أحلام موسكو: نسمة طرية

تعود أهلها على العيش في درجات حرارة تبلغ الـ60 تحت الصفر.. ففوجئوا بارتفاعها فوق الـ50

مواطن روسي يشرب الماء إثر ارتفاع درجات الحرارة بصورة غير مسبوقة في العاصمة موسكو (أ.ف.ب)
TT

هل يمكن أن يصدق المرء أن أحلام أبناء موسكو وأقاليمها المترامية الأطراف باتت تتلخص هذه الأيام، في نسمة هواء طرية ندية تمسح عن النفس ما علق بها من متاعب وآلام.

اختزل الكثيرون متطلباتهم في مجرد جرعة من نسيم عليل صار بعيد المنال، بعد أن ارتفعت درجات الحرارة إلى درجات لم تكن معهودة من قبل، في بلد تعود فيه أهله على العيش في دراجات تحت الصفر معظم أوقات السنة.

صدق أو لا تصدق.. هجر الكثيرون من أبناء العاصمة مساكنهم بحثا عن «الهواء» في الحدائق المجاورة، التي راح البعض يفترشها ليلا مع أطفالهم في منظر فريد النمط، قلما عرفته المدينة، فيما انطلق البعض الآخر نهارا إلى شواطئ الأنهار والبحيرات القريبة منها يلتمسون الملجأ والملاذ بعيدا عن الحر ولهيبه الذي دفع آخرين إلى انتهاك كل التعليمات والقواعد التي سنتها السلطات المحلية. راحوا يلقون بأنفسهم مع أطفالهم وصغارهم إلى أحضان نوافير المدينة التي سرعان ما تحولت إلى ما هو أشبه بالحمامات العمومية. وجدوا فيها السلوى بعيدا عن متاعب الطبيعة وانقطاع التيار الكهربائي واشتعال الحرائق في الغابات المجاورة.

أجهزة الإعلام لا تكف عن توجيه التعليمات والتوصيات بالابتعاد قدر الإمكان عن الشارع وإغلاق النوافذ والاهتمام بالإكثار من تناول المياه والمرطبات.

وكانت الحرارة تجاوزت كل الحدود لتبلغ الخمسين درجة فوق الصفر في سيبيريا التي طالما عُرفت بمناخها القارس البرودة الذي يصل شتاء إلى ما دون الستين تحت الصفر فيما اقتربت من الأربعين في العاصمة الروسية لأول مرة في تاريخها منذ قرون كثيرة في الوقت الذي يعكف فيه رجال السياسة والاقتصاد على دراسة أسباب الكوارث الناجمة عن ارتفاع درجة حرارة الأرض والجو.

راح الكثيرون يسترجعون بعض مشاهد «قمة الأرض» التي عقدت في كوبنهاغن في العام الماضي. ثمة من راح يستعيد ما احتدم من جدل حول الحلول التي اقترحها البعض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد تفاقم مشكلات الطبيعة نتيجة التغيرات المناخية وفشل رجال السياسة في العثور على لغة مشتركة واتفاق حول الحلول المنشودة.

تساقطت كل الأرقام والتوقعات التي طالما قالت إن ارتفاع درجة الحرارة إلى ما فوق الثلاثين درجة في العاصمة مسألة على غير وفاق مع حقائق جغرافية الدولة الروسية ولن تتجاوز الحدود. ثمة من يطالب اليوم بإعادة النظر في الكثير من ثوابت الطبيعة التي طالما كانت رمز الدولة على مر التاريخ. الأجهزة المعنية تواصل إحصاء النتائج الاقتصادية والاجتماعية لمثل هذا الارتفاع المفاجئ لدرجة الحرارة. الجفاف يضرب الكثير من الأراضي الروسية ويهدد حسب توقعات المراقبين وإحصاءات المسؤولين بنقص خطير في محصول هذا العام نتيجة تدمير نسبة تزيد عن 20 في المائة من الأراضي الزراعية التي ضربها الجفاف والتهمتها النيران بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض والجو، وإن حاولت وزارة الزراعة الروسية التخفيف من وقع هذه الأرقام، مشيرة إلى أن الخسارة تظل في حدود 9,6 مليون هكتار من مجموع الأراضي البالغة مساحتها 48 مليون هكتار.

وفي هذا الصدد يقول فاسيلي كولتاشوف رئيس مركز التحليل التابع لمعهد العولمة والحركات الاجتماعية إن وزارة الزراعة تضع تقديراتها عند مستوى 85 مليون طن من الحبوب وإن اعتبر الكثيرون من الخبراء هذا الرقم مبالغا فيه فيما يطرح خبراء المركز أرقاما أخرى في حدود 75 مليون طن في الوقت الذي يتوقع فيه آخرون أن يكون الرقم في حدود حجم الاستهلاك المحلي وهو 78 - 83 مليون طن. وفي نفس الإطار يتوقع البعض احتمالات ارتفاع أسعار الخبز في وقت تأثرت فيه المحاصيل الأخرى ومنها البطاطس التي تشغل مساحات تقدر بـ3850 هكتارا حسب إحصاءات وزارة الطوارئ.

ويعرب الكثيرون ومنهم فيكتور زوبكوف نائب رئيس الحكومة عن مخاوف من احتمالات عدم توفر الكميات اللازمة من علف المواشي وتأثر الإنتاج الحيواني، ما يعني في مجمله تفاقم الأزمات الاقتصادية من منظور أن ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية سوف يسفر عن انخفاض الطلب على السلع الأخرى، ما يعني بالتبعية انخفاض مستوى المرتبات وزيادة نسبة البطالة.

وفي هذا الإطار تفكر السلطات المحلية اعتبارا من اليوم في سبل الحد من ارتفاع أسعار الخبز والبطاطس والبيض ومنتجات الألبان واللحوم وإن ظهر من يقول بضرورة عدم المبالغة في التقديرات وأن الأوضاع لن تجنح نحو التدهور في حال توفر 70 - 75 مليون طن من الحبوب وهو رقم لا أحد يقول بعد بأنه بعيد المنال.

وثمة من يقول إن مثل هذه النتائج أمر طبيعي ولا يقتصر على روسيا وحدها، فيما توقعوا أن يشمل «نعيمه» كل البلدان المتحضرة التي تئن اليوم تحت سياط لهيب حرارة الجو بعد أن سبق ورفضت في حينه الاستماع إلى صوت أبنائها العلماء ممن راحوا يدقون نواقيس الخطر ونجحوا في فرض «بروتوكول مونتريال المتعلق بالمواد المستنفدة لطبقة الأوزون» الذي اعتمدته الأمم المتحدة في 16 سبتمبر (أيلول) 1987 إلى جانب «الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ» التي اعتمدت في نيويورك في 9 مايو (أيار) 1992.

ومن اللافت في هذا الصدد أن الرئيس السابق فلاديمير بوتين كان قد بادر في مطلع هذا القرن إلى إثارة قضية التغيرات المناخية، ونظم مؤتمرا دوليا ناقش خلاله مصير «بروتوكول كيوتو» الملحق بالاتفاقية الإطارية حول تغير المناخ الذي تناول «خفض انبعاثات الغازات ذات المفعول الدافئ» بعد إعلان واشنطن عن رفضها لهذا البروتوكول في عام 2001 وتأثير ذلك على موسكو. أكد بوتين تحفظات روسيا بشأن سرعة التصديق على «بروتوكول كيوتو» وقال بضرورة الاهتمام بالنمو الاقتصادي لروسيا بعد أن اضطرت إلى إغلاق مصانعها الأكثر إثارة لتلوث البيئة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإن كان ذلك وفر لها فرص الاستفادة من بيع حصصها من انبعاثات الغازات الملوثة. وكان بوتين أعرب عن ضرورة ألا تنساق بلاده إلى ما وصفه بـ«اعتبارات مرتبطة بمكاسب اقتصادية عابرة» في الوقت الذي اعتبر فيه آخرون أن التغيرات المناخية يمكن أن تسفر عن نتائج إيجابية لروسيا وللأرض بوجه عام.

ومع ذلك فقد أعلن خلفه ديمتري ميدفيديف في معرض حديثه في قمة الأرض التي عقدت في كوبنهاغن في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي أن «روسيا على استعداد لتأمين تخفيض انبعاثاتها الحرارية بمقدار يزيد عن 30 مليار طن خلال الفترة من 1990 حتى 2020 أي ما يعادل 25% من كل الانبعاثات الحرارية في العالم خلال هذه الفترة». غير أن هناك من اعتبر مثل هذا التصريح منافيا للواقع على ضوء استمرار روسيا في تطوير مجالات الطاقة رغم توقيعها عام 2004 على «بروتوكول كيوتو» الذي يكفل لها أفضل الظروف الملائمة لتخفيض نسب الانبعاثات الحرارية التي قالوا إنها كانت عند حدودها الدنيا بسبب إغلاق الكثير من مصانعها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك فقد أعلن ميدفيديف أن بلاده تتصدر قائمة البلدان الأكثر تخفيضا للانبعاثات الحرارية وهي التي تتحمل ما يعادل نصف تخفيضات العالم من هذه الانبعاثات خلال العشرين سنة الأخيرة وهو ما عوض زيادة الانبعاثات الضارة التي لوحظت في البلدان الأخرى.

إذن موسكو الرسمية تؤكد تحملها لكامل مسؤولياتها الدولية والتزامها بالاتفاقيات الموقعة من جانبها وعزمها على تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها. وكان ميدفيديف وقع قبيل سفره إلى كوبنهاغن ما يسمى «مذهب المناخ» الذي قال إن الحكومة سوف تهتدي به في قراراتها حول التغيرات المناخية. غير أن هناك من يقول بغير ذلك ويعتبر هذا المذهب وثيقة شكلية تستند إلى وجهات نظر متخلفة على حد قول عالم الأيكولوجيا فلاديمير سليفياك. ولمواجهة مثل هذه التقديرات يرفع ميدفيديف شعارات التحديث والانتقال بالدولة إلى عالم التكنولوجيا العصرية ما قد يسهم في التخفيف من وقع الكارثة التي تواجه بلاده والعالم، مؤكدا دور الغابات التي تتعرض لحملات همجية من جانب الباحثين عن الثراء السريع مغفلين كونها الوعاء الأساسي اللازم لاحتواء الانبعاثات الحرارية. ويبقى أن يفي أيضا بما سبق وقطعه من عهود على نفسه نظيره الأميركي باراك أوباما الذي وعد بالمشاركة في تقديم معونات للبلدان النامية مقدارها 100 مليار دولار لمواجهة الموقف الناجم عن تدهور أوضاع البيئة وارتفاع حرارة الأرض إلى جانب ما أعلنه حول خطة تخفيض الانبعاثات الحرارية في الولايات المتحدة حتى عام 2020 بنسبة 17% تزيد حتى 80% بحلول عام 2050.

ولكم كانت جميلة تلك التصريحات التي جاءت متناسبة مع جمال «اختيار» كوبنهاغن في ديسمبر أي في ذروة الشتاء، لمناقشة مشكلات التغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض. ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيرا لما سبق وأشار إليه البعض حول أن فشل قمة الأرض يكلف الاقتصاد العالمي خسائر تقدر بـ500 مليار دولار سنويا حسب إحصاء نوبو تاناكا المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة.

وكان تاناكا أشار إلى أنه في حال عدم سرعة تقليص نسب الانبعاثات الحرارية فإن الاستثمارات الإضافية اللازمة لتجاوز التأخر والحفاظ على الحرارة في حدود درجتين مئويتين سوف تبلغ 500 مليار دولار في السنة، وهو ما يكشف النقاب عما تقافز على شفاه الكثيرين من اتهامات تقول بوجود المستفيد من ضخ هذه الاستثمارات!! أما عن ماهية هؤلاء المستفيدين فقد أشارت إليهم صحيفة «الغارديان» البريطانية حين نشرت ما سمي «وثيقة الدنمارك» التي ثمة من اعتبرها وثيقة سرية تكشف عن تواطؤ الولايات المتحدة وبريطانيا والدنمارك حول الفوز بحقوق امتياز بالمقارنة مع البلدان النامية لدى اقتسام حصص الانبعاثات الحرارية.