الصراع من أجل كوسوفو

صربيا خسرت ورقة محكمة العدل الدولية.. وتستعد لخوض معركة جديدة في الأمم المتحدة في سبتمبر

طفلة ألبانية ترفع علم كوسوفو خلال الاحتفالات بالذكرى الثانية لإعلان استقلالها (رويترز)
TT

لم يضع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الصادر في 22 يوليو (تموز) الحالي، حدا للنزاع بين صربيا وكوسوفو، كما يبدو، وإنما كتب له الاستمرار بأشكال مختلفة، في منطقة لا تزال تمثل مثلث عدم استقرار في أوروبا والعالم منذ عدة قرون، ومنها انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى، وكانت الحرب الكونية الثانية إحدى تداعياتها. إذ إن ملف كوسوفو مشحون بأثقال تراث مضرج بالدماء، وبالصراع القومي بين مختلف الإثنيات منذ قدوم الصرب للمنطقة في القرن التاسع الميلادي.

وإذا كانت روسيا البيضاء آخر الديكتاتوريات في أوروبا، فإن منطقة غرب البلقان تعد آخر معاقل الصراع القومي الذي استنزف القارة العجوز على مدى يزيد عن ألف عام. وتمثل كوسوفو، وبعض البؤر الساخنة في المنطقة كالبوسنة، وجنوب صربيا، والسنجق، وإقليم فوفودينا، ساحات مفتوحة لصراعات الماضي البعيد والمتوسط والقريب، كما هي ساحات لصراعات الراهن والمستقبل المنظور.

استمرار النزاع أعلنت عنه صربيا بعد خسارتها ورقة مهمة في الصراع من أجل كوسوفو، وهي التي راهنت على كسبها كورقة تاريخية تثبت بها «صربية كوسوفو». لكن رياح المحكمة الدولية جرت بما لا تشتهي سفن الصرب على مفترق طرق بحور مختلفة ومتعددة، مما فوت عليها، وعلى أجيالها المقبلة، حجة قانونية وتاريخية قد تستعيد بها ما عجزت عنه في الوقت الراهن، لاختلال موازين القوى، بعد تجربة خروج مذلة من كوسوفو سنة 1999 تحت قنابل حلف شمال الأطلسي، حتى لا يتكرر ما حصل في البوسنة بين 1992 و1995 من مجازر واغتصاب وتدمير شامل، كانت إرهاصاته واضحة للعيان، بعد خروج نصف سكان كوسوفو منها هربا من نيران الحرب التي كانت تلتهم كل شيء تقريبا، ومقتل أكثر من 10 آلاف نسمة. وكان العدد مرشحا للزيادة، وحدوث بوسنة أخرى في أقل من 10 سنوات، لو لم يتم التدخل الأطلسي العسكري في ذلك الحين.

لقد أنزل يوم 22 يوليو الستار على مرحلة، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع على كوسوفو بأدوات أقل وأضعف بالنسبة لصربيا، وبسلاح جديد، وإن كان معنويا، بالنسبة لكوسوفو، ويصدق على الوضع ذلك المثل الشهير، مصائب قوم عند قوم فوائد.

خسرت صربيا ورقة محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي اعتبرت استقلال كوسوفو من جانب واحد في 17 فبراير (شباط) 2008 «لا يمثل انتهاكا للقانون الدولي، كما أنه لا يتعارض مع قرار مجلس الأمن الدولي 1244 الصادر عام 1999». لكنها تستعد لخوض جولة جديدة من الصراع في أروقة الأمم المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، بدعم من روسيا والصين وعدد من الدول التي أعربت عن وقوفها إلى جانب صربيا، حتى بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، كرومانيا، وإسبانيا، على سبيل المثال.

وإذا ما استعرضنا الاستراتيجية الصربية في الصراع من أجل كوسوفو، فإنها تتمثل في «عدم الاعتراف مطلقا باستقلال كوسوفو» و«عدم الاعتراف بالهزيمة بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية»، و«المراهنة على الموقفين الروسي والصيني في مجلس الأمن»، و«الاستمرار في إقناع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف باستقلال كوسوفو»، و«عدم ربط انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي، بشرط الاعتراف باستقلال كوسوفو»، وهي رغبات صعبة التحقيق باعتراف مهندسها، رئيس الدبلوماسية الصربية، فوك يريميتش.

مقابل ذلك تتمثل الاستراتيجية الكوسوفية في «استثمار ورقة الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في زيادة عدد الدول التي تعترف باستقلال كوسوفو»، وكانت الكثير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في انتظار ما ستتمخض عنه المداولات في محكمة لاهاي من نتائج، لتتخذ موقفا حيال استقلال كوسوفو. و«مواصلة الاتصالات بالدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وبشكل فردي، لحضها على الاعتراف باستقلال كوسوفو» مستعينة بالثقل السياسي والاقتصادي والعسكري والمعنوي للدول المؤيدة للاستقلال، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وهي من بين الدول الـ22 في الاتحاد الأوروبي التي أعلنت تأييدها لاستقلال كوسوفو، و«السعي للحصول على العضوية في الأمم المتحدة العام المقبل»، وهو ما أكده رئيس كوسوفو، فاطمير سيديو.

الكثير من المراقبين، ومن بينهم الكاتب نجاد لاتيتش، أكدوا لـ«الشرق الأوسط» على أن «دفع صربيا للجوء إلى محكمة العدل الدولية، كان مكيدة»، ويشرح لاتيتش ذلك بالقول: «كان أفضل لصربيا، لخدمة أهدافها الاستراتيجية، عدم اللجوء لمحكمة العدل الدولية، فالرأي الاستشاري قضى على الكثير من الآمال الصربية، وقلب المعادلة ضدها أكثر مما كان في السابق، واختصر الطريق على كوسوفو لحصد المزيد من الاعتراف الدولي، وحتى الحصول على العضوية في الأمم المتحدة العام المقبل».

ومن الواضح أن موازين القوى تميل إلى صالح كوسوفو، منذ 1999، مرورا بما تمخضت عنه المفاوضات الفاشلة بين بلغراد وبريشتينا نهاية 2007، وانتهاء بإعلان الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، في 22 يوليو 2010. كما بدا واضحا أن أنصار استقلال كوسوفو، أكثر تأثيرا وفعالية، من أنصار صربيا الرافضين للاستقلال. ويشبه الإعلامي منصور بردار في حديث خاص بـ«الشرق الأوسط» الموقف الروسي والصيني بمواقف «معارضة في نظام ديكتاتوري»، ويشرح ذلك بالقول: «لم تستطع روسيا والصين منع خروج القوات الصربية من كوسوفو سنة 1999، ولم تستطيعا منع حلف شمال الأطلسي من ضرب صربيا، ولم تستطيعا التأثير على خطة المبعوث الدولي السابق إلى كوسوفو، مارتي اهتساري، ولم تستطيعا منع الاستقلال، ومواقفهما لم توقف عمليات التغيير الميداني في كوسوفو». ويضيف: «صربيا نفسها وقعت في الكثير من المطبات القاتلة، فقد اعترفت بالبعثة الأوروبية، يوليكس، وهي التي نصت عليها خطة مارتي اهتساري، وقبلت بعودة صرب كوسوفو للعمل في مؤسسات الدولة المستقلة، وحضرت اجتماعات دولية ضمت مسؤولين من كوسوفو، وهو نوع من الاعتراف بالأمر الواقع، وهذا ما آخذت عليه المعارضة الصربية حكومة بلغراد في جلسة البرلمان يوم الاثنين 26 يوليو».

وكما يبدو فإن صربيا تخوض معركة خاسرة، فلا هي ولا حلفاؤها الاستراتيجيون، كالروس، أو التكتيكيون، كالصين ورومانيا وغيرهما، قادرون على تغيير مسيرة تثبيت وضع كوسوفو كدولة مستقلة ذات سيادة.

انضمام كوسوفو إلى الأمم المتحدة، ليس حلما لرئيس كوسوفو، فاطمير سيديو، ورئيس وزرائه، هاشم تاتشي، ووزير خارجيته إسكندر الحسيني، الذي قاد صراع بلاده مع صربيا أمام محكمة العدل الدولية فحسب، بل هو اعتقاد وزير خارجية صربيا الأسبق، فوك دراشكوفيتش، الذي أكد أن «كوسوفو ستصبح عضوا في الأمم المتحدة، بعد الإعلان عن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية؛ لأن غالبية الدول الأعضاء ستقبل بنزاهة وسلامة الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية المؤتمنة على تفسير القانون الدولي» ليس ذلك فحسب، بل طالب في حوار مع صحيفة «بريس» الصربية، الصادرة في بلغراد يوم 26 يوليو بـ«الاعتراف بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول استقلال كوسوفو، لأنها هي التي طلبت هذا الرأي»، وقال: «بدلا من الجري وراء ما لا طائل منه، على حكومة صربيا أن تسعى لضمان حياة أفضل للصرب في كوسوفو وللكنائس والأديرة التي بقيت هناك».