الأغوار.. صراع على كل متر مربع

تمثل ثلث مساحة الضفة وتطفو على 47% من المياه الجوفية.. وبوابة للدولة الفلسطينية.. لكن إسرائيل تسيطر على 95% من أراضيها

أراضي خضراء سيطر عليها الإسرائيليون في الأغوار («الشرق الأوسط»)
TT

يتخذ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في منطقة الأغوار على طول الحدود مع الأردن، شكلا مختلفا، إنه صراع يدور على كل متر مربع في المنطقة التي تشكل نحو 25 في المائة من مساحة الضفة الغربية المحتلة.

وفي كل مكان في الأغوار يمكن مشاهدة المحتلين المدججين بالسلاح يجثمون فوق أرض ليست لهم، آلاف من الجنود وآلاف آخرون من المستوطنين يسيطرون على ما مساحته 95 في المائة من المنطقة، ويلاحقون الفلسطينيين في الـ5 في المائة المتبقية.

ومنذ عشرات السنين نفذت إسرائيل خططا كثيرة في سبيل تهجير الفلسطينيين من الأغوار، وفي الأعوام الأخيرة تحولت الهجمة الإسرائيلية إلى مسعورة ومجنونة، راحت إسرائيل معها تجرب كل شيء ممكن من أجل التخلص من الفلسطينيين نهائيا.

أعلنت الأراضي هناك منطقة عسكرية مغلقة وأراضي دولة، وحولت الأراضي هناك إلى مستوطنات ومصانع ومزارع ومواقع للتدريب الحي، منعت المزارعين والبدو والأهالي من استثمار أراض كثيرة للرعي أو الزراعة أو البناء، قطعت المياه عن تجمعات الفلسطينيين وأراضيهم، وسيطرت على كل الآبار الجوفية في المكان، هدمت بيوتا وأنذرت الأخرى، وعزلت المنطقة عن بقية الضفة الغربية، وأخذت تمنع دخولها لغير أهلها الذين يحملون هويتها.

وكل ذلك يمكن تلمسه في زيارة سريعة للمكان، وقال لـ«الشرق الأوسط» فتحي خضيرات، منسق اللجان الشعبية لمناهضة الاستيطان في الأغوار ومسؤول حملة «أنقذوا الأغوار»، إن الهجمة الإسرائيلية على الأغوار «مبرمجة وتسير وفق خطط جهنمية مدروسة بعناية منذ عشرات السنين، لكنها اشتدت مؤخرا بشكل غير مسبوق».

وحسب خضيرات فإن «الهجرة الفلسطينية من الأغوار متزايدة بشكل كبير بفعل خطط الترانسفير الإسرائيلية».

وتكتسب الأغوار أهمية خاصة عند الإسرائيليين والفلسطينيين معا، وقال خضيرات إن الاهتمام الإسرائيلي في منطقة الأغوار يوازيه اهتمام فسلطيني للأسباب نفسها. وأوضح: «إنها تشكل ثلث مساحة الضفة الغربية، وهي أحد أقطاب مثلث الماء الفلسطيني وتشكل نحو 47 في المائة من مصادر المياه الجوفية الفلسطينية، وهي المعبر الوحيد للفلسطينيين نحو العالم الخارجي، وهي عصب الاقتصاد الفلسطيني المستقبلي الذي يتمثل في الزراعة، وهي المكان الذي يمكن فيه توسيع القدس الشرقية، وهي المكان الذي يمكن فيه أيضا استيعاب اللاجئين حال عودتهم».

وتمتد الأغوار من شمال البحر الميت جنوب فلسطين إلى بردلة عند مدخل بيسان شمالا، وهذه الأيام تضفي حرارة الجو القائظة مزيدا من الكآبة على المشهد المأساوي في منطقة تفضح الوجه الحقيقي للاحتلال بمعناه المجرد.

في الطريق إلى الأغوار، (حيث تشحب صورة البلاد)، جبال قاحلة بلا نهاية، وأراض جفت ينابيعها، وبعض الأشجار التي تستطيع الحياة دون مياه، وبيوت من الصفيح تنتشر بفوضاوية كبيرة دون أدنى ترتيب، وأغنام محاصرة في أماكن ضيقة بفعل الأوامر العسكرية الإسرائيلية التي أعلنت معظم الأراضي عسكرية مغلقة.

كان سليمان زايد (أبو فيصل) من «النويعمة» القريبة من مدينة أريحا، الذي يعيش في خيمة مصنوعة من ألواح «الزينكو» وبعض الأخشاب، يتابع بعض شؤون رعيته من البدو «غير الرحل» الذين تلقوا مزيدا من إنذارات الهدم، وقرروا البقاء في أماكنهم.

طلب أبو فيصل لنا الشاي حتى يساعدنا على التخلص قليلا من حرارة الجو، والشاي في الأغوار هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعدك هناك، فلا هواء ولا منازل مكيفة، وعقب أبو فيصل قائلا: «الشاي يبرد الجسم»، أما هو فلم يكن يبدو أنه يعاني من حرارة المكان مثلنا.

لم ينتظر الرجل أن نبادره بالأسئلة، رحب بنا، صب لنا الشاي بعد أن خيرنا في الجلوس على الأرض أو على كراسي خشبية قديمة، وبدأ يقص حكايته بعد أن اخترنا الكراسي: «إنهم يريدون منا أن نرحل تحت حجج مختلفة، فمرة يقولون لنا إنها مناطق عسكرية مغلقة، ومرة يقولون لنا إنها أراضي الدولة، المهم عندهم أن نترك لهم المكان بأي وسيلة».

أخرج لنا عشرات الإنذارات التي سلمها الإسرائيليون له ولبعض سكان المنطقة، كخطوة تسبق عادة حضور الجرافات الإسرائيلية لتباشر بالهدم، ومن بين الإنذارات كان هناك ما يخص مسجدا بناه الرعيان من الصفيح وآخر يخص مدرسة ابتدائية قريبة من المكان بنيت بالطريقة نفسها.

قال أبو فيصل: «لا يسمحون لنا حتى ببناء خيمة، يراقبون عبر الجو كل شيء هنا ويرصدون كل خطوة، يلاحقون البشر والغنم، لا يريدون ولا فلسطينيا واحدا في هذه المنطقة».

أما الأسباب من وجهة نظر أبو فيصل، فإنها تعود إلى أمنية ومائية، وقال: «هذي منطقة حدودية مع الأردن وتكتسب أهمية أمنية عالية بالنسبة إليهم، كما أن فيها منجم ماء، فنصف مياه فلسطين الجوفية تحتنا».

وردا على سؤال كيف سيتصرف إذا ما أقدم الجنود على هدم منزله، أجاب: «أنا وأولادي الـ18 وزوجتاي لن نبرح المكان، إنه كل حياتنا». وأضاف: «إذا هدموا ما بنرحل بنرجع وبنبني من جديد وخليهم يرجعوا يهدموا بنرجع وبنبني وبنظل هيك تنموت، ما في حل ثاني».

وعشق أبو فيصل للأغوار مرتبط تماما لكرهه لحياة المدن، وقال: «أنا ما بعرف أعيش زيكو بين أربعة حيطان لا أنا ولا أولادي، أنا مش عارف انتو كيف عايشين». وكان أبو فيصل يرد على الزميل الصحافي كريم عساكرة الذي رافقني إلى الأغوار، وقال لأبو فيصل إنه يستغرب كيف يستطيع وعائلته العيش في هذه الظروف.

قرب مسكن أبو فيصل وأولاده، كان مستوطن واحد يسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي، يعرفه أهل المنطقة باسم «عومر». ويمكن من بعيد التأكد من أن يهوديا بالفعل يسكن في هذه الأراضي الواسعة والمسيجة، لسببين: الأول النقطة العسكرية الإسرائيلية القريبة التي تحرس المكان، والثاني الأشجار الخضراء التي تنبت مثل واحة أمل في صحراء قاحلة.

أشار أبو فيصل إلى أراضي عومر، وقال انظر هذا مستوطن واحد يسيطر على كل هذه الأراضي وعلى مياه المنطقة أيضا، ومحروس بكل هؤلاء الجنود، أما نحن فممنوعون من الحركة ومن تربية أغنامنا، ولا نجد أحيانا مياه الشرب.

ويضطر بدو الأغوار إلى نقل المياه عبر تراكتورات من بعض المناطق القريبة، وذلك رغم أن عشرات الآبار الدائرية الكبيرة تنتشر في المكان، لكنها تحت القبضة الإسرائيلية. ينظر البدو إلى هذه الآبار كالظمآن، يقولون: «هذه مياهنا، لكن مين يقدر على اليهود؟!».

ويعيش في الأغوار 7000 مستوطن وهؤلاء يسيطرون على كل خيرات المنطقة، وعصب الحياة فيها المياه. وقال شداد العتيلي رئيس سلطة المياه لـ«الشرق الأوسط»: «كل الإمكانات تذهب إلى مستوطني الأغوار، إن 7000 مستوطن في الأغوار يستهلكون وحدهم ما يستهلكه مليونان ونصف المليون فسلطيني في الضفة الغربية من المياه، هذه هي الحقيقة للأسف».

وهذا الجفاف المائي اضطر كثيرا من الرعاة والمزارعين إلى الرحيل طبعا، وقال خضيرات: «إنهم يسيطرون على عصب الحياة هنا، لقد أعدموا المزارعين والرعاة دون إطلاق رصاص».

واضطر عرب الكعابنة جميعا إلى الرحيل عن المنطقة في فترة الحر الشديد هذه، بحثا عن أخرى تحمل لهم الهواء والماء والكلأ، لضمان حياة أطول لمواشيهم.

وجدنا مضاربهم الصفيحية فعلا خالية من سكانها، وقال أبو فيصل: «إنهم رحلوا إلى منطقة قريبة من دير دبوان في رام الله من أجل الحصول على ماء كاف وطقس معتدل يساعدهم على تربية مواشيهم».

كان رحيلا مؤقتا كما قال أبو فيصل، لكنهم قد يعودون ويجدون كثيرا من منازلهم قد هدمت، فمعظمهم قد تلقى إنذارات بالهدم، بما في ذلك مسجد صغير في المنطقة.

تركنا عرب الكعابنة ورحنا إلى عمق الأغوار، هذه المرة نحو «فصايل»، وفي الطريق مررنا بالعوجا، كبرى تجمعات البدو، بعد أن سمح لنا الجنود الإسرائيليون بالمرور، بسبب هوياتنا الصحافية، إذ عادة لا يسمح لغير أهل المنطقة بالعبور، كانت العوجا ما زالت في مكانها لكن ينابيعها الشهيرة جفت بعد أن سحبها المحتل إلى آبار تخصه.

شاهدنا عبر أكثر من 30 كيلومترا بعد العوجا، الوجه الآخر من الأغوار، «حضارة الصحراء»، مررنا بعشرات المستوطنات التي تجثم على أعلى الجبال هناك مثل «تومر» و«نعران» و«نيران» و«جلجال»، وعددها 35 مستوطنة، شاهدنا عشرات المصانع الإسرائيلية الكبيرة، وأراضي ممتدة مزروعة بالنخيل على مدى البصر، ومزارع أبقار ومزارع حبش ومزارع أعناب في المنطقة التي يسيطر عليها المستوطنون وممنوعة تماما على العرب.

أشار إليها أبو فيصل وقال: «شوف شو بيعملوا، سرقوا الأرض وخيراتها!»، وأضاف: «إحنا ممنوع أن نمر من هذه الأراضي.. ممنوع أن نرعى هنا، وكثيرا ما تعرض رعيان هنا للاعتقال والضرب وحتى سرقة مواشيهم من مستوطنين».

وصلنا إلى فصايل العربية «البائسة» القريبة من فصايل الإسرائيلية «الخضراء»، هكذا كان الفرق بين المنطقتين اللتين تحملان الاسم نفسه.

كان عمر تعامرة (38 عاما) يعيد بناء خيمته التي هدمها الاحتلال الأسبوع الماضي. وقال تعامرة لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أنام هنا مع زوجتي وأطفالي الـ7 وبعض الأغنام في 60 مترا فقط، استكثروا علينا مع غنمنا 60 مترا».

وتشردت عائلة تعامرة بفعل ذلك، واضطر إلى نقل زوجته وأبنائه ومواشيه إلى منازل أخرى في فصايل حتى يعيد بناء خيمته الصغيرة من جديد.

وقال تعامرة: «سأسكن مرة أخرى في خيمتي وإذا ما هدموها مرة أخرى سأعيد بناءها». وأضاف: «ما بترك هذه الأرض وراح أموت هان، ما في حل ثاني».

أما عن سبب تمسكه بهذا المكان، فرد تعامرة: «هذه أرضي وأجمل مكان لتربية الأغنام، أنا بين المدن ما بقدر أعيش وأشتغل».

ويقضي سكان الأغوار البالغ عددهم نحو 25 ألفا دون سكان أريحا، معظم وقتهم في تربية المواشي جنوبا أو الزراعة شمالا، وعرفت المنطقة في أوقات سابقة بسلة فلسطين الغذائية، لكن كل ذلك تبدد الآن.

وتمتد الأغوار على مسافة 120 كيلومترا، بعرض يتراوح من 3 كيلومترات إلى 15 كيلومترا، ومن مناطق محددة في الأغوار يمكن مشاهدة المزارعين الأردنيين في الكرامة والشونة الجنوبية ودهرة الرمل ومثلث المصري.

والحرب على الأغوار ليست حربا تجري على الأرض وحسب، بل ظل ملف الأغوار أحد أكثر المسائل المعقدة في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، وأكد مسؤول فلسطيني رفيع لـ«الشرق الأوسط» أن إسرائيل رفضت التخلي عن المنطقة خلال المفاوضات السابقة، وطلبت استئجارها من السلطة لمدة 99 عاما، ولما أصرت السلطة على الرفض، عرضت إسرائيل على السلطة الاعتراف بالمنطقة فلسطينية لكن مع بقائها محمية أمنية يحظر على الفلسطينيين استخدامها.

ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل لن تتنازل عن السيطرة على غور الأردن في إطار أي اتفاق محتمل للسلام مع الفلسطينيين، وأخبر نتنياهو الكنيست الإسرائيلي غير مرة بالنص الحرفي: «إن الأهمية الاستراتيجية لغور الأردن، الذي يسير بمحاذاة الحدود الشرقية للضفة الغربية ويفصل الأرض الفلسطينية وإسرائيل عن الأردن، تجعل من المحال بالنسبة إلى الدولة اليهودية أن تنسحب منه».

ويبدو أن إسرائيل تريد حسم الملف على الأرض قبل أن تضطر إلى مناقضته على طاولة المفاوضات مرة أخرى. وهذا الأسبوع هدم الجيش الإسرائيلي نحو 65 مسكنا وخيمة وحظائر مواش في منطقة الفارسية شمال الأغوار، وجاء ذلك بعد أسبوعين فقط من هدم 20 مسكنا في منطقة الرأس الأحمر في الأغوار نفسها. وطالت عملية الهدم كل شيء.

وقال خضيرات، إن هذا كان جزءا من سياسة ترحيل جماعي، الهدف منها إقامة وتوسيع البؤر الاستيطانية في هذه المناطق، وأضاف: «هذا ينجح أحيانا كثيرة، أهل الفارسية تركوها ولم يعودوا لها بعد الهجمة التي سوتها بالأرض».

أما السلطة الفلسطينية فتقول إنها لا تعترف بالإجراءات الإسرائيلية، ولا بالسيطرة الإسرائيلية على مناطق «سي» في الضفة بما فيها الأغوار، وتحاول السلطة محاربة الهجمة الإسرائيلية بإقامة مشاريع مختلفة مائية وزراعية، عادة ما تعود إسرائيل وتعطلها.

ورد رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض على نتنياهو الذي قال إن جيشه سيبقى على الحدود في ظل الدولة الفلسطينية المستقبلية، بالتأكيد على أنه «لا دولة فلسطينية من دون الأغوار».

وقال أبو فيصل، إن فياض أول مسؤول فلسطيني زار المكان في محاولة لدعم صمود السكان، وفي آخر زيارة قام بها فياض للمنطقة، قال للأهالي إن الأغوار في سلم أولويات السلطة الوطنية، وهي توازي أهمية القدس.

وأطلقت السلطة مشاريع لدعم القطاع الزراعي، وقال فياض إن الحكومة رصدت 40 مليون دولار لتطوير ودعم الأغوار الفلسطينية. مؤكدا أن السلطة جادة في إحداث التغيير النوعي في المجالات، وبالوسائل المتاحة كافة.

ويتذكر أبو فيصل كلام فياض هذا، وقال إنه وعدهم أيضا بتمديد خطوط كهرباء إلى بعض التجمعات، لكن هذا في حقيقة الأمر رهن بالموافقة الإسرائيلية، ويعرف أبو فيصل ذلك جيدا، ولهذا فإنه لا يعول كثيرا على الكلام، لكنه يتمسك بالأمل.

ووجهت السلطة مؤخرا دعوة إلى أهل الأغوار بالصمود في أرضهم وعدم مغادرة المكان، وقال فياض: «البقاء مقاومة، ليس هنا فحسب بل في كل المدن والقرى الفلسطينية، وخاصة تلك المهددة والمتضررة من الجدار والاستيطان، كما أن البقاء في القدس الشرقية والصمود فيها يشكل عنوان هذه المقاومة».

ومن بين الخطط التي تضعها السلطة لمستقبل الأغوار، بناء مطار في المنطقة التي تأمل السلطة في تحويلها إلى بوابة للتصدير والاستيراد عبر الأردن، لكن ذلك في حاجة إلى دولة مستقلة، والاستقلال تعوزه السيادة، والسيادة تحتاج إلى قوة، وإسرائيل تقول إنها الأقوى في المنطقة!