رجل واشنطن في العراق

السفير الأميركي الجديد جيم جيفري أسهم في جعل سياسة بوش تتأقلم مع المتغيرات في العراق

جيمس جيفري
TT

شهدت السياسة الأميركية ودور واشنطن في العراق تقلبات عدة هذا الصيف، من اكتمال سحب القوات الأميركية القتالية من العراق إلى الاستعداد لإنهاء قائد القوات الأميركية راي أوديرنو مهامه في العراق، بعد 55 شهرا من الخدمة العسكرية هناك. ولكن ربما أبرز هذه التغييرات هو وصول جيم جيفري إلى بغداد وتوليه منصب السفير الأميركي الجديد في بغداد. جيفري الذي كان له دور مهم في بلورة السياسة الأميركية خلال السنوات الأولى بعد حرب عام 2003، وسقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وبينما كان جيفري يعمل خلف الكواليس على الملف العراقي خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، فقد اختاره الرئيس الأميركي باراك أوباما ليصبح وجه الدبلوماسية الأميركية في بغداد. ويعلم جيفري تماما مدى التقلبات في العراق، حيث قال خلال شهادته أمام مجلس الشيوخ الأميركي: «العراق يشهد فترة تغيير شديدة السرعة»، مضيفا: «السياسة الأميركية يجب أن تتطور لتعكس التغييرات وتتأقلم معها». وجيفري، الذي عمل نائب مستشار الأمن القومي لبوش قبل تعيينه سفيرا في أنقرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2008، أسهم في جعل سياسة بوش تتأقلم مع المتغيرات في العراق خلال الفترة السابقة، ومن المتوقع أن يفعل الأمر نفسه في العراق اليوم.

وصل جيفري إلى بغداد الأسبوع الماضي، حيث قدم أوراق اعتماده للرئيس العراقي جلال طالباني، ووزير الخارجية العراقي، هوشيار زيباري، وكلاهما سياسي عراقي اعتاد على التعامل مع جيفري، خاصة عندما كان مبعوث وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس للعراق. وبعد ساعات من وصوله إلى العراق وتقديمه أوراق اعتماده للرئيس العراقي، بدأ جيفري جولة لقاءات مع الساسة العراقيين للعمل على الخروج من المأزق السياسي الذي يعصف بالعراق. والتقى جيفري برئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، يوم تسليم أوراق اعتماده الذي صادف 18 أغسطس (آب) الحالي، كما أنه زار إقليم كردستان العراق بعدها بأيام لإجراء مشاورات مع كبار المسؤولين الأكراد.

وسرعة انغماس جيفري في عمله بالعراق، إحدى أبرز خصاله في العمل. ووصف نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، مايكل كوربن، لـ«الشرق الأوسط» جولة جيفري في العراق، ولقاءاته مع القادة السياسيين بأنها «نموذج على طاقته والتزامه». وأوضح قائلا: «قبل 3 أسابيع فقط، كان السفير جيفري يعمل كسفير نشط جدا في عاصمة إحدى الدول التي نتمتع بأوثق الشراكات الاستراتيجية معها، وقد استهل أولى جولات اجتماعاته في العراق، وقد التقى باللاعبين الأساسيين». وأضاف: «إنه نشط جدا وتقريبا لم يأخذ أي إجازة». واعتبر كورب أن كل هذا «يظهر التزامه (جيفري) والأهمية التي نعلقها على العراق في الوقت الحالي».

وكوربن يعرف جيفري منذ سنوات، إذ عملا في وزارة الخارجية وعلى ملفات متقاربة، أبرزها العراق. ولدى المسؤولين علاقة عمل جيدة، مما سيسهل عليهما العمل سويا لمعالجة الملف العراقي الذي سيصبح ابتداء من سبتمبر (أيلول) المقبل، مسؤولية وزارة الخارجية الأميركية، بعد أن كانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتولى مسؤوليته بالدرجة الأولى منذ حرب عام 2003.

ومن جهته، قال رئيس حكومة إقليم كردستان برهم صالح إن «جيفري له إلمام جيد بتفاصيل الوضع العراقي وتربطه علاقات شخصية وثيقة مع أكثر القادة السياسيين». وأضاف صالح في اتصال مع «الشرق الأوسط» في نفس يوم اجتماعه مع جيفري في أربيل، أن السفير الأميركي الجديد «يؤخذ على مأخذ الجد لما يعرف عنه، لقربه من صناع القرار الأميركي وقربه للمؤسسة الأميركية».

ومن العراق، الذي يعود إليه للمرة الثالثة خلال السنوات الست الماضية، يدخل جيفري عامه الـ43 في العمل للحكومة الأميركية، إذ كان جنديا خدم في حرب فيتنام نهاية الستينات من القرن الماضي، وسفيرا في أنقرة التي انتقل منها ليتولى مهامه في بغداد.

يذكر أنه بسبب خدمته العسكرية بين عامي 1969 و1979 في الجيش الأميركي، حيث خدم في فيتنام وألمانيا، حيث توجد قواعد عسكرية، فإن لدى جيفري تفهم لطريقة عمل الجيش الأميركي. وتعتبر العلاقة بين السفير الأميركي وقائد القوات الأميركية في العراق من أهم العلاقات التي تؤثر في السياسة الأميركية في البلاد. وبينما كان السفير الأميركي السابق في بغداد ريان كروكر يتمتع بعلاقة بارعة بالجنرال ديفيد بترايوس، عندما كان الأخير يقود القوات الأميركية في العراق بين عامي 2007 و2008، ولم يتمتع السفير الأميركي الذي خلف كروكر، كريستوفر هيل بعلاقة وثيقة بالجنرال راي أوديرنو. ومن المرتقب أن يبذل جيفري جهودا حثيثة لتوثيق علاقته بالجنرال لويد أوستون الذي يتولى مهام قيادة الـ50 ألف جندي الباقين في العراق ابتداء من أول سبتمبر المقبل.

ولدى جيفري مزيج من العلاقات والخبرة، التي تجعل اختياره للمنصب الجديد في العراق في غاية الأهمية. واعتبر كوربن أن «السفير جيفري يجلب معه الخصال المناسبة في الوقت المناسب للعراق، بسبب تجربته المكثفة في العراق وتركيا والمنطقة». وأضاف أن هذه الخصال تأتي أيضا من «فهمه لعملية العمل بين الدوائر المختلفة في واشنطن، خاصة البيت الأبيض، بسبب عمله في مجلس الأمن القومي، بالإضافة إلى «علاقة العمل الرائعة التي يتمتع بها مع الجيش خلال سنوات عمله، بما في ذلك الخدمة العسكرية، فكلها تسهم في جعله الرجل المناسب في الوقت المناسب».

وتحدث عدد من الدبلوماسيين العراقيين والأميركيين لـ«الشرق الأوسط» عن جيفري، طالبين عدم الإشارة إلى أسمائهم، حيث أجمعوا على خبرته وأهمية فهمه للغتين العربية والتركية، بالإضافة إلى العلاقات المعقدة في المنطقة. كما أن جيفري منظم في عمله، ومعروف عنه وضع أولويات محددة لعمله وتطبيقها بشكل منتظم، كما أنه دبلوماسي مخضرم وله قدرة على كسب الآخرين.

وهناك جانب مهم في خبرة جيفري، وهو عمله سفيرا لسنتين في أنقرة، حيث وثق علاقاته بالقادة الأتراك. وأفادت مصادر عراقية مطلعة بأن هناك توقعا بأن يكرس جيفري علاقاته مع تركيا لحل بعض الملفات، وعلى رأسها علاقة أنقرة مع حكومة أربيل. كما أن جيفري كان نائب رئيس البعثة الأميركية في أنقرة بين عامي 1999 و2002، وقبلها كان نائب رئيس البعثة الأميركية في الكويت بين عامي 1996 و1999. وقال كوربن: «العلاقات الإقليمية مهمة جدا للعراق، وأحد أهداف الرئيس أوباما، مساعدة العراق على الاندماج في المنطقة كشريك بناء، والسفير جيفري يجلب الخبرة والمعرفة الملائمة للمساعدة على تحقيق هذا الهدف».

يذكر أن جيفري ينوي أن ينشط السفارة الأميركية بطرق كثيرة، اجتماعية وسياسية. وتصطحب جيفري زوجته غوردون، التي برزت في الوسط الدبلوماسي في دول عدة، تركيا وتونس وألبانيا، حيث عملا سابقا. ويؤكد مسؤولون أميركيون أن وزارة الخارجية الأميركية تشجع الدبلوماسيين الأميركيين على اصطحاب زوجاتهم وأزواجهم للعمل في العراق الآن، بعد أن كانت السنوات الأولى من العمل في العراق لا تسمح باصطحاب الأزواج.

ومن المعروف عن زوجة جيفري أنها نشيطة في الأمكان التي يخدم فيها زوجها. وخلال فترة عمله سفيرا في تركيا، كانت حاضرة في النشاطات الدبلوماسية، وقامت بجولات عدة في مدن تركية عدة، بالإضافة إلى استضافة مناسبات مثل دورة «بريدج» في مقر إقامة السفير الأميركي في أنقرة. أما في ألبانيا، فكانت زوجته مهتمة بالقضايا المحلية ودعمت جمعيات مثل «جمعيات البنات والسيدات الألبانيات». ولدى جيفري وزوجته ابن وابنة يقيمان في الولايات المتحدة.

يذكر أن جيفري الذي ولد في ولاية ماساتشوستس، يقيم خلال فترة مكوثه في الولايات المتحدة بولاية فيرجينيا المجاورة لواشنطن. ولديه علاقات وثيقة في واشنطن مع سياسيين من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي. ويشدد جيفري على أهمية التاريخ في العمل السياسي، إذ إنه حصل على البكالوريوس بالتاريخ من جامعة «نورث إيسترن» عام 1969، وماجستير إدارة الأعمال من جامعة بوسطن عام 1977. ولديه أيضا دبلوم اللغة الفرنسية من جامعة باريس، وهو يجيد اللغات الفرنسية والألمانية والتركية.

وبعد خدمته العسكرية، التحق جيفري بوزارة الخارجية عام 1977، وقد عمل في سفارات عدة، ولكن في الفترة الأخيرة ركز على منطقة الشرق الأوسط.

ومن المثير أن جيفري، الذي برز في تطبيق سياسة بوش في العراق يظهر اليوم كوجه لاستراتيجية أوباما في العراق. ويصطحب معه اليوم عددا من المستشارين مثل بريت ماغوريك، الذي كان عضوا في مجلس الأمن القومي ومسؤولا عن العراق خلال السنوات الأخيرة من إدارة بوش. إلا أن كوربن شدد على أنه لا توجد ثغرة بين المرحلتين. وأوضح: «أن الرئيس أوباما كان واضحا أننا ندعم اتفاقية الإطار الاستراتيجية والاتفاقية الأمنية، وكلتاهما تم التفاوض عليها وتوقيعها خلال الإدارة السابقة، والتزاماتنا للعراق أو دول أخرى مثل تركيا أو مصر لا تتعرض للفوارق الحزبية».

وقال كوربن إن جيفري «الرجل المناسب في الوقت المناسب»، في وقت تشهد فيه العلاقات العراقية - الأميركية انتقالة مهمة. وبينما خبرة جيفري ومعرفته بالعراق وساساته تجعله الرجل المناسب ليمثل إدارة أوباما في العراق، فإنه من غير الواضح بعد، إذا كان الوقت مناسبا، إذ يواجه تحديات كبيرة غالبيتها خارج سيطرته، وعلى رأسها الأزمة السياسية العالقة في العراق.

إلا أن صالح قال إن إحدى أبرز صفات جيفري هي أنه «رجل بطبيعته متفائل»، مضيفا: «لقد عملت معه عام 2004، عندما كانت تحديات أمنية تعصف بالعراق، ورأيت منه تفاؤلا وإصرارا كاملا على النجاح». وتابع: «في ذلك الوقت كان التفاؤل في محله لأن العراق استطاع أن يتغلب على التحديات الأمنية العصيبة حينها». واعتبر صالح أن «اليوم التحدي مختلف، إذ إن لدينا تحديا سياسيا وتحديا تجاوز الفشل الذريع، الذي يعاني منه العراق، والمتجسد في أداء النخبة السياسية». وأكد جيفري في شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية التي صادقت بالإجماع على ترشيحه لمنصب السفير الأميركي في بغداد، أن أولويته ستكون تسهيل تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، وبناء الشراكات التي تبنى على «التضحيات المشتركة» التي قدمت في العراق.

وقبل أن يترك أنقرة في 30 يوليو (تموز) 2010، كتب جيفري رسالة إلى الشعب التركي عبر فيها عن مشاعره تجاه تركيا التي عمل فيها مرات دبلوماسية عدة وبنى علاقات وثيقة مع شعبها منذ أكثر من 28 عاما. وقال جيفري في الرسالة: «سألني صحافي عما ستكون رسالتي للشعب التركي بينما أغادر هذه البلاد، إجابتي سهلة: لا تقلقوا على تركيا، إنها أحد الفائزين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين». ويعمل جيفري الآن على جعل العراق أحد الفائزين أيضا، لكنه في الوقت نفسه واقعي ويفهم التحديات التي تواجهه بينما يقود أكبر بعثة دبلوماسية أميركية. كما أن الرسالة تعبر عن القيم التي يهتم بها جيفري والتي يعتبر أنها تربط تركيا والولايات المتحدة وهي «إنهاء النزاع للاستقلال واختيار الديمقراطية كنمط الحكومة للدول الجديدة». وهو الأمل نفسه الذي يحمله جيفري للعراق اليوم.

وبينما يجدد جيفري «صداقات قديمة» عادة ما يشير إليها عندما يكون الحديث عن علاقاته مع العراقيين، أمامه معضلة التعرف على الشخصيات التي تبرز في العراق اليوم ولم تكن لديها العلاقات نفسها مع الإدارة الأميركية بعيد حرب عام 2003. وبمزيج من التفاؤل والتفهم والحذر والتركيز، يعمل رجل واشنطن في العراق على تثبيت أقدامه وأقدام إدارة أوباما في تنفيذ الاستراتيجية الأميركية لـ«إنهاء الحرب بمسؤولية».