المقرحي.. عام من الحرية

الأطباء توقعوا ألا يعيش أكثر من 3 أشهر ولكن بقاءه على قيد الحياة يثير شكوكا حول طبيعة الإفراج عنه

سيف الإسلام القذافي رافعا يد المقرحي لدى وصوله إلى ليبيا بعد إطلاق سراحه من اسكوتلندا (أ.ف.ب)
TT

«لا يتوقع أن يعيش أكثر من ثلاثة أشهر.. وسيتيح الإفراج عنه أن يموت في ليبيا». مر عام كامل على هذه التوقعات التي أوردها البروفسور كارل سيكورا المتخصص في مرض السرطان، في تقريره المقدم للحكومة الاسكوتلندية لتقييم الحالة الصحية لـ«عبد الباسط المقرحي» المدان الليبي في تفجير طائرة بان أميركان (بان إم 103)، فوق بلدة لوكيربي عام 1988، وهو الحادث الذي أودى بحياة 270 شخصا، معظمهم من الأميركيين.

وبناء على تقرير البروفسور سيكورا الطبي، واستنادا إلى قرار وزير العدل الاسكوتلندي «كيني مكاسكيل» تقرر في مثل هذا الوقت من العام الماضي (20 أغسطس «آب» 2009) الإفراج عن المقرحي لـ«أسباب إنسانية»، بعد أن كان قد حكم عليه عام 2001 بالسجن مدى الحياة.

ومنذ عودته إلى ليبيا، ومع كل يوم يمر من هذا العام، تزداد الشكوك والظنون حول الكيفية والطريقة التي تم الإفراج بها عن المدان الوحيد في القضية التي أثارت الرأي العام في أوروبا وأميركا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وتكثر التساؤلات حول ما إذا تم الإفراج عنه في إطار صفقة بين الحكومة البريطانية ونظيرتها الليبية تتعلق، بعقود نفطية وقعتها بريطانيا مع ليبيا، في ما بعد ومن المسؤول عنها، أم في إطار مكافأة لليبيا على تصالحها مع الغرب في الآونة الأخيرة التي بدأت بتفكيك برنامجها النووي عام 2003 وإجراء بعض الإصلاحات في مجال حقوق الإنسان. وتكثر التساؤلات أيضا حول ما إذا كان ذلك يتعلق بتسوية قضية الممرضات البلغاريات الشهيرة اللائي كن محكومات بالإعدام في ليبيا، أم أنه إقرار ببراءة المقرحي كما يصر المقرحي نفسه على أنه لا علاقة له بالحادث وأنه كان مجرد ضحية.

حتى الآن لم تجد هذه التساؤلات أي إجابة شافية واضحة المعالم، لكن وسط هذا الغموض هناك عدة نقاط يجب التوقف عندها.

أولا أن المقرحي موجود حاليا في ليبيا ويتمتع بصحة تبقيه على قيد الحياة. وتشير بعض المعلومات إلى أن المقرحي يمضي أيامه في منزله بالعاصمة الليبية طرابلس في عزلة شبه تامة، باستثناء زيارات بعض المقربين من عائلته، كما أنه يتفادى الحديث إلى مختلف وسائل الإعلام.

ويتلقى المقرحي هناك رعاية طبية من مرض سرطان البروستات، ورعاية اجتماعية مادية أيضا تشرف عليها مؤسسة القذافي للتنمية التي يترأسها سيف الإسلام القذافي.

هذه المدة، والحالة التي عليها المقرحي، جعلت البروفسور سيكورا يعدل عن رأيه السابق ويؤكد في حوار له الأسبوع الماضي، أن «المقرحي يمكن أن يعيش عشر سنوات». ودافع سيكورا عن تقريره السابق الذي تكهن بأن المقرحي ليس أمامه إلا ثلاثة أشهر للعيش، قائلا «إنه كان سيكتب تقريرا أكثر عمومية لو عرف أن ما ورد فيه سيتم التعامل معه كحقيقة». وأكد «أن مهمته كانت تقديم رأي طبي وليس منح المقرحي الحرية»، مشيرا إلى أن 60% من الأشخاص الذين في حالة مشابهة لحالة المقرحي معرضون للموت في مدى ثلاثة أشهر «لكن هذا لا يعني أنه يجب أن يموت في غضون الأشهر الثلاثة».

ويبلغ المقرحي حاليا (58 عاما)، حيث ولد في الأول من أبريل (نيسان) 1952 بطرابلس، وعمل مديرا للمركز الليبي للدراسات الاستراتيجية، ثم عين كرئيس أمن الطيران بشركة الخطوط الجوية الليبية في مطار لوقا بمالطة. وهو متزوج وأب لطفلين.

وثانيا، من المرجح أن هناك أمرا ما تم إخفاؤه في إطاره إطلاق سراح المقرحي، وأن الإفراج عنه ليس له علاقة بالعوامل الصحية كما تم الإعلان عنه. وهذا ما يفسره تصريح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في 20 يوليو (تموز) الماضي، حينما أكد أن إفراج السلطات الاسكوتلندية عن المقرحي «كان خطأ»، رغم استبعاده فتح تحقيق حكومي في الموضوع. وأيده في ذلك السفير البريطاني في الولايات المتحدة، نايجل شينوالد، حينما قال «إن صلاحية البت في المسائل القضائية تعود إلى اسكوتلندا بموجب قوانين البلاد، لكن الحكومة البريطانية تشعر بأسف عميق للأسى الذي سببه إطلاق سراح المقرحي لأسر ضحاياه في بريطانيا والولايات المتحدة على حد سواء».

وقد جاءت هذه التصريحات على خلفية تقارير تم تسريبها مؤخرا تشير إلى احتمال ممارسة شركة النفط البريطانية (بي بي) ضغوطا على السلطات البريطانية للإفراج عن المقرحي، حتى تتمكن من دخول سوق التنقيب عن النفط في ليبيا. وكان تقرير لصحيفة «التايمز» في سبتمبر (أيلول) الماضي قد ذكر أن «بي بي» بذلت مساعي لدى وزير العدل السابق جاك سترو عام 2007 قبيل أن يقرر عدم استثناء المقرحي من اتفاق تبادل السجناء مع ليبيا.

لكن الشركة بدورها نفت وجود أي علاقة بينها وبين الإفراج عن المقرحي، مشيرة إلى أنها ضغطت على الحكومة البريطانية بشأن اتفاق لتبادل السجناء مع ليبيا بسبب قلقها من أن يؤدي التأخر في اتخاذ قرار بهذا الشأن إلى تعطيل اتفاق للتنقيب عن النفط قبالة السواحل الليبية، غير أن الشركة البريطانية أكدت في الوقت نفسه أنها لم تتدخل في المناقشات بشأن الإفراج عن المقرحي.

وبينما نفت الحكومة الاسكوتلندية أن تكون أجرت أي اتصالات مع شركة «بي بي» قبل أن تقرر العام الماضي الإفراج عن المقرحي، قائلة «إنها نقلت المقرحي إلى طرابلس لأسباب إنسانية محضة ولا يمكن أن يعود إلى السجن مرة أخرى»، أكدت ليبيا أن مفاوضات توقيع اتفاق بين ليبيا وشركة النفط البريطانية العملاقة (بي بي) عام 2007، لم تتطرق من قريب أو من بعيد إلى ملف المقرحي.

وقال الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي «إنه لم يسمع بدور لشركة (بي بي) النفطية، الأطباء قرروا إطلاق سراحه، والله أطال عمره حتى الآن».

لكن هذا الجدل وهذه الشكوك دفعت واشنطن إلى المطالبة بفتح تحقيق في القضية، وقرر مجلس الشيوخ الأميركي عقد جلسات استماع خلال الفترة المقبلة حول ما إذا كانت هناك دوافع ما - غير حالة المقرحي الصحية - وراء قرار الإفراج عنه، وطلب من المسؤولين في شركة «بي بي» الإدلاء بشهادتهم في هذا الأمر، بل وصل الأمر إلى المطالبة بأن يدلي رئيس الوزراء السابق توني بلير بشهادته أمام إحدى لجان الكونغرس.

وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيليب كراولي «كان هناك توقع في أغسطس الماضي أن السيد المقرحي لن يعيش سوى بضعة أشهر.. في كل يوم يعيش كرجل حر، نعتقد أنه إهانة لعائلات وضحايا طائرة (بان إم 103)».

ورفض وزير العدل البريطاني السابق جاك سترو الإدلاء بشهادته أمام لجنة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين، وأكد أن هذا الإفراج هو من اختصاص السلطات الاسكوتلندية انسجاما مع الاستقلال الذي تتمتع به المنطقة. كما أعلن وزير العدل الاسكوتلندي كيني ماكاسكيل أنه لن يشارك في هذا التحقيق.

وكان القذافي قد سلم المقرحي إلى بريطانيا لمحاكمته، قبيل نهاية التسعينات، أمام محاكم دولة ثالثة هي هولندا، في محاولة منه لرفع العقوبات الدولية المفروضة على بلاده.

ومكث المقرحي فترة كبيرة في التحقيق إلى أن صدر حكم عليه بالسجن المؤبد يوم 31 يناير (كانون الثاني) 2001، فأودع بسجن بارليني بمدينة غلاسكو باسكوتلندا.

وتنص القوانين الاسكوتلندية على أن مدة المؤبد لا تتجاوز 20 سنة مما يعني انتهاء فترة السجن عام 2021. غير أنه تم الإفراج عنه في 20 أغسطس 2009 لأسباب صحية، ليعود إلى بلاده في صحبة نجل القذافي، وقد استقبل في طرابلس «استقبال الأبطال» بمشاركة مئات الليبيين.

ويرى المراقبون أن الجدل الدائر حاليا بشأن كيفية الإفراج عن المقرحي قد تسبب في أزمة في العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة، على الرغم من النفي الرسمي لحدوث أي توتر في العلاقات بينهما بخصوص هذا الشأن. كما أنها أكدت في نفس الوقت قوة الورقة الاقتصادية التي تلعب بها ليبيا في إعادة علاقاتها بالمجتمع الدولي.

* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»