الفلسطينيون «يبنون» المستوطنات و«يحاربونها»

أعدادهم تفوق الـ35 ألف عامل.. بنوا جميع المستوطنات على مدار أكثر من 23 عاما.. ويفضلون الإذلال على البطالة

عمال فلسطينيون يقومون بأعمال البناء في مستوطنة ابو غنيم (رويترز)
TT

عندما انتهت فترة تجميد البناء الاستيطاني، في 26 من الشهر الماضي، لم يستطع المستوطنون «المنتصرون» استئناف البناء على نطاق واسع، كما هددوا وخططوا وأعلنوا ورقصوا. والسبب أن العمال الفلسطينيين لم يتمكنوا من الوصول إلى تلك المستوطنات بسبب الأعياد اليهودية آنذاك.. وما يتبعها من تشديد للحصار والمتاريس والحواجز.

وليس سرا أن الفلسطينيين بنوا جميع المستوطنات الإسرائيلية بأيديهم، وكانوا يبيعونها أيضا الحجارة والباطون.

وعلى مدار 23 عاما منذ انطلقت الانتفاضة الأولى فشلت كل المحاولات التي جربتها منظمة التحرير، وكانت ممثلة آنذاك بورقة ميدانية على الأرض معروفة باسم «ق.و.م» أي القوة الوطنية الموحدة، في ثني هؤلاء العمال عن العمل في إسرائيل ومستوطناتها، بسبب أنهم (أي العمال) يربطون ذلك مباشرة بلقمة العيش لا بالوضع السياسي.

لكن اليوم يبدو أن الاستمرار في بناء مستوطنات إسرائيلية يشكل تناقضا مذهلا، غير مفهوم ولا يوجد ما يبرره، خصوصا بعدما أوقفت السلطة كل الاتصالات السياسية مع إسرائيل، واشترطت أن يتوقف البناء في المستوطنات من أجل العودة إلى المفاوضات، ولم يبق مسؤول في السلطة إلا أعلن أنه لا مفاوضات مع الاستيطان. وحقيقة الأمر أنه في الوقت الذي راحت فيه القيادة الفلسطينية تضغطـ، ومعها الولايات والمتحدة ودول عربية كبيرة مثل مصر والأردن، ورؤساء ووزراء دول أوروبية صديقة لإسرائيل من أجل وقف البناء في المستوطنات، فإن ثمة طريقا أقصر يعرفه الفلسطينيون لهذا الغرض، وهو أن يتوقفوا هم عن بناء هذه المستوطنات.

وفعلا دعت السلطة الوطنية العمال إلى إيجاد بدائل حتى نهاية العام الحالي، وهي خطوة ثانية اتخذتها، ضمن الحرب التي أعلنتها على المستوطنات في الضفة، وبدأتها بقرار مقاطعة بضائع المستوطنات. لكن هذه الدعوة لم تلق آذانا مصغية كما يجب، إذ يخشى كثير من العمال على مصادر رزقهم، وسط شكوكهم المتعلقة بقدرة السلطة على إيجاد بدائل معقولة.

وعلى الرغم من أنه لا يوجد قانون في السلطة يجرم العمل في المستوطنات، ولم يتخذ قرار بهذا الشأن، فإن السلطة تخطط لإنهاء هذه الظاهرة حتى العام المقبل. ويقدر عدد عمال المستوطنات الفلسطينيين بـ35 ألفا. وتقول السلطة إنها ماضية في حربها ضد المستوطنات، وأكد ذلك وزير الاقتصاد الفلسطيني حسن أبو لبدة لـ«الشرق الأوسط»، قائلا إن الحرب السياسية والاقتصادية على المستوطنات لا رجعة عنها، لكن هذه الحرب التي بدأت بمقاطعة بضائع المستوطنات، وأثرت فعلا في اقتصادها إلى الحد الذي هددت معه إسرائيل باتخاذ إجراءات اقتصادية ضد السلطة، تجد من يعارضها في الفلسطينيين أنفسهم.

وقال حافظ الذي يعمل في مستوطنة «معليه أدوميم» في القدس، لـ«الشرق الأوسط»: «هذا مصدر رزقي الوحيد، لا أستطيع أن أستجيب لطلب السلطة طالما لا توفر لي بديلا مقنعا، لن أحرم ابني من الحليب لأن السلطة تذكرت الآن أنها لا تريد المستوطنات». ولا يجد حافظ حرجا في العمل في المستوطنات، وقال: «نحن نبني في كل مكان في إسرائيل، وليس في المستوطنات فقط، هذا عمل وحسب». ويتقاضى العمال في إسرائيل أجورا مرتفعة إذا ما قورنت مع أجور العمال في الضفة الغربية، وقد يكون هذا أحد أسباب تمسك العمال بالعمل في إسرائيل، وبينما يحصل العامل في مناطق السلطة على ما يقارب 100 شيقل (30 دولارا) يوميا، يتقاضى العامل في إسرائيل ضعف هذا المبلغ وأكثر.

وتقول السلطة إنها بصدد اتخاذ خطوات لتأمين عمل وحياة كريمة لعمال المستوطنات، قبل أن تجبرهم على ترك أعمالهم. وقد دعمت السلطة لهذا الغرض مجموعة من المؤسسات الخاصة لتقديم قروض شخصية لعمال المستوطنات لبدء مشاريع فردية وجماعية، كما افتتحت مشاريع زراعية كثيرة وفرت فرصا مختلفة للأيدي العاملة المتخصصة في هذا المجال.

وقال الناطق باسم الحكومة الفلسطينية، غسان الخطيب، لـ«الشرق الأوسط»: «نعمل على توفير فرص حياة كريمة لعمالنا في المستوطنات، وإقناعهم بترك العمل هناك، وقد نجحنا مع عدد لا بأس به، العمال في المستوطنات في تناقص». وأوضح أن «الحكومة نجحت حتى الآن بأساليب غير جبرية بإقناع أعداد لا بأس بها من عمال المستوطنات بترك أعمالهم، وأمنت لهم أعمالا أخرى قريبة من منازلهم، وفي مجالات تخصصاتهم»، وتابع: «نأمل في أن ننجح بإنهاء مسألة العمل في المستوطنات نهائيا، ومن دون قرارات».

وردا على سؤال حول مخاوف العمال من إجبارهم على ترك أعمالهم من دون تأمين أعمال لهم، قال الخطيب: «الأرقام تشير إلى تحسن كبير في الاقتصاد هنا وتراجع في معدلات البطالة، نحن نريد أن نخلصهم من الذل الذي يعيشون فيه، وندفع لهم أجورا أفضل كذلك».

وعلى الرغم من وعود السلطة هذه، وحديث وزرائها عن مشاريع كبيرة تبنى في بيت لحم وجنين يفترض أن تستوعب أضعاف عدد العاملين في المستوطنات الإسرائيلية، فإن بعض العمال ما زالوا مترددين جدا في ترك أعمالهم.

وقال موسى الذي يعمل في مستوطنة بيتار المقامة على أراضي قرى قريبة من بيت لحم: «المشاريع التي تتحدث عنها السلطة إما مؤقتة أو ما زالت بحاجة إلى وقت، من أين نعيش إذا توقفنا الآن؟». وأبدى كل من موسى وحافظ رغبة في البناء في وطنهم بدل البناء في مستوطنات، وهو ما يعرضهم يوميا لقصص لا تخلو من الإذلال، لكنهم طالبوا السلطة بتوفير عمل مستمر ومتواصل. وتعهد مسؤولو السلطة بعدم اتخاذ خطوات جادة ضد العمال في المستوطنات قبل إيجاد بدائل لهم. وقال الخطيب: «لا يوجد قرار حتى الآن، نحن نعمل في خطين، الأول إيجاد بدائل، والثاني إقناعهم بضرورة ترك العمل في المستوطنات الذي يجلب لهم الإذلال».

ويوميا يصطف عشرات العمال الفلسطينيين في طابور طويل في جنح الظلام ولعدة ساعات يوميا، عند بوابات حديدية في الضفة الغربية تفصلهم عن إسرائيل، في انتظار سماح الجنود الإسرائيليين لهم بالدخول إلى إسرائيل، وتبدأ الرحلة الشاقة لعشرات الآلاف العمال، مع منتصف الليل، إذ يغادرون منازلهم مبكرا، على أمل أن يحصلوا على دور متقدم، ومنهم من يكمل نومه عند الحاجز.

ويصف أبو خلدون، الذي يقف يوميا على حاجز 300 عند بيت لحم بمرارة كبيرة ما يحدث بأنه نوع من الإذلال، ويزيد ساخرا: «والله نقف زي الغنم، يمكن الغنم أحسن منا»، وأضاف: «لكن هذا أفضل من الجلوس في البيت».

ولم تجد منظمة «محسوم ووتش» الإسرائيلية (كلمة محسوم تعني حاجزا بالعبرية)، مصطلحا أفضل من «سوق عصري للعبيد»، وهي تصف المعابر في الضفة عندما يمر منها العمال صباح كل يوم، وعلى الرغم من كل هذا الإذلال، يعتبر هؤلاء العمال الأكثر حظا، أما الأسوأ فإنهم عمال لم يحصلوا على التصاريح، وعليهم التسلل إلى إسرائيل من أجل العمل.

وعلى الرغم من الإجراءات الصارمة التي تتخذها الشرطة الإسرائيلية لمنع دخول عمال فلسطينيين لا يحملون تصاريح، فإن أصحاب العمل الإسرائيليين يساعدونهم أحيانا على الوصول إلى أماكن عملهم تهريبا بطرق مختلفة. ويفضل المشغلون الإسرائيليون العمال من دون تصاريح، لعدة أسباب، أهمها، أنهم يتقاضون أجورا أقل من الآخرين، ويعملون من دون أدنى حقوق أو قانون يحميهم. وطالما تعرض عمال فلسطينيون من دون تصاريح للنصب والاحتيال.

وعمليات التهريب هذه لوحدها قصة أخرى، لكن طالما دفع العمال أثمانا غالية لهذه الظاهرة. وقال محمد، وهو شاب من نابلس لم تمنحه إسرائيل تصريحا، إنه لطالما كاد يختنق وهو يجلس مع عشرات من زملائه في صهاريج يملكها يهود أو بدو، كانت تنقلهم إلى الأراضي الإسرائيلية عبر طرق وعرة من أجل العمل. كان محمد كأنه يقص تماما رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، التي تُرك فيها 3 من العمال يموتون في صهريج.

وبحسب محمد، فإن كل عامل كان يدفع ما قيمته 250 شيقل (70 دولارا) لصاحب الصهريج في المرة الواحدة، وأضاف: «لهذا كنا ننام في ورشات العمل مطاردين من واحدة إلى واحدة خوفا من كبسات (غارات) الشرطة الإسرائيلية».

والآن استخدم محمد ورفاقه طرقا أخرى للوصول إلى إسرائيل، أحد أفضلها هو النوم داخل ثلاجات، ويعرف محمد أنه قد لا يعود في أي يوم، وأنه قد ينتهي به الأمر إلى السجن أو الموت، لكنه يقول: «ما في شغل». وتدل المعطيات الإسرائيلية على وجود 22 ألف عامل فلسطيني يعملون في المستوطنات والمناطق الصناعية التابعة لها في الضفة الغربية بموجب تصاريح عمل، ونصف هذا العدد حسب تقديرات فلسطينية وإسرائيلية يعملون من دون تصاريح. إضافة إلى 26 ألف عامل فلسطيني يعملون داخل إسرائيل بموجب تصاريح عمل.

ومن أجل تخويف المشغلين الإسرائيليين، أقرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون التشريع بداية هذا العام، مشروع القانون الذي تقدم به وزير الأمن الداخلي الإسرائيلية يتسحاق أهرونوفيتش، الذي طالب فيه بتشديد العقوبات المفروضة على الإسرائيليين الذين يساعدون العمال الفلسطينيين على دخول إسرائيل دون تصريح، أو ضد من يشغلهم أو يقدم لهم المأوى. ويفرض القانون على كل من ينقل عاملا فلسطينيا أو يقدم له العمل أو المأوى عقوبة السجن الفعلي التي تتراوح ما بين (3 - 5 سنوات)، إضافة إلى غرامة مالية عالية جدا، كما يخول القانون الجديد لرجال الشرطة حق سحب رخصة القيادة لمن يضبط، بواقعة تهريب عمال فلسطينيين مدة 30 يوما فورا.

ويشير القانون إلى ضرورة تشديد العقوبات، وفرض أقصى ما نص عليه من عقوبات ضد من يتهمون بتهريب العمال الفلسطينيين، ويلجأون لتحقيق هذه الغاية إلى طرق خاصة «ذكية» لتهريب العمال بشكل منظم. وتريد إسرائيل خفض عدد كل العمال الأجانب فيها، إلى (30 - 50 ألفا) حتى بداية عام 2011، وهو ما يعني بالنسبة لوزير المالية الإسرائيلي إيجاد عشرات آلاف الوظائف الشاغرة الجديدة، مما سيؤدي بالضرورة إلى خفض مستويات البطالة، وسيرفع من قيمة الأجور.

ومع كل هذه الإجراءات الإسرائيلية لم تتوقف أبدا ظاهرة العمال من دون تصاريح، والأسبوع الماضي قتلت إسرائيل عاملين من الخليل، أثناء ملاحقة الشرطة لهم وهم يحاولون عبور جبال مؤدية للقدس. وتختصر قصة عز الدين صالح عبد الكريم الكوازبة (37 عاما)، من بلدة سعير شمال الخليل، وهو متزوج وأب لستة أبناء، وقتلته الشرطة الإسرائيلية وهو يحاول العبور إلى القدس، حياة العمال الفلسطينيين.

وقال صلاح عبد ربه كوازبة، وهو ابن عم القتيل، إنه أعدم من مسافة «صفر»، بعد أن وضع جندي سلاحه في جسده، وأفرغ فيه الرصاص. وقال صلاح، الذي شاهد الحادثة، إنه عند الساعة الثانية والنصف فجرا تسلقت مجموعة من العمال، من بينهم عز الدين، الجدار في منطقة الزعيم - الطور، وهو الجدار الفاصل بين الضفة والقدس، قبل أن تبدأ مجموعة من الجنود بملاحقة العمال لعدة ساعات في الوديان والجبال، حتى تمكن جندي من القبض على صلاح، «ووضع بندقيته على جسده، ثم أطلق عليه النار».

وأضاف صلاح: «حين اقتربنا من مكان الحادث، حوصرنا من قبل وحدات خاصة شرعت بضربنا بقسوة وعنف، في وقت شاهدناهم يضعون جثة الشهيد في كيس أسود، ويجرونها لمسافة تزيد عن خمسين مترا، بينما جرى تجميعنا، نحن العمال، وكان عددنا يقارب المائة، وتم إبعادنا إلى بلدة العيزرية».

وكانت الشرطة الإسرائيلية، قالت على لسان لوبا سمري، الناطقة باسم الشرطة الإسرائيلية: «إنه عند نحو الساعة الخامسة من صباح اليوم، رصدت دورية مشتركة من الشرطة وحرس الحدود الإسرائيلي مجموعة من الأشخاص، يقدر عددهم بنحو 15 شخصا، يقفزون من فوق جدار مقابل لبلدة العيسوية بمحاذاة الشارع الرئيسي المؤدي إلى مستوطنة معاليه أدوميم، وقام شرطيان من حرس الحدود بملاحقة مجموعة العمال هؤلاء، واستطاع أحد الجنود الإمساك بأحدهم، ووقع عراك بين الاثنين، حاول خلاله العامل الفلسطيني خطف سلاح الجندي، فانطلقت رصاصة أدت إلى جرح العامل بصورة بالغة، ثم توفي متأثرا بجراحه».

وأثارت هذه القصة الاتحادات والنقابات والوزارات المعنية، وراح الاتحاد العام للعمال يتحدث عن ضرورة وقف مطاردة العمال المتوجهين لجلب لقمة العيش لأبنائهم، وطالبت الأمانة العامة للاتحاد المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للكف عن سياسة قتل العمال بدم بارد، كما ناشدت منظمتي العمل العربية والدولية والاتحاد العالمي للنقابات والاتحاد الدولي للعمال العرب بالعمل، من خلال وجودهم في المحافل الدولية، على الضغط على «الهستدروت» الإسرائيلي الذي يمارس صمته إزاء هذه التصرفات، ويشارك بشكل فعلي في مختلف أشكال معاناة العمال الفلسطينيين.

وبعد يومين توفي عامل آخر بينما كانت الشرطة تلاحقه «بالسكتة القلبية»، وهذا طبعا غير كاف لجعل العمال يتوقفون عن محاولة الهرب إلى إسرائيل. واليوم، وفي كل يوم، ستجد آلافا يحاولون العبور من نقاط مختلفة في الضفة الغربية لإسرائيل من أجل جلب لقمة العيش.

وندد وزير العمل الفلسطيني، أحمد مجدلاني، بقتل العمال الفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، واصفا هذه الحوادث بـ«الإجرامية والخطيرة». وأكد مجدلاني، في بيان، أن هذه الحوادث تأتي في إطار السياسات والممارسات الإسرائيلية التصعيدية للتهرب من الضغط الدولي لوقف وتجميد العمل في المستوطنات، وتكشف الوجه الحقيقي للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. ودعا المجتمع الدولي ومنظمات حقوق العمال والإنسان، ومنظمة العمل الدولية، إلى التدخل السريع لحماية العمال الفلسطينيين ولجم الممارسات الإسرائيلية التصعيدية ضدهم.

وأكدت وزارة العمل، في بيانها، أنها تتابع عن كثب سياسة الملاحقات الإسرائيلية ضد العمال الفلسطينيين، التي أسفرت عن استشهاد عاملين في القدس والخليل عند محاولتهما العبور إلى أماكن عملهم داخل أراضي عام 1948. واستنكرت الوزارة بشدة قتل العمال الفلسطينيين بدم بارد، داعية كل المؤسسات المحلية والدولية والنقابات العمالية ومؤسسات حقوق الإنسان إلى الدفاع عن العمال الفلسطينيين وفضح الممارسات الإسرائيلية أمام المحافل الدولية، وخاصة المحافل التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان والعمال. كما دعت الوزارة منظمة العمل الدولية إلى إصدار قرار يلزم إسرائيل بحماية العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل أراضيها وتعويض أهالي الضحايا وفقا لقانون العمل في الدول.

إذن، مرة أخرى تجبر لقمة العيش العمال على الذهاب إلى حتفهم، وتجد السلطة نفسها في حيرة كبيرة، تطالبهم بالتوقف عن العمل، وتدافع عن حقهم في ذلك. وطبعا لا تشمل مطالبات السلطة مقاطعة البضائع أو التوقف عن العمل في إسرائيل، ولكن فقط المستوطنات. ويشكل العمال الفلسطينيون في «إسرائيل» والمستوطنات 9.9 في المائة، من مجمل سوق العمل في الضفة الغربية، ويتركز عملهم على قطاعات البناء والصناعة والزراعة.

طالب اتحاد أرباب الصناعة الإسرائيلي، وزارة التجارة والصناعة، برصد مبلغ 2000 شيقل لكل عامل إسرائيلي يعمل بدلا من العامل الفلسطيني في المستوطنات. وقال رئيس أرباب الصناعة الإسرائيلي: «إن تكلفة ترك العمال الفلسطينيين أماكن عملهم لإسرائيليين تكلف شهريا 44 مليون شيقل، ولا يستطيع أصحاب المصانع دفع هذه المبالغ من جيوبهم، وهم يبحثون مع وزارة التجارة والصناعة عن إيجاد الحلول».

وجرب أصحاب المصانع عمالا تايلنديين وأفارقة وأجانب، في أوقات مختلفة من الانتفاضة الثانية في محاولة للتخلص من الفلسطينيين، لكنهم ظلوا يفضلون العامل الفلسطيني. وتقول منظمة «بيتسليم» الإسرائيلية، إنه وفقا للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن دولة إسرائيل ملزمة بضمان المعيشة لسكان الأراضي المحتلة الفلسطينية الخاضعة لسيطرتها الفعلية، كما أن عليها أن تضمن لهم حقوقهم في العمل والاستمتاع بمستوى حياة لائق.

ويمكن القول إن العمال الفلسطينيين في إسرائيل ظلوا يشكلون ثلث الأيدي العاملة حتى بداية الانتفاضة الثانية، التي فرضت فيها إسرائيل قيودا صارمة على حرية حركة الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، ومنعت السلطة من الوصول إلى مصادر تمويل حيوية، وهو ما أدى إلى تدهور الاقتصاد الفلسطيني إلى الحضيض، قبل أن ينتعش في العامين الماضيين بفعل خطط حكومية جديدة. وتقول «بيتسيلم» إن الإغلاق المحكم الذي رافقه جدران في الضفة وغزة محروسة بشكل جيد، «قلص بشكل ملحوظ من إمكانية تجاوز (العمال) الإغلاق» بالتزامن مع خفض عدد التصاريح. وحسب «بيتسيلم» فإن عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات تراجع في الربع الأول من سنة 2007 إلى 68 ألف فلسطيني، أي أقل من عشر القوى العاملة الفلسطينية. وظل هذا العدد حتى يومنا هذا في تناقص مستمر.