العراق.. صفحة جديدة

قائد عسكري يقلل من أهمية وجود القوات الأميركية.. وعراقيون يتطلعون إلى مغادرتها بمشاعر مزدوجة

جندي أميركي يحمل العلم الأميركي في مقر عمليات في أبو غريب بالعراق خلال حفل وداع قبل انسحاب الكتيبة من البلاد (نيويورك تايمز)
TT

ما لبث أن أعلن الجيش الأميركي انسحاب آخر قواته القتالية من العراق الأسبوع الماضي، حتى عادت أعمال العنف لتهز البلاد من كل الجهات. فوقعت قبل يومين هجمات منسقة ضربت مدنا في شمال وجنوب وغرب وشرق ووسط البلاد، أوقعت أكثر من 250 قتيلا عراقيا، نصفهم من المدنيين. وفي ظل الشلل السياسي الذي أصاب البلاد منذ الانتخابات التي أجريت قبل نحو 6 أشهر، وعجز الأطراف السياسية عن الاتفاق على تشكيل حكومة، عاد القلق ليسيطر على حياة العراقيين، بسبب غياب الاستقرار الأمني والسياسي.

يروي أحد سائقي الشاحنات من الذين يعملون مع الجيش الأميركي في العراق، كيف ينشغل منذ أكثر من شهر، مئات سائقي الشاحنات، بنقل المعدات والأجهزة من داخل العراق إلى الكويت، استعدادا لانتهاء المهمات القتالية للجيش الأميركي في العراق. وتأتي هذه الخطوة استعدادا للانسحاب الكامل نهاية عام 2011، بحسب الاتفاقية الأمنية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة. ويقول سائق الشاحنة إنه تم نقل المئات من الدبابات وحاملات الجنود والمعدات والأجهزة العسكرية الأخرى.

وأعلنت القيادة العسكرية الأميركية في العراق أن عدد القوات الأميركية في البلاد انخفض إلى أقل من 50 ألفا، وهو المستوى الأقل منذ غزو العراق قبل 7 أعوام. وذكر بيان أميركي أن عدد القوات العسكرية صار «دون الخمسين ألفا»، دون تحديد عددها، وذلك قبل بدء مرحلة جديدة من العمليات في الشهر المقبل، أطلق عليها اسم «عملية الفجر الجديد». وكان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قال إن «سحب قواتنا لا يعني فك الارتباط مع العراق.. في الحقيقة، العكس هو الصحيح». وبموجب الخطط التي أعلنت مسبقا، ستنتقل القوات الأميركية بحلول أول سبتمبر (أيلول) المقبل، إلى الأدوار غير القتالية في المقام الأول التي تركز على دعم وتدريب القوات العراقية النظامية.

وفي أجواء الانسحاب الأميركي من البلاد، كان للمواطنين العراقيين رأي في جوانبه الكثيرة، مخالف لآراء القادة الأمنيين الذين قللوا من أهمية وجود القوات الأميركية في الفترة الأخيرة في البلد، بينما يرى الكثير من المواطنين أن الانسحاب الأميركي سيجعل الساحة شبه خالية لدخول قوات أخرى من دول إقليمية تنتظر هذا الانسحاب لإدخال عناصرها إلى العراق.

وكان استطلاع للرأي أجرته شركة «الشرق للبحوث»، ونشرت نتائجه قبل أيام، قد أظهر انقساما بين العراقيين حول انسحاب الجيش الأميركي، إذ اعتبر غالبية المستطلعين أن الوقت غير مناسب لهذا الانسحاب. وأظهر الاستطلاع الذي شمل عينة مؤلفة من 1150 شخصا في كل محافظات العراق، أن 53.1 في المائة يرفضون انسحاب القوات الأميركية من البلاد، بينما يوافق 46.2 في المائة على ذلك. واعتبر نحو 59.8 في المائة أن الوقت «غير مناسب» لهذا الانسحاب، في حين رأى 39.5 في المائة أن الوقت «مناسب». وحول تأثير الانسحاب على الوضع في العراق، رأى 51 في المائة أنه سيترك تأثيرا سلبيا، بينما اعتبر 25.8 في المائة أن الأثر سيكون إيجابيا. وأبدى 17.7 في المائة اعتقادهم بـ«عدم وجود تأثير».

وتعمل شركة «الشرق للبحوث» في العراق منذ خمس سنوات، وسبق أن أجرت عددا من الاستطلاعات في المجالات السياسية والاقتصادية في البلاد. ويرى نوري حامد، وهو ضابط متقاعد في الجيش العراقي السابق، أن العراق ما زال في حاجة إلى الوجود الأميركي كقوات نظامية، ويقول إن «الجيش والشرطة العراقية ما زالا لا يعملان بالشكل النظامي المحترف»، مشددا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» على أن «القوات العراقية والحكومة العراقية ما زالتا حديثة العهد بالأنظمة العسكرية، وعلى الحكومة بناء قواتها بناء يحمي العراق من أي تدخل أجنبي محتمل عبر الحدود، كما يساعد في البناء العسكري الداخلي لحفظ الأمن الداخلي».

لكن قائدا عسكريا عراقيا رفيع المستوى في عمليات بغداد في حديث لـ«الشرق الأوسط»، قلل من أهمية وجود القوات الأميركية في العراق، وقال إن «وجودها أو عدمه لا يعني شيئا للحالة الأمنية في هذا البلد، فالقوات الأمنية العراقية مسيطرة على الأمن بقوات عراقية 100 في المائة منذ أكثر من عام ونصف العام ولا تدخل لأي جندي أميركي».

وأضاف القائد العسكري، وهو برتبة رفيعة، رافضا الكشف عن اسمه: «إن بعض الجهات الإعلامية والسياسية وحتى المجتمع، خلق هالة كبرى للقوات الأميركية وتأثيرها على الوضع العراقي، لكنها هالة لا وجود لها إلا في مخيلة البعض». وتابع يقول: «الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما، فمنذ ما يقرب من عام ونصف العام، وأكثر، شهد العراق عدة اختبارات أمنية ليست بالسهلة، مثل الانتخابات والزيارات المليونية للمراقد المقدسة ومناسبات أخرى.. وطبقت خطط أمنية عراقية بحتة من دون أي تدخل أميركي». وأشار إلى أنه «ربما عند تنفيذ أول خطة أو الثانية لم يكن هناك ثقة لدى القوات الأمنية في نفسها، لكن بمرور الزمن خلقت مثل هذه الثقة، وطبقت عمليات كثيرة من دون تدخل أميركي، وآخر زيارة، التي شهدتها مدينة الكاظمية، حتى الاستطلاع الجوي، كان عراقيا خالصا، والقطاعات الأمنية تولدت داخلها ثقة منذ أكثر من عام ونصف العام».

وتحدث عن أن «القوات الأميركية تعرقل سير تنفيذ المهمات أحيانا، وتعرقل عمل القوات العراقية لأسباب كثيرة». ويعدد منها أن الأميركيين «عند خروجهم إلى منطقة ساخنة أو غير ساخنة، تحدث عندهم ردة فعل عنيفة، فيستخدمون القوة المفرطة في تعاملهم مع المواطنين. فبدلا من طرق الباب ومن ثم الدخول بشكل طبيعي كما يفعل جنودنا، تراهم يهجمون على الدار ويركلون الباب ويستخدمون قنابل صوتية ترعب الأطفال والنساء. وهي مجرد طلعة مداهمات لإلقاء القبض على مشتبه بهم مثلا». وأضاف: «الجيش والشرطة العراقية يعلمان هذه الحالة، ويصل الأمر إلى أن بعض الجنود يرفضون الخروج مع قوة مشتركة، ويفضل الذهاب إلى الطلعة بقوة عراقية لكونهم يتعاملون كأبناء بلد يطوقون المنطقة ثم تبدأ عملية تفتيش وفق معلومات ومناطق محددة وليست عشوائية، وحتى عند اعتقال أحد لا يركل الباب ولا تستخدم قنابل صوتية».

وأضاف أن «المواطن العراقي دائما يفضل البقاء فوق القانون، وخاصة بعد شعوره بالأمان. فسابقا عند رؤية أحد المواطنين رتلا عسكريا تراه يتخذ الجانب الأيمن بسيارته ويوقفها بشكل عادي، أما الآن فحتى عند سماعه صفارات الرتل لا يمتثل وتراه يتسابق مع الارتال العسكرية رغم أنه فيه خطورة على حياته وسلامته، فقد يتعرض الرتل إلى حادث معين فيجب أن يبتعد هنا المواطن ويترك قوات الأمن تعمل بخبرتها». وأكد أن «القطاعات الأمنية، مثلا، الشرطة الاتحادية تختلف عن الجيش، لأن الجيش العراقي منذ عام 2006 وإلى الآن، لا يوجد قطعة عسكرية تدربت في الجيش تدريبا كاملا، لكن الشرطة الاتحادية دخلت دورات أساسية ودروس مكافحة الشغب ودروسا على احترام حقوق الإنسان. لكن الجيش لم يتدرب على ذلك ونسبة 50 في المائة من أفراد الجيش لا يعلمون أصول حقوق الإنسان ولو علمت هذه النسبة كيفية حقوق الإنسان وفهمتها ونفذتها فنحن بخير». وأضاف أن «قطاعات الشرطة الاتحادية التي تدربت على يد القوات الإيطالية، هي الأفضل والأكثر التزاما، لأن الإيطاليين أعطوهم محاضرات عن حقوق الإنسان وكيفية التعامل مع السلاح. لكن الجيش قضى أغلب واجباته في الشارع، وتراه يتعامل بعيدا عن مواضيع حقوق الإنسان وكيفية التعامل مع المدني أو الضباط وغير ذلك».

وبشأن الخطط العسكرية، قال إن «هناك خططا ستطبق خلال هذه الفترة وإن معظم القطاعات التابعة لوزارة الداخلية ستتسلم مدينة بغداد وتنسحب القوات العسكرية، أي الجيش، إلى أطراف بغداد، وفي المدن الأخرى ستتسلم الشرطة الاتحادية أطراف المدن بواقع لواء في كل محافظة، أما الجيش فسيكون موجودا أيضا في المحيط». وأضاف: «الشرطة الاتحادية مع أفواج الطوارئ ستتسلم بغداد في المرحلة الأولى، وبعد استقرار الوضع سترجع الشرطة الفيدرالية أو الاتحادية إلى قواعدها، وتتسلم الشرطة المحلية. لكن عند حدوث طارئ تتدخل الشرطة الاتحادية ثم تعود». وأشار إلى أن الخطة تقضي بتقليص عدد السيطرات في بغداد إلى ثماني سيطرات مركزية فقط، وإلغاء الأخرى، «وهذا مرهون أيضا بتطور الأوضاع نحو الأفضل».

وأبدى الكثير من العراقيين تخوفهم مما قد يحصل بعد الانسحاب الأميركي من العراق. ويرى علاء الطائي، وهو أستاذ جامعي، أن «القلق يأتي من عدم الثقة في مقدرة القوات العراقية على حفظ الأمن، خصوصا مع التوتر السياسي العام بعدم تشكيل الحكومة». ويقول جعفر سليم، وهو رجل أعمال، إن قلقه نابع من أن «الميليشيات المسلحة تنتظر خروج القوات من العراق لتبادر إلى نشر عناصرها في البلاد متخذة من بعض المناطق التي ما زالت رخوة حسب المفاهيم العسكرية، مقرات لها». لكن نصير عامر، وهو محاسب، يرى عكس ما يراه الآخرين، ويقول إن «القوات الأمنية العراقية أثبتت جهوزيتها رغم الخروقات الأمنية التي حصلت مؤخرا»، مستدركا بالقول إن القوات الأمنية العراقية ستكون أكثر قوة بخروج القوات الأميركية من البلاد لأنها ستعتمد على جاهزيتها ومعلوماتها دون اللجوء إلى الجانب الأميركي.

لكن مع بدأ وصول قطاعات الجيش الأميركي إلى قواعدها في شمال الكويت بعد انسحابها من العراق عبر مدينة البصرة، ازداد عدد نقاط التفتيش في مدن جنوب العراق مع ترقب وحذر واضح لدى أبناء محافظات «البصرة وذي قار» مع زيادة ملحوظة في عدد الهجمات التي استهدفت تلك القوات بعد انسحابها. وقال مصدر أمني في محافظة البصرة، طلب عدم الكشف عن هويته، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «أول جندي أميركي قتل بعد إعلان الانسحاب من العراق كان في مدينة البصرة»، مبينا أن «الجندي قتل على أثر انفجار عبوة ناسفة كانت مزروعة في شارع الأكاديمية البحرية خلف منطقة (خمسة ميل)، وذلك خلال مرور دورية أميركية متجهة نحو قاعدة مطار البصرة ليلة الجمعة».

من جانبه، أكد رئيس مجلس محافظة البصرة، جبار أمين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن القوات الأميركية أكملت انسحاب وحداتها المقاتلة من المحافظة فجر يوم الخميس، مشيرا إلى أن «القوات العراقية ستكون في امتحان حقيقي، وذلك من خلال فرض الأمن والاستقرار على الشارع البصري».

ويرى المواطن البصري سلام العيداني، أن انسحاب القوات الأميركية من العراق شكلي، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «الشارع البصري بدا ملتهبا بعد خروج تلك القوات، فسماع دوي الانفجارات وقطع الشوارع الرئيسية صار أمرا مألوفا هذه الأيام».

وفي محافظة ذي قار (375 كلم جنوب بغداد)، لا يختلف الحال عما هو موجود في البصرة من حظر التجوال وقطع الشوارع. ويقول المواطن محمد غالي، إن «الشوارع مغلقة.. ورمضان أصبح بلا طعم ولا رائحة!». ويضيف أن «الناصرية أصبحت منطقة ملتهبة والفضل يعود إلى قاعدة طليل (18 كلم غرب الناصرية)، لأن القوات الأميركية عند انسحابها في اتجاه البصرة من تلك القاعدة بعد أن أتوا من محافظات العراق الوسطى، ولذا نسمع دوي الانفجارات».

ونقل بيان عن اللجنة الأمنية في محافظة ذي قار، أن اللجنة قررت الإبقاء على التدابير الأمنية المتخذة على ما هي عليه، وإلى إشعار آخر. ويضيف البيان الذي تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه، أن التدابير الاحترازية الجديدة تهدف إلى منع وقوع هجمات إرهابية في فترة الإفطار التي ينشغل خلالها المواطنون بالطعام والصلاة.