارئ. والملاحظ أن نصيب الأسد من ميزانية المؤسسة البالغة 10 ملايين دولار تأتي من تبرعات خاصة من أفراد باكستانيين يعيشون داخل وخارج البلاد. وترفض المؤسسة تلقي مساعدات من الحكومة الباكستانية ومن منظمات دولية.

وفي ثمانينات القرن الماضي، عندما بعث الرئيس الباكستاني آنذاك ضياء الحق شيكا بـ500.000 روبية (أكثر من 30.000 دولار) إلى المؤسسة، رده عبد الستار إليه. والعام الماضي، عرضت الحكومة الإيطالية على عبد الستار تبرعا بعدة ملايين الدولارات، لكن عبد الستار رفض. وبررت بلقيس ذلك بقولها: «تفرض الحكومات شروطا لا يمكننا قبولها».

علاوة على ذلك، عرضت منظمات دولية مثل البنك الدولي ملايين الدولارات على المؤسسة، حسبما أوضحت بلقيس، لكن جميع هذه العروض قوبلت بالرفض. وقالت: «يجب أن نبقى مستقلين وعلى الشعب الباكستاني العمل على مساعدة نفسه. إننا لا نقبل أموالا إلا من باكستانيين يعيشون داخل أو خارج البلاد. ولدينا مراكز في إنجلترا والولايات المتحدة حيث نقبل التبرعات فقط من الباكستانيين المغتربين المقيمين هناك. ولا يسمح للراغبين في التبني في تقديم تبرعات للمؤسسة». وشرحت بلقيس سبب ذلك، بالقول: «إننا لا نبيع الأطفال الرضع هنا. إننا نخبر الناس أنه بالنظر إلى أننا نعمل من أجلكم، يجب أن تأتي الأموال منكم».

وعلى مدار سنوات طويلة، فرض هذا الوضع على مسؤولي المؤسسة تسول المساعدات من الشوارع نيابة عن البرامج الاجتماعية المتنامية داخل المؤسسة. بل وأقدم عبد الستار على التسول في الشوارع في أواخر سبعينات القرن الماضي لصالح الأفراد شديدي المرض والذين يحتاجون لرعاية طبية عاجلة ومرتفعة التكاليف يتعذر على المستوصفات التي يديرها توفيرها.

كما عمدت «مؤسسة إدهي» على بناء شبكة على مستوى البلاد من سيارات الإسعاف والعيادات الطبية ومنازل رعاية الأمهات ومنشآت لاستقبال المرضى النفسيين وذوي الاحتياجات الخاصة وبنوك للدم ودور أيتام ومراكز تبني ومدافن ملاذات للأطفال الفارين من أسرهم والنساء اللائي يتعرضن للعنف ومدارس توفر دورات تدريبية في التمريض ومطاعم لتوزيع الطعام على الفقراء مجانا ومستشفى سرطان يضم 25 سريرا.

ونقلت صحيفة «دون» الباكستانية على لسان بلقيس قولها: «في الوقت الذي تقضي عشرات الآلاف من الفتيات أيامهن في دور الأيتام حتى يتزوجن، تبقى (مؤسسة إدهي) على قائمة انتظار لديها تضم عدة آلاف من الأسر الراغبة في تبني طفل ذكر. وأخبرهم من جانبي أنني لا أصنع الصبية هنا. لكن أعدادا كبيرة من الناس ينصب اهتمامهم على ذلك الأمر».

وتنظم بلقيس يوميا عشرات التحقيقات حول ما إذا كان من الأفضل السماح لأسرة بتبني طفل ما أو الإبقاء عليه تحت رعايتها. والملاحظ أن جرس هاتفها يرن باستمرار، بينما يتدفق سيل من الزائرين على مكتبها. وتحرص بلقيس على أن تقابل شخصيا الأسر الراغبة في تبني أطفال تحت رعايتها. وتحرص كذلك على تفحص خلفية الآباء والأمهات المحتملين بصورة كاملة. وأضافت: «ننشر إعلانا في الصحف مرة أسبوعيا نناشد فيه الآباء والأمهات عدم إلقاء أطفالهم بسبب الفقر أو لأسباب أخرى. ونحرص على الاعتناء بهم حتى يتسنى لأي من الأزواج الذين لم يحظوا بأطفال تبنيهم».

وفيما يخص تبني الأطفال، تحرص بلقيس على ضمان توافر المعايير المناسبة في الآباء والأمهات المحتملين، وتتولى إجراء المقابلة معهم بنفسها. وتتمثل المعايير التي تتبعها فيما يخص التبني في ضرورة أن يكون راتب الأب المحتمل معقولا، وألا يعاني من إدمان الكحوليات أو المخدرات وألا يزيد عمر الأم المحتملة عن 50 عاما وأن يمتلك الزوجان منزلا. وترفض مؤسستها السماح بالتبني إذا كانت الأسرة المحتملة تتنقل باستمرار.

أما الأطفال الذين يعانون من إعاقات ذهنية أو بدنية فتتولى «مؤسسة إدهي» رعايتهم. ويوجد لدى المؤسسة قسم خاص بهم، حيث يجري الاهتمام بنظافتهم ومأكلهم وملبسهم واللعب معهم وما إلى غير ذلك. وتبقى هذه الفئة من الأطفال داخل المؤسسة لباقي حياتهم. بخلاف الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يشكل الأطفال الآخرون الذين يجري تبنيهم أي مشكلة. ويوجد لدى «مؤسسة إدهي» ما يتجاوز 4000 طلب. ولا يتوافر لدى المؤسسة عدد كاف من الأطفال لتغطية طلبات التبني. كما يوجد لديها عقد يتعين على الآباء والأمهات المتبنيين التوقيع عليه ينص صراحة على أنه حال انفصال الوالدين، ستستعيد المؤسسة الطفل المتبنى أو ستسمح له بالبقاء مع الأم.

من جانبها، كلما سافرت بلقيس إلى الخارج برفقة زوجها، تعود ورأسها محملا بالأفكار. ويحلم الزوجان باليوم الذي تصبح فيه مؤسسات الرفاه في باكستان على مستوى نظيرتها بالخارج. وأعربت بلقيس عن اعتقادها بأن هذا الحلم يبدو في الوقت الراهن بعيد المنال. وقالت: «إنه لا تتوافر لدينا حتى مياه نظيفة للشرب. ويمثل انقطاع التيار الكهربائي مشكلة مستمرة. فيما أرى، نحن لم نتحرك للأمام على مدار الأعوام الـ55 الماضية، فلا نزال نقف في النقطة التي كنا عليها منذ 55 عاما».

الملاحظ أن بلقيس تتولى المسؤولية المباشرة عن الأقسام المخصصة لخدمة النساء، التي تتضمن 17 منزلا توفر الملاذ لـ6500 امرأة فقيرة أو تعاني من إعاقة ذهنية أو مشردة، علاوة على قرابة 10 مراكز لرعاية المرضى وتقديم خدمات التمريض.

وقالت بلقيس في غضب: «إن المجتمع يخالف تعاليم القرآن بإساءة معاملته النساء وعدم توفير المساواة لهن. إن 10% فقط من الباكستانيات قادرات على القراءة والكتابة. ولذلك، نعمل جاهدين على توفير مستوى تعليمي جيد للفتيات اللائي نستقبلهن، فبمجرد حصولهن على التعليم، سيتمكن من البدء في السيطرة على حياتهن».

وبالفعل، تولت «مؤسسة إدهي» تحت إشراف بلقيس توفير ملاذ ورعاية وتدريب لفتيات بمجال التمريض. وتستمر الدورة التدريبية بمجال التمريض لمدة 12 شهرا تحصل خلالها الفتيات على ما يتراوح بين 1.000 و1.500 روبية شهريا. بعد ذلك، تحولهن بلقيس إلى مؤسسات جيدة للعمل بها حيث تتلقى دوما طلبات لتوظيف فتيات يعملن بجد. في تلك المؤسسات، تتقاضى الفتيات 3.000 روبية على الأقل شهريا.

وتتذكر بلقيس بفخر إحدى هؤلاء الفتيات التي انضمت لاحقا للعمل بمستشفى آخر وتبرعت بمبلغ 100 روبية للمؤسسة. وقالت: «لقد غمرتني السعادة، وشعرت بأن هذا المبلغ يعادل 100.000 روبية». واستطردت موضحة أنه «نتولى مناقشة على فتاة على انفراد. قبل إنشاء المنازل التابعة لـ(مؤسسة إدهي)، كانت الفتيات اللائي يهربن من أسرهن يقعن فريسة لشبكات الدعارة والعصابات الإجرامية الأخرى. الآن، أصبح لديهن ملاذ يحتمين به».

وعلى الرغم من كل أعمال الخير التي يقومون بها، فإن أسرة إدهي لم تنج من المآسي، ففي عام 1992، أقدمت سيدة تعاني من حالة انعدام توازن ذهني تقيم بأحد المنازل التابعة للمؤسسة على حرق حفيد بلقيس البالغ 4 أعوام من خلال تعريضه لحمام من الماء شديد السخونة لدرجة أنه توفي بعد شهرين. وقالت بلقيس: «نصح زوجي ابنتنا، بأن الانتقام لن يعيد لها طفلها. وقال لها: (يجب أن نحاول العفو عن هذه المرأة). وبالفعل، قررت ابنتنا نقل المرأة إلى منزل آخر، لكنها لم تنزل بها عقابا. ويعد استمرارها في العمل على خدمة المضطربين ذهنيا والمعوزين دليلا قويا على التزامنا برسالتنا». ويمكن القول إن إدارة «مؤسسة إدهي» أشبه بشأن عائلي، حيث تلتقي بلقيس أبناءها، كبرى وفيصل وزينات وألماس، كل يوم أحد في دار رعاية الفتيات في كليفتون لمناقشة المشكلات الموجودة بالمراكز والتخطيط لمشاريع جديدة. ويأمل عبد الستار وبلقيس أن يكمل أبناؤهما المسيرة في المؤسسة.

وبجانب توجيهها دعما هائلا للقضية التي تبناها زوجها، أضافت بلقيس إسهامات جديدة نبعت من قدرتها على تحديد المجالات الجديدة المرتبطة بالرفاهية العامة التي يمكن العمل بها، الأمر الذي أضاف مزيدا من الخدمات إلى تلك التي تقدمها «مؤسسة إدهي». ومن بين المشاريع الجديدة «مشروع الطريق السريع» الذي يتضمن توفير فريق طبي مجهز بسيارة إسعاف معدة لمواجهة حالات الطوارئ وذلك في كل من مراكز «مؤسسة إدهي» الموجودة على مسافة كل 25 كيلومترا على الطريق السريع بين كراتشي وبيشاور. خلال واحدة من أسفارها إلى أوروبا، لاحظت بلقيس وجود هذا الأمر على الطرق السريعة هناك ورأت حاجة لاتخاذ ترتيبات مشابهة في باكستان. وفي حديثها عن المشروع، أوضحت: «بجانب توفير خدمات سيارات الإسعاف بأجر رمزي، توجد منشأة لتطعيم الأطفال حديثي الولادة والآخرين الأكبر سنا ضد الأمراض، علاوة على خدمات رفاهية أخرى». ونوهت بأن المستوصف الموجود بكل مركز والمستوصف المتنقل يخدم ما يتراوح بين 400 و500 مريض يوميا.

وينسب عبد الستار علانية 70% من الفضل لإنجازات «مؤسسة إدهي» إلى زوجته. وعليه، ليس من المثير للدهشة أنه يجري حاليا التفكير في منح جائزة «منظمة الأمم المتحدة للطفولة»، المعروفة اختصارا باسم «يونيسيف»، إلى بلقيس عن أعمال رفاه المرأة. كما رشحت لجائزة نوبل عام 2005. إلى جانب ذلك، نالت جوائز من الكثير من المنظمات، مثل جائزة «نادي روتاري» و«جائزة رومان ماغاسي» عن الخدمة العامة عام 1986.

إلا أنه بالنسبة لبلقيس، فإن أهم اللحظات في تاريخ عملها الخدمي ربما تلك التي مرت من دون أن يلحظها أحد. وفي لقاء تلفزيوني معها، قالت بلقيس إنه ذات مرة كان هناك حفل رسمي في «مكتبة لياقت الوطنية» و«دعيت لحضوره. وبعد بداية الحفل بوقت قصير، صعدت إلى المنصة فتاة في الـ11 من عمرها وشرعت في الغناء. وأعربت عن إعجابي بجمال الفتاة. واقتربت مني سيدة وأخبرتني أنها تبنتها من إحدى مراكز المؤسسة منذ 11 عاما».

أما الموقف الثاني الذي أشارت إليه فكان عندما «أتت لي طبيبة وقالت إنها ترغب في مقابلة بلقيس. وكان عمرها نحو 35 عاما. وكان معها طفلان وكانت تبكي بشدة. وقالت إنه تم تبنيها منذ 30 عاما، وأن والديها بالتبني اصطحباها معهما إلى أميركا، وتوليا رعايتها وتعليمها حتى أصبحت طبيبة. وعندما اقترب أجلهما، أخبراها للمرة الأولى أنها ابنتهما بالتبني. وقالت السيدة إنها الآن بعد موتهما أصبحت تعتبرني والدتها. وقالت: «لقد جئت فقط لأرى أمي. وبمجرد قولها ذلك، انهمرت الدموع من عيني».