إرهاب القوقاز

داغستان أخطر الجمهوريات الإسلامية.. وموسكو تعترف بأن مستوى المعيشة المتدني يعزز التطرف

TT

تثير العمليات الإرهابية التي تتواصل في كثير من جمهوريات شمال القوقاز، لا سيما داغستان، التي انطلقت منها في الأمس القريب فرق «الأرامل الانتحاريات» لتضرب مترو أنفاق العاصمة موسكو، الكثير من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء تصاعد الجريمة والإرهاب في المنطقة. ويطرح البعض علامات استفهام حول مدى قدرة السلطات المحلية والفيدرالية على مواجهة «الطفرة» المفاجئة لنشاط المتطرفين والإرهابيين ممن يتشحون بعباءة الدين.

وفي الوقت الذي يعزو فيه البعض تواصل مسلسل الإرهاب إلى أسباب تتراوح في طبيعتها بين الداخلية والخارجية، يعود الكثيرون إلى تساؤلاتهم حول مدى صحة سياسات الكرملين في القوقاز، وقدرته على الوفاء بالاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة. وثمة من يتساءل أيضا حول جدوى الاستمرار في تصديق وعود السلطات المحلية وتأكيداتها بشأن قدراتها الذاتية على مواجهة هذه العمليات الإرهابية، بعد أن سبق وأقنعت موسكو بإلغاء حالة الطوارئ، التي سبق أن فرضها الرئيس السابق فلاديمير بوتين مع أولى سنوات الحرب الشيشانية الثانية في نهاية عام 1999.

الواقع يقول إن ما يجري في القوقاز من أحداث عنف يعود بتاريخه وأسبابه إلى سنوات كثيرة خلت، طالما شهدت غض الطرف عن مشكلات ذلك الزمان وإغفال محاسبة أبطال المكان، ومنهم عدد من رموز الحاضر ممن يدعون قدراتهم على فهم أكثر لطبيعة أبناء القوقاز وتقاليدهم ومعرفة نسيج مشكلات المنطقة. وإذا كان الكرملين قد نجح في قمع التمرد المسلح وإخماد الحركات الانفصالية مع مطلع القرن الحادي والعشرين، من خلال حملة منظمة استندت إلى استراتيجية واضحة أكدت عقم الشعارات الانفصالية حول الاستقلال، واعتمدت على مباركة القوى الخارجية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فإنه لم يمض إلى ما هو أبعد مغفلا الكثير من أسباب نجاحه النسبي، التي تكمن في معظمها في خيبة أمل الكثيرين في قياداتهم المحلية، وإدراكهم لعدم قدرتها على حل مشكلاتهم المعيشية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وإحساس البعض، ولا سيما في داغستان، بضعف القبضة الأمنية وسقوطها في مستنقع الفساد.

ويذكر الكثيرون تراجع القضايا السياسية وهزيمة «الشعارات الانفصالية»، وفشل محاولات إضفاء الصبغة الدينية عليها، وتعثر القيادات الشيشانية في إدارة «الوطن» الذي تمتع عمليا بالاستقلال الفعلي، في أعقاب استكانة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين واستسلامه بعد هزيمة عسكرية مهينة لحقت بقواته في العاصمة غروزني. ووقّع حينها ممثله الجنرال ألكسندر ليبيد صك الهزيمة في 31 أغسطس (آب) 1996، الذي نص ضمنا على خروج كل القوات الفيدرالية من الشيشان.

وكانت السلطة الفيدرالية ممثلة في فلاديمير بوتين قد حققت قدرا كبيرا من النجاح في فرض النظام بالقوة، استنادا إلى عدد من القيادات المحلية ممن سبق أن قاتلوا إلى جانب المقاتلين في الحرب الشيشانية الأولى، تحت شعارات الانفصال والاستقلال عن روسيا، ومنهم مفتي الجمهورية الحاج أحمد قادروف والد الرئيس الحالي، رمضان قادروف، الذي كان أول من أعلن خصامه مع الماضي، مؤكدا قناعته بفشل التوجهات الانفصالية، وعقم شعارات استقلال الشيشان.

وفي هذا الإطار حقق قادروف الأب قدرا كبيرا من النجاح في قيادة المسيرة، بمباركة ورعاية مباشرتين من جانب الكرملين، ودعم مواطنيه ممن سئموا الدمار والإرهاب واقتتال رفاق الأمس من المقاتلين. لكنه اغتيل وخلفه رفيق الدرب علي الخانوف الذي انتخب رئيسا باعتراف صريح من الكرملين، سرعان ما عاد عنه حين بارك مؤامرات خصومه ممن وقفوا وراء تصعيد الابن رمضان قادروف، ليدير المنطقة من وراء ستار. وأيضا بدعم غير مباشر من جانب السلطات الفيدرالية التي تعمدت إغفال الكثير من مشكلات الشاب الذي لم يكن قد أكمل الثلاثين من العمر. وغض الطرف عن مضايقاته لخلف أبيه الرئيس السابق علي الخانوف، وليبارك لاحقا صعوده غير العادي إلى قمة السلطة في الشيشان، بعد إرغام الأخير على تقديم استقالته. ويذكر الكثيرون الكثير من الاتهامات التي تطايرت في حق قادروف، وتحميله مسؤولية التورط في الكثير من جرائم اختطاف البشر واغتيال الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان، ومنهم آنا بوليتكوفسكايا وناتاليا إيستميروفا وزاريما سعداللايفا، وزوجها اليك جبرائيلوف.

وبغض النظر عن مدى وحقيقة مشروعية هذه الاتهامات، فإن هناك من يشير إلى الكثير من مظاهر استبداد وديكتاتورية قادروف، التي ترقى لحد عبادة الفرد وتقديسه في كل أرجاء الجمهورية، بعد نجاحه في إقناع الكرملين بقدراته الخارقة في التعامل مع ثعالب الجبال من المقاتلين الرافضين لإلقاء السلاح، وانتزاع عفوه عن الكثيرين من رفاق الماضي الهاربين والخارجين عن القانون السلاح، وموافقته على عودتهم وانخراطهم في الحياة المدنية بل والعسكرية ضمن صفوف الأجهزة الأمنية، بعيدا عن الشعارات الانفصالية التي باتوا على يقين من أنه لا طائل من ورائها.

ومن هذه المنطلقات استطاع قادروف إقناع السلطات الفيدرالية بتسليم كل مقاليد قيادة الأجهزة الأمنية إلى السلطات المحلية، والحد من نفوذ الرموز الفيدرالية داخل أراضي الشيشان، وهو ما مضى به إلى حد النجاح في تلبية طلبه بإلغاء حالة الطوارئ في الشيشان. وقد انسحبت تبعات ذلك لاحقا على منطقة القوقاز، لتعود بؤر التوتر في مختلف الصور، في وقت لم تكن فيه قد استقرت بعد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مما وفر الفرصة لخصوم النظام لاستقطاب الرافضين والمتضررين. وعلى الرغم من كل مشكلات الداخل في الشيشان كان هناك من يبارك فرض قادروف لسلطاته خارج حدود جمهوريته، خصما من رصيد ومكانة الكرملين وممثليه في الأقاليم المجاورة للشيشان. وقد بلغ البعض حد المطالبة بتولي الرئيس الشيشاني لمهام أمنية تقع ضمن صلاحيات نظرائه في الجمهوريات المجاورة، لا سيما داغستان، أكبر جمهوريات شمال القوقاز، بخريطتها الإثنية المتنوعة وقومياتها التي تتجاوز الخمس والثلاثين، وأنغوشيتيا إحدى أصغر هذه الجمهوريات، وكانت حتى آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق جزءا من الشيشان.

وكانت النتيجة تكرار وقوع العمليات الإرهابية في الجمهوريات الثلاث إلى جانب قبرطية بلقاريا التي انضمت مؤخرا إلى قائمة المستهدفين من جانب قوى الشر والإرهاب على غرار مجموعات «رياض الصالحين» وفرق «الأرامل الانتحاريات» التي سبق أن أعلن عن تشكيلها القائد الميداني الشيشاني شاميل باسايف.

وقد استند مدبرو هذه العمليات الإرهابية إلى سخط ونقمة مئات الألوف من أبناء المنطقة تجاه تفشي ظواهر الفساد والرشوة، وانتشار الفقر والبطالة، وتردي الأوضاع المعيشية في المنطقة، وسقوط الكثيرين فريسة الأفكار الدينية المتطرفة، وأحيانا بمباركة قوى خارجية. وكانت موسكو اعترفت رسميا بضرورة الاهتمام أكثر بتنفيذ البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تكفل رفع مستوى المعيشة، والحد من انفجار ظاهرة البطالة التي تتراوح في كل من داغستان والشيشان وأنغوشيتيا من 30 إلى 70 في المائة، حسب المصادر الرسمية التي لا تزال بعيدة عن خطة واضحة تستهدف دمج هذه المناطق في إطار استراتيجية بناء الدولة العصرية.

وبدلا من البحث عن السبل المناسبة لدمج المنطقة والعمل من أجل احتواء مشكلاتها، تعالت اتهامات الرئيس الأنغوشي يونس بك يفكوروف للولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل بالوقوف وراء أحداث التوتر والإرهاب، ومنها حادث اقتحام انتحاري على متن شاحنة مفخخة لمقر إدارة الشرطة في نزران، في أكبر عملية إرهابية أسفرت عن مقتل ما يزيد عن العشرين، وإصابة ما يزيد عن 130 من رجال الأمن والمدنيين هناك في صيف العام الماضي.

وقد أجمع المراقبون أن هذا الحادث الذي أعقب محاولة اغتيال الرئيس الأنغوشي، وتصفية وزير داخلية داغستان، واغتيال عدد كبير من كبار القيادات الأمنية والتنفيذية في جمهوريات داغستان والشيشان وأنغوشيتيا، كان نقطة الذروة للمشكلات التي تعصف بأمن واستقرار المنطقة.

وإذا كان ثمة من تصور أن الأسلوب الذي عالجت به السلطة الفيدرالية أوضاع الشيشان يمكن أن ينجح في الجمهوريات المجاورة، فإن الواقع يقول إن الشيشان لم تحل مشكلات الداخل بقدر ما نجحت في تصدير مشكلاتها إلى الجمهوريات المجاورة، بعد فرار عناصر الجريمة والإرهاب التي وجدت في هذه الجمهوريات المأوى والملاذ، وهو وضع قريب إلى حد كبير من مقدمات الحرب الشيشانية الثانية التي شهدت غزو المقاتلين الشيشان لداغستان المجاورة، لإقامة ما كانوا يسمونها بفيدرالية الشعوب الإسلامية في القوقاز، بتأييد ودعم من المتطرفين الإسلاميين وممثلي المنظمات والعناصر الإرهابية الخارجية، ومنها العربية. ولذا يكون من الطبيعي أن يتوقف المرء عند اتهام الرئيس الانغوشي يفكوروف للقوى الخارجية، ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان وقفتا بالأمس القريب عند تدريب وتسليح النظام الجورجي وعمليته العسكرية التي استهدفت غزو أوسيتيا الجنوبية في أغسطس (آب) 2008. ويذكر المراقبون ما قاله يفكوروف حول أن هذه القوى تسعى من أجل الحيلولة دون صحوة روسيا واستعادتها لمواقع الاتحاد السوفياتي السابق. ومن هذا المنظور يمكن استيضاح بوادر مخططات تستهدف زرع بذور الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة تشخص إليها أبصار العالم، وتتركز حولها اهتماماته لما تتمتع به من مركز استراتيجي قريب من مصادر الطاقة ومسارات نقلها من بحر قزوين. وذلك ما تعلن موسكو عن عزمها على وضع الخطط المناسبة لمواجهته واستعادة مقاليد الأمور في منطقة كانت ولا تزال تستقطب اهتمام القوى العالمية التي تواصل مساعيها نحو التوسع شرقا، خصما من رصيد وحسابات روسيا ومصالحها الوطنية في الفضاء السوفياتي السابق. وذلك أيضا ما كان وراء الاجتماع الأخير الذي عقده رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين لنشطاء حزبه الحاكم (الوحدة الروسية) في مدينة كيسلوفودسك مقر الحاكم الإداري لشمال القوقاز (مفوض الرئيس) في مطلع يوليو (تموز) الماضي. في ذلك الاجتماع أعلن بوتين عن استراتيجية جديدة للقضاء على الإرهاب في المنطقة، ودمج المنطقة في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية لروسيا، والقضاء على البطالة، وقال بتوفير أربعمائة ألف فرصة عمل. وأكد بوتين أن الخدمات الاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية هي السبيل الأمثل لاحتواء الموقف، والحيلولة دون تفشي مختلف الظواهر السلبية، يقينا من جانبه بأن المنطقة تتنازعها شتى التيارات، وتبدو فريسة لمطامع القوى الأجنبية التي طالما أعلنت تبنيها لنظرية ملء الفراغ، حسب تعبير زبيغنيو بجيزينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، وصاحب كتاب «لعبة الشطرنج الكبرى»، الذي تناول فيه أهداف الغرب في هذه المنطقة. ولذا كان من الطبيعي أن يعلن بوتين من هذا المنظور رفضه لأي تدخل أجنبي في المنطقة، مؤكدا إعلاء وحدة الدولة الروسية وسلامة أراضيها. وإذ توقف بوتين عند نشاط مجموعات المتطرفين والإرهابيين، حذر من مغبة تحولها إلى أساليب العمل تحت شعارات براقة، وممارستها لأساليب النهب تحت «شعارات سياسية». وأعلن استعداد حكومته لتقديم مختلف التسهيلات المالية وإتاحة شتى الفرص أمام رجال الأعمال الروس والأجانب من أجل استمالتهم للقدوم إلى القوقاز، واستثمار أموالهم في المنطقة، بعيدا عن الشعارات ومحاولات التدخل لتحقيق مآرب ذاتية عن طريق التمويل المشبوه للمنظمات الروسية. وقد اثارت الانفجارات الأخيرة في عدد من جمهوريات المنطقة ولا سيما داغستان التي شهدت أيضا تصفية أبرز رموز الجريمة والإرهاب هناك محمد علي وهابوف، مدبر تفجيرات مترو الأنفاق في موسكو، مشاعر متناقضة، منها ما يتسم بالتفاؤل المشوب بكثير من التحفظات، بسبب عدم التوصل إلى الأمن المنشود، ولا سيما خارج حدود هذه الجمهوريات، وتحديدا في قلب العاصمة موسكو. حقا قالت صحيفة «فريميا نوفوستي» تعليقا على هذه الأوضاع، إن الانفجار السكاني في شمال القوقاز لن يمر دون عواقب بالنسبة لروسيا، وإن ما تبذله موسكو من أجل إيجاد الحلول لمشكلات هذه المنطقة لا يزال يفتقر إلى الآليات المناسبة لتنفيذه.