«ميليباند.. الآخر»

«إد الأحمر».. عاش سنوات حياته السياسية في ظل شقيقه الأكبر والأكثر خبرة مامه الآن تحدي إعادة توحيد حزب العمال البريطاني وإعادته للسلطة

TT

كان كلما دخل اجتماع عمل، يعرّف عن نفسه بـ«ميليباند الآخر». فشقيقه ديفيد الذي يكبره بأربع سنوات، كان الأكثر شهرة. وطوال 40 عاما من حياته، اعتاد إد، الأكثر هدوءا وحياء، أن يعيش خلف ظل أخيه الذي كان يُنظر إليه لسنوات، على أنه الزعيم المقبل لحزب العمال البريطاني.

ولكن في يوم واحد، انقلب كل شيء. أصبح إد، الأصغر سنا والأقل خبرة، زعيم حزب العمال، وزعيم المعارضة. وبسببه، خسر شقيقه فرصة ينتظرها بفارغ الصبر منذ سنوات، بفارق بسيط جدا. وكانت النتائج التي أعلن عنها في مؤتمر حزب العمال الأسبوع الماضي، مفاجأة كبيرة لكثيرين، ليس أقلها لإد نفسه الذي قال: «لم أتوقع أبدا أن أقود هذا الحزب يوما». وشوهدت زوجة ديفيد، لويز، عازفة الكمان المحترفة، تبكي علنا في مؤتمر الحزب الذي عقد في مانشستر، حزنا على خسارة زوجها، وألما من «الطعنة» التي وجهها إد لزوجها.

وعلى الرغم من أن ديفيد فاز بأصوات نواب الحزب والأعضاء المنتمين، فإن إد تمكن في الحقيقية من أن يفوز بأصوات النقابات العمالية القوية التي تعتبر جزءا من الجسم الانتخابي للحزب. فكانت الكلمة الأخيرة للنقابات التي رجحت الكفة لصالح الأخ «الأكثر يسارية». واكتسب إد على الفور لقب «إد الأحمر»، نسبة للحزب الشيوعي، وهو لقب ألصقته به الصحافة اليمينية التي فسرت أنه بسبب طريقة فوزه، فإنه سيكون مدينا للنقابات طوال فترة زعامته.

منذ 4 أشهر، عندما انطلقت معركة الزعامة على حزب العمال بعد استقالة غوردن براون إثر خسارة الحزب في الانتخابات، والإعلام البريطاني مصاب بهوس إد وديفيد. أصغر تحركاتهما، كانت تُرصد وتُفسر وتُحلل. فليس غالبا ما يتصارع شقيقان مقربان كلاهما من الآخر، ويشبه كلاهما الآخر لهذه الدرجة، على المنصب نفسه. والمرة الأخيرة التي دخل فيها شقيقان إلى الحكومة نفسها في بريطانيا، كانت عام 1938 مع الشقيقين إدوارد ستانلي وأوليفر. ومع إعلان النتائج وفوز إد الذي كان حتى قبل يوم، الأقل حظا، بدأت التكهنات حول شكل العلاقة بينهما: هل سيبقيان قريبين بالدرجة نفسها، أم إن الصراع على السلطة سيفرقهما؟

جاءت الإجابة بعد يومين على تتويج ميليباند الأصغر زعيما جديدا، عندما أعلن ديفيد الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة براون، انسحابه من الخطوط الأمامية للحياة السياسية، ورفض المشاركة في حكومة الظل التي سيرأسها إد. قال إنه اتخذ قراره لكي يفسح المجال لأخيه للعمل بحرية، وإعادة توحيد الحزب الذي لا يزال يعاني من آثار الصراع بين زعيميه السابقين توني بلير وغوردن براون. وقال إنه لا يريد أن يعطي الفرصة للصحافة لتفسر أدق إيماءاته، واختلاق قصص حول علاقتهما وتحويل الانتباه عن الأمور الأهم. وقد يكون ساهم بقراره، الإحراج الذي وجد نفسه فيه عندما التقطت الكاميرات صورا له وهو يهمس في أذن هارييت هارمن، التي شغلت منصب رئيس الحزب المؤقت، وهو يسألها بانزعاج واضح لماذا صفقت لإد عندما قال إن الحرب على العراق كانت خطأ، على الرغم من أنها صوتت مع القرار.

وشكل إعلان ديفيد ارتياحا لكثيرين كانوا يتخوفون من عودة الانقسام الذي كان يحكم الحزب أيام بلير - براون، عبر الأخوين المحسوبين أصلا على معسكرين متضادين. وكتب ألكسندر تشانسلور في الـ«غارديان» عندما أعلن ديفيد انسحابه من الصفوف الأمامية: «من النتائج السعيدة لخبر انسحاب ديفيد من الصفوف الأمامية للسياسة، أننا سنعفى بعد الآن من العناقات العلنية والاعترافات بالحب كلاهما للآخر، الذي يحاول من خلاله الأخوان ميليباند إخفاء حدة المنافسة بينهما». وأضاف يفسر أن العناقات العلنية بينهما، طبيعتها غريبة، وأنه في عائلات المافيا، يتصرف شقيقان بهذه الطريقة عندما يريد كلاهما أن يقتل الآخر.

وعلى الرغم من أن الأخوين صورا نفسيهما على أنهما الروح الجديدة في الحزب، فإن كليهما أتى من قلب المعسكرين اللذين حكما حزب العمال «الجديد»، وأقلقاه بصراعاتهما على السلطة، طوال السنوات الـ13 الماضية في الحكم. ديفيد كان في صف بلير، وإد في صف براون. ولكن على الرغم من ولاء الأخوان للزعيمين اللذين احتضناهما، فإن إد كان أكثر استعدادا من أخيه لانتقاد السياسات غير الشعبية لحكومات حزبه السابقة. اعترف مثلا بأن حرب العراق كانت خطأ، وهو ما لم يكن ديفيد على استعداد حتى لمناقشته. وغازل إد النقابات عندما أعلن خلال الحملة التي قادها لرئاسة الحزب دعمه للتحركات العمالية المزمع تنظيمها اعتراضا على سياسات الحكومة الائتلافية الحالية الاقتصادية، بينما رفض ديفيد إعطاء إجابة واضحة. وتمكن إد بذلك من أن يحوز قلوب النقابات العمالية التي رأت فيه مدافعا عن حقوقها.

ومع تنحي ديفيد عن الساحة السياسية، باتت الأضواء مسلطة على الزعيم الشاب الجديد الذي يطمح حزب العمال إلى أن يعيده إلى السلطة في الانتخابات المقبلة بعد نحو 4 سنوات. ويأمل الحزب أن يتمكن من استعادة الأصوات التي خسرها في الانتخابات الأخيرة لصالح الليبراليين الديمقراطيين، شريك حزب المحافظين في الائتلاف الحاكم. وعبر كثيرون من الذين صوتوا لليبراليين الديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة، عن خيبة أملهم لتحالف الحزب الذين لجأوا إليه لأنهم وجدوا فيه الميول اليسارية التي افتقدوها لدى العمال، بعد أن دخل الحكومة حليفا لليمين.

وتقع مسؤولية إعادة جذب الذين هجروا حزب العمال، على عاتق الزعيم الجديد الذي سيتعين عليه أن يحاكي اليسار في بريطانيا، من دون أن يخسر الوسط. وعلى الرغم من أن خبرته لا تزال متواضعة، فإن الرهان على أن يكبر في منصبه خلال السنوات التي تسبق الانتخابات، تعطي آمالا لمؤيدي الحزب. فإد دخل البرلمان عام 2005 عندما انتخب نائبا عن منطقة دونكاستر نورث. ثم بات عضوا في حكومة براون وزيرا للطاقة والبيئة عام 2007، وبقي في منصبه لمدة 3 سنوات. وكان شقيقه ديفيد يخدم في الحكومة نفسها وزيرا للخارجية. ويروي مقربون منهما، أن كليهما كان مقربا جدا من الآخر في تلك الفترة لدرجة أن كليهما كان يستشير الآخر في الخطابات التي يحضران لإلقائها، ويتبادلان الرسائل النصية بشكل مكثف طوال اليوم.

ولد إد في كنف عائلة سياسية بامتياز. والده رالف ميليباند، يعتبر من أكبر المفكرين الماركسيين في عصره وهو بولندي يهودي هرب من النازية في بلجيكا ولجأ إلى بريطانيا. ووالدته ماريون كوزاك، وهي يهودية بولندية، حمتها عائلة كاثوليكية من النازيين. وماريون ناشطة سياسية وتنتمي لمجموعة يهودية تطالب بالعدالة للفلسطينيين. ولكن على عكس زوجها الذي كان منتقدا شرسا لحزب العمال، ويساريا ماركسيا، بقيت ماريون وفية للحزب. وربي إد وديفيد في كنف عائلة حياتها السياسة، وكان والداهما يشجعانهما على المشاركة في النقاشات وإبداء آرائهما. ويروي مقربون من العائلة تأثير الصراع بين ولديهما عليها، ويقولون إنها كانت متوترة جدا خلال هذه الفترة، وإنها تمنت لو أنهما سلكا خطا أكاديميا بدلا من السياسة.

وعلى الرغم من أن إد اكتسب الصيت لأنه أقرب في فكره إلى والده، فإن الواقع أن كليهما ابتعد كثيرا عن فكره، واعتمدا خطا أكثر براغماتية في السياسة. ويقول أحد رفاق رالف الذي توفي عام 1994، لصحيفة الـ«تايمز»: «إد يشبه والده أكثر من ديفيد».

واكتسب إد أيضا خلال سنوات عمله في فريق براون، سمعة الرجل المسالم القادر على التواصل مع فريق بلير، من دون أن يستفزهم. ويروي الصحافي في الـ«أوبزيرفر» آندرو راونزلي في كتابه «نهاية حزب»، كيف كان إد الوحيد القادر على إجراء حوار مع فريق بلير عندما كانت التوترات بين رئيس الوزراء ووزير خزانته تصل ذروتها. ويروي تفاصيل مؤامرات كان يحيكها فريق براون ضد بلير للإطاحة به، واستبدال زعيمهم به. وعلى الرغم من أن إد كان من ضمن هذا الفريق، فإنه لم يكتسب سمعة سيئة؛ بل العكس. ولكن يتخوف البعض من أن يكون خلف هذا الوجه المسالم والهادئ، وجها أكثر سوداوية.

ويقول براين ويلر، المحلل السياسي في «بي بي سي»: «على الرغم من أن مؤيديه دائما يتحدثون عن أنه يملك شخصية محببة أكثر بين الشقيقين، وأنه معتاد على العمل مع الناخبين العاديين، فإن البعض يعتقد أن طبعه الهادئ في الشكل يخفي وراءه غريزة قاتلة». ويضيف: «البعض يشعر بالقلق من واقع أنه تتلمذ في فنون الظلمة والتصريحات السلبية خلال سنوات عمله في وزارة الخزانة. ولكن هو يصر على أن الأمر الأساسي الذي تعلمه من غوردن براون، هو القوة».

واكتشف براون إد عندما كان الأخير يعمل في مكتب نائب رئيس الحزب هارييت هارمن. وكان إد قد تخرج قبل سنوات قليلة من جامعة أكسفورد في علوم السياسة والاقتصاد، وهي الشهادة نفسها التي حصل عليها أخوه ومن الجامعة نفسها. وبعد أن عمل لفترة قصيرة كمراسل تلفزيوني، حصل على وظيفة كباحث وكاتب خطابات لهارمن. ولكن براون تنبه إلى موهبته «وانتزعه» من هارييت، كما قال لاحقا تشارلي ويلين، أحد مستشاري براون.

وبقي إد وفيا لبراون حتى عندما حاول شقيقه ديفيد أن يفرض تحديا على زعامة الحزب عامي 2008 و200، وقيل حينها إن إد ألعب دورا في إقناع شقيقه الذي كان مدعوما من الأوفياء لبلير، بأن يتراجع عن خططه. ولكن ديفيد كان مترددا كثيرا حينها، ولم يكن واثقا من أنه سيفوز بالزعامة إذا فرض التحدي على براون، على الرغم من ضعفه، ولم يعلن أبدا نواياه التي بقيت مجرد تكهنات.

ويعترف إد بأنه لم يكن قط من الطلاب الأكثر شعبية في المدارس أو الجامعة. لكنه يقول أيضا إنه كان مهتما بالعمل الحزبي أكثر من العمل الأكاديمي. ويتحدث، كشقيقه، عن كيف تأثر فكره بنقض العدالة، وكيف كان الطلاب القادمون من مجتمعات أقل فقرا عاجزين عن تحقيق طموحاتهم بسبب أوضاعهم الاجتماعية.

وعلى الرغم من أنه يهودي، فإن إد اعترف مؤخرا بأنه لا يؤمن بالله، ولكن أكد أنه يحترم أولئك الذين يؤمنون.

ومقارنة بسابقيه، بلير وبراون، فإن إد ميليباند يشكل النقيض تماما. فبلير اعترف بعد خروجه من السلطة، أن علاقته بالله هي جزء مهم جدا في حياته، وتؤثر على قراراته السياسية. وقال إنه لم يتحدث في الأمر عندما كان رئيسا للوزراء، لأنه لم يشأ أن يظن الناس أنه مخبول، في بلد علماني بامتياز. وبعد خروجه من السلطة، تحول بلير عن البروتستانتية إلى الكاثوليكية، ديانة زوجته شيري. أما براون، فهو أيضا كان يحرص على المشاركة في القداس الإلهي كل يوم أحد. ولم يكن براون، وهو ابن قس أسكوتلندي، يتردد في الحديث عن إيمانه في العلن.

وعلى الرغم من أن بريطانيا بلد علماني، لا يهتم شعبه بالدين كثيرا، فإنه نادرا ما خرج زعيم ليعلن على الملأ أنه لا يؤمن بالله. وقبل إد، اعترف زعيم الليبراليين الديمقراطيين نيك كليغ، وهو اليوم نائب رئيس الوزراء، بأنه لا يؤمن بالله. ولكن زوجته الإسبانية، وولديه، كاثوليك مؤمنون.

وإضافة إلى آرائه في الدين، فإن إد يعيش أيضا مع صديقته التي أنجب منها ولدا، وهي حامل في الولد الثاني، من دون زواج. وقد اعترف بعد فوزه بالزعامة، بأن ذلك قد يشكل عائقا أمامه، وأنه سيكون عليه أن يتزوج في حال أراد أن يصبح رئيسا للوزراء.

قد يعتقد البعض داخل حزب العمال، خاصة أولئك المقربين من بلير، أن الحزب اختار الشقيق الخطأ، وأن ديفيد سيمنح حزب العمال فرصا أكبر للعودة إلى السلطة بسبب قدرته على جذب ناخبين من خارج القاعدة الرئيسية العمالية. إلا أن آخرين يراهنون على أن إد سيكبر في منصبه، ولديه الموهبة اللازمة وسيقود الحزب إلى «10 داونينغ ستريت» من جديد. ويقول عنه أحد المراسلين السياسيين: «إد شخص ودود للغاية، وهو الأخ الأصغر الذي كان عليه أن يعمل بجهد أكبر اجتماعيا لكي يصل، ويلعب دور وسيط السلام. وهو يمتلك مزيجا من العقل والموهبة السياسية والفتنة في شخصيته».

ما إذا كان سينجح إد في مهمته، غير واضح بعد، والطريق أمامه طويل قبل الانتخابات المقبلة. ولكن حتى ذلك الحين، من الواضح أنه خرج من ظل أخيه الذي يكبره بأربع سنوات، بعد 40 عاما، وقد يجد ديفيد نفسه في موقف جديد قريبا، حيث سيكون عليه أن يعرف نفسه بـ«ميليباند الآخر».