دوفيلبان.. يحلم برئاسة الجمهورية

رئيس وزراء فرنسا السابق يطلق حزبا جديدا

TT

لم يكن اختيار رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دوفيلبان تاريخ 19 يونيو (حزيران) لإطلاق حزبه السياسي الجديد «الجمهورية المتضامنة» وليد الصدفة. فالرجل الذي ينظم الشعر في أوقات فراغه مولع بالتاريخ وبعظماء فرنسا. وشخصيته المفضلة هي الإمبراطور نابليون بونابرت ابن الثورة الفرنسية وقاهر أوروبا الذي دخل عواصمها الواحدة بعد الأخرى، فاهتزت تحت أقدام خيالته فيينا وبرلين ووارسو ومدريد ولشبونة وروما. ولم تستعص عليه سوى لندن بفضل الشريط المائي الذي يفصلها عن القارة.

ومن التاريخ المعاصر، يحتل الجنرال شارل ديغول مكانة خاصة، إذ إنه جسد «روح المقاومة» بوجه الغازي الألماني النازي. وبعكس بطل الحرب العالمية الأولى المارشال فيليب بيتان الذي دعا إلى إلقاء السلاح وتعاون مع الألمان، فإن ديغول رحل إلى لندن ومنها أطلق نداءه الشهير في 18 يونيو (حزيران) يدعو فيه أحرار فرنسا للالتحاق به ومواصلة الحرب والمقاومة إلى جانب الحلفاء. ومع هزيمة هتلر، أثبت التاريخ صواب خيار ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة ومانح الاستقلال للكثير من المستعمرات السابقة بما فيها الجزائر. وديغول الرئيس رفع عاليا صوت فرنسا المستقل، ووقف في وجه الولايات المتحدة وانفتح على الاتحاد السوفياتي وأخرج بلاده من الحلف الأطلسي الذي أعادها إليه الرئيس ساركوزي ووقف في وجه الضغوط الإسرائيلية والصهيونية وفرض حظرا على بيع السلاح إلى إسرائيل.

وباختياره تاريخ 19 يونيو، أراد دوفيلبان أن يكون «الوريث الشرعي» لديغول ومكمل خطه وباعث طموحاته والراية التي يلتف حولها كل من لم يفقد روح المقاومة والاستقلالية. وفي خطاب الـ70 دقيقة الذي ألقاه في ذلك اليوم أمام ستة آلاف من أنصاره والمنضوين في حركته الجديدة، كان ظل ديغول مهيمنا. وعبارات دوفيلبان الغنائية حفلت في ثناياها بالإشارات الواضحة أحيانا والخفية أحيانا أخرى إلى «مؤسس الجمهورية الخامسة» الذي أدخل فرنسا إلى نادي الدول العظام في مجلس الأمن ومنحها القنبلة النووية وفرضها على المسرح الدولي. قال دوفيلبان «إلى كل الذين أصيبوا في بلدنا بالإحباط، أدعوهم لأن يقتنعوا بأن شيئا جديدا ولد في فرنسا وهو يكبر ويكبر مع الأيام.. إنه الأمل.. أدعو المقاومين الذين لا يلين لهم عزم، أدعو الرجال الأحرار، أدعو المؤمنين بالجمهورية، أدعوهم لوثبة من أجل إنقاذ فرنسا...». وتكر سبحة المراجع التاريخية والأعلام الذين «دافعوا عن فكرة معينة لفرنسا». وباختصار، إنها فرنسا عظمة الماضي مقارنة بفرنسا المتضعة اليوم.

الكل استوعب ما يعنيه دوفيلبان ومن يقصده. إنه رئيس الجمهورية الحالي نيكولا ساركوزي، وإنها فرنسا التي يريد ساركوزي صياغتها وفق ما يريد. دوفيلبان في خطابه الطويل جدا لم يأت على ذكر ساركوزي مرة واحدة. خطابه كان بمثابة «مذكرة اتهامية» بحق الرجل الذي كان وزيرا في حكومته ونافسه على وراثة الرئيس جاك شيراك، ثم الذي ساقه لاحقا إلى المحاكمة بتهمة التآمر ضده في ما سمي «فضيحة كليرستريم» و«فبركة» فضائح غرضها الإساءة إليه وقطع طريق الإليزيه عليه. ساركوزي هدد بـ«تعليقه على جزار». غير أن المحكمة برأت دوفيلبان من الاتهامات التي ساقها ضده ساركوزي، مما أعاده مجددا إلى الساحة السياسية. لكن يتعين على رئيس الوزراء السابق أن يعود مجددا إلى محكمة الاستئناف في الربيع القادم أي قبل عام من الاستحقاق الكبير الذي يتهيأ له دوفيلبان أي معركة رئاسة الجمهورية في شهر مايو (أيار) من عام 2012.

لا يخفي دوفيلبان طموحاته السياسية وإن تحاشى التصريح علنا بأن ما يهمه هو رئاسة الجمهورية. لكن أعوانه يقولون صراحة ما لا يقوله هو إلا تلميحا. دوفيلبان سعى بمناسبة إطلاق «الجمهورية المتضامنة» التي وصفها بأنها «حركة» وأنها «فوق الأحزاب» ومفتوحة لكل من يرغب من اليمين واليسار في الانضمام إليها شرط أن يكون مؤمنا بالمبادئ والتوجهات التي اختطها لها، إلى رسم «خط سياسي» لحركته الجديدة. لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة وضع «برنامج» عام وشامل. دوفيلبان يريد لحركته أن تكون عكس ما يقوم به الرئيس ساركوزي وحكومته في السياستين الداخلية والخارجية، فضلا عن السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي ينتهجها. إنه يريد أن يكون النقيض وهو لا يوفر مناسبة إلا وينتقد النهج الساركوزي، إن في أسلوب ممارسة السلطة، أو «الألاعيب السياسية» التي يطبقها، أو الفضائح المتلاحقة التي تعرفها الطبقة الحكومية، أو أصدقاء الرئيس السياسيين، أو تفضيل مصالح الطبقة الغنية على مصالح الأكثر تواضعا، أو تناسي الوعود الانتخابية عن «الجمهورية المثالية». واجتماعيا، ينتقد دوفيلبان إهمال الضواحي واللغة التقسيمية التي سادت في الأشهر الأخيرة بمناسبة إطلاق النقاش بخصوص مكونات الهوية الوطنية التي فهمت على أنها تنديد بالأجانب واستغلال شعور الخوف من الوافد.. وفي السياسة الخارجية، ينتقد دوفيلبان السير غير المشروط وراء الولايات المتحدة الأميركية والعودة الكاملة للحلف الأطلسي والاستمرار في حرب أفغانستان وفقدان صوت فرنسا المستقل.

والواقع أن دوفيلبان يستفيد من الوهن الذي أصاب ساركوزي وحكومته، فضلا عن تواتر الفضائح المالية وآخرها الخاصة بوزير المالية السابق والعمل الحالي إريك وورث. الوزير المذكور هو في الوقت عينه أمين مالية حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني «الحاكم» والمسؤول عن «ناد» يضم كبار ممولي الحزب الرئاسي. وثارت الفضيحة عندما تبين أن زوجته فلورانس كانت تعمل لصالح ليليان بيتنكور وهي أثرى امرأة في فرنسا ووريثة شركة «لوريال» للصناعات التجميلية. وتبين أن بيتنكور تملك حسابات مصرفية سرية في سويسرا وجزيرة في سيشيل لم تعلن عنها، فيما هي زوجة الوزير الذي جعل من محاربة تهريب الأموال والتهرب من الضرائب معركته الأولى عندما كان وزيرا للمالية بينما زوجته تعمل لصالح امرأة تهرب أموالها إلى الخارج. ولا شك أن هذا «المناخ» من الفضائح يصيب الحكومة ورئيس الجمهورية، ويقوي صوت المنتقدين ومنهم دوفيلبان. وتظهر استطلاعات الرأي أن شعبية ساركوزي تدهورت إلى أدنى مستوى لها منذ وصوله إلى قصر الرئاسة، كذلك تراجعت شعبية رئيس الحكومة فرنسوا فيون والوزراء. وما زاد من رتابة المشهد السياسي الفضائح التي أصابت فريق فرنسا لكرة القدم والنتائج السيئة التي حققها في «مونديال» جنوب أفريقيا، حيث لم يربح أيا من مبارياته وخرج بالتالي من المنافسة من الدور الأول.

لكن هل هذا يكفي لتوفير حظ لرئيس الحكومة السابق في أن ينافس حقيقة ساركوزي على رئاسة الجمهورية؟

تكمن نقطة ضعف دوفيلبان أنه لم يعرف أبدا المنافسة الانتخابية، وهو جديد عليه. بينما ساركوزي قديم في هذه المهنة حيث أصبح رئيسا لبلدية نويي، الضاحية الغنية الواقعة على مدخل باريس الغربي، وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وخاض ساركوزي غمار الانتخابات النيابية والبلدية والأوروبية والإقليمية وله باع طويل في التنظيم الحزبي. فضلا عن ذلك، يستند ساركوزي إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي كان رئيسا له قبل أن ينتخب رئيسا للجمهورية في ربيع عام 2007. والحال أن ساركوزي وضع الأوفياء له في المراكز الحساسة ليضمن ولاء الحزب له في الاستحقاقات القادمة. وإذا كان هو انتخب من القاعدة رئيسا للحزب، فإنه ألغى منصب الرئيس مخافة أن يأتي من ينافسه على ولاء الحزب له. وبالمقابل، فإن دوفيلبان يفتقر لبنى تنظيمية حزبية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. حركته الجديدة ولدت من رحم «نوادي دوفيلبان» التي قال مساعدوه إنها تضم 15 ألف منتسب. والبنية السياسية الجديدة (الجمهورية المتضامنة) ستسمح لرئيس الحكومة السابق بأن يبدأ بجمع الأموال من أجل معركته السياسية القادمة. ورغم أن الاستحقاق الرئاسي لا يزال بعيدا نسبيا، فإن الملاحظ أن أقل من عشرة في المائة يعلنون اليوم أنهم ربما يصوتون لدوفيلبان في الانتخابات الرئاسية. وهذا الرقم لا يخوله البقاء للدورة الانتخابية الثانية التي يتنافس فيها المرشحان الأولان اللذان جمعا أعلى نسبة من الأصوات.

يبقى أن ما يهم دوفيلبان قد لا يكون بالضرورة الوصول إلى رئاسة الجمهورية بقدر ما هو منع انتخاب ساركوزي لولاية ثانية. وبذلك يكون دوفيلبان يريد أن يلعب الدور الذي لعبه جاك شيراك عندما تحالف مع مرشح الوسط فاليري جيسكار ديستان للإطاحة بمرشح حزبه الديغولي جاك شابان دلماس الذي خسر الانتخابات. وكافأ جيسكار شيراك بأن عينه رئيسا للحكومة. لكن الفرق أن إضعاف ساركوزي سيكون لمصلحة المرشح الاشتراكي، سواء كان هذا المرشح مدير صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس كان، أو سكرتيرة عام الحزب الاشتراكي مارتين أوبري، أو مرشحا آخر.

غير أن الأمور لم تصل بعد إلى خواتيمها، ومن المبكر الحكم على ما سيكون عليه الوضع السياسي الفرنسي بعد عامين خصوصا أن اللاعب الأكبر في الانتخابات هو الأزمة الاقتصادية التي إن تراجعت وعاد النمو الاقتصادي فسيكون ذلك لصالح ساركوزي. ويراهن الأخير على ترؤسه مجموعة الثماني، وكذلك مجموعة العشرين، ابتداء من نهاية العام الحالي ليعود بقوة إلى المسرح الدولي، ويفرض نفسه مرشحا طبيعيا. أضف إلى ذلك أن مصير الانتخابات يتعلق أيضا بما سيحصل في المعسكر المقابل أي لدى الاشتراكيين الذين درجوا منذ نهاية عهد الرئيس فرنسوا ميتران على الفوز في الانتخابات المحلية والإقليمية وحتى التشريعية لكن خسارة الانتخابات الرئاسية. وحتى الآن لديهم مرشحون كثر لكنهم يفتقرون إلى المرشح غير المتنازع، مما يعني استمرار انقساماتهم وتجاذباتهم وتأدية خدمة جليلة للرئيس ساركوزي لتمديد عقده في قصر الإليزيه لخمسة أعوام إضافية وحتى عام 2017.