ألمانيا: معاناة الفرقة.. في عيد الوحدة

جدل حول دمج 4 ملايين مسلم.. ميركل تتحدث عن دمج الإسلام.. والرئيس عن دمج المسلمين.. وآخرون عن «إسلام ألماني»

ألمان.. يتظاهرون خلال الاحتفال بعيد الوحدة في برلين (أ.ف.ب)
TT

احتفلت ألمانيا هذا العام بعيد «الوحدة» الذي يصادف مرور 20 عاما على إعادة توحيد شطري البلاد (ألمانيا الشرقية والغربية 1990).. ولكن مجتمعها لا يزال يعاني فروقا. ويشتد الجدل منذ أسابيع بشأن دمج المهاجرين والأجانب، خاصة المسلمين منهم، وهي قضية تستحوذ على الاهتمام الجماهيري. فالرئيس كريستيان فولف، استغل فرصة أعياد الوحدة، للتطرق إلى هذا الجدل المستمر، وقال في خطابه يوم الأحد الماضي، إنه يوجد مكان للإسلام في ألمانيا. وقال للحاضرين في مدينة بريمن بشمال ألمانيا: «أولا وقبل كل شيء يجب أن نتبنى موقفا واضحا، وهو فهم أن الانتماء بالنسبة لألمانيا لا يقتصر على جواز السفر أو تاريخ العائلة أو الديانة». وأضاف: «لا شك في أن المسيحية جزء من ألمانيا. اليهودية جزء من ألمانيا. هذا هو تاريخنا اليهودي المسيحي. لكن الآن الإسلام أيضا جزء من ألمانيا».

لكن القضية تبدو أكثر تعقيدا وعمقا، حتى على مستوى قمة السلطة نفسها، فقد نأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بنفسها من موقف رئيس الجمهورية، وقالت إن «ألمانيا مطبوعة بقيمها المسيحية واليهودية»، وأضافت: «هذا ما يطبع تاريخنا. وخلال هذا الوقت لدينا بالطبع مسلمون في ألمانيا». وتابعت: «في بلادنا يعلو القانون الأساسي (الدستور) وليس الشريعة»، مع إبداء تأييدها لإعداد أئمة في ألمانيا كما بدأ يحدث حاليا.

وأثارت تصريحات الرئيس أيضا حفيظة بعض المحازبين المنتمين إلى «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» الذي ينتمي إليه فولف وميركل. وأفاد استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة «فايننشيال تايمز دويتشلاند» أن أكثرية الألمان (55%) يعتبرون المهاجرين المسلمين عبئا على ألمانيا. وأوضح الاستطلاع الذي أعده معهد «ألنباخ» أن 55% من المستطلعة آراؤهم يعتبرون أن المسلمين «قد كلفوا ألمانيا ماليا واجتماعيا أكثر مما أنتجوا اقتصاديا». وفقط، خمس المستطلعة آراؤهم كان رأيهم إيجابيا بشأن المهاجرين المسلمين.

وفي كتاب صدر أواخر أغسطس (آب)، انتقد المسؤول السابق في البنك المركزي الألماني ثيو زاراسين، المهاجرين المسلمين لأن البلاد تواجه صعوبات بسبب مستواهم التعليمي الضعيف وتقاعسهم عن الاندماج في المجتمع. وقد اضطر إلى الاستقالة بسبب هذه الآراء. ولاقت هذه الآراء اللاذعة التي انتقدها عدد من المسؤولين السياسيين صدى لدى المواطنين. ويعيش في ألمانيا نحو 3.2 مليون مسلم يشكلون نحو 4 في المائة من عدد السكان، كما تفيد إحصاءات الحكومة. لكن إحصاءات أخرى تشير إلى أن عددهم يزيد على 4 ملايين مسلم.

* أصل القصة

* منذ نحو 15 سنة، خاصة بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تحولت كلمة «الاندماج» إلى كلمة سحرية تستدر التضامن المادي والمعنوي من الدولة الألمانية. فالمستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر، ومن بعده خليفته «المسيحية» أنجيلا ميركل، أثارا انتباه المجتمع الألماني إلى هذه القضية المهمة، وإن بشكل متأخر، خاصة بعد أن اتضح أن «العمال الضيوف»، الذين أتوا في الستينات من تركيا، لم يعودوا إلى بلادهم بعد انتهاء عملهم، وفضلوا البقاء في ألمانيا، ونيل الجنسية الألمانية، و«تنسيل» ثلاثة أجيال جديدة من الشباب.

وعلى هذا الأساس، وتحت مظلة «الاندماج» أقيمت الجمعيات الثقافية المشتركة بين الأجانب والألمان، وأسست النوادي الرياضية المشتركة، مثل نوادي «الاندماج للكاراتيه»، واستُحدثت مجلات جديدة مهمتها تشجيع التبادل الثقافي بين مكونات المجتمع، بل إننا في كولون شهدنا ولادة «بساتين الاندماج» التي يزرع فيها النعناع التركي إلى جانب البازيليكوم الإيطالي والفطر الصيني. علما بأن كرديا من تركيا (يقال إنه عضو في حزب العمال الكردستاني)، انضم إلى أحد هذه البساتين، أقام دعوى قضائية ضد ألمانيتين من زميلاته بتهمة العداء للأجانب وهدد بضم البستان إلى «كردستان». وقد حضرت «الشرق الأوسط» جانبا من الجلسات الخاصة بالقضية. علما بأن هذه «المنظمات» تتلقى التشجيع والدعم المادي السخي من الحكومات المحلية في الولايات والمدن الألمانية.

ولكن إلى أين وصلت مسيرة «الاندماج» بعد كل هذه السنين، وبعد كل هذه المبالغ الطائلة التي أنفقت على برامجه؟ اعترف وزير الداخلية الاتحادي توماس ديميزيير في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي في مؤتمر صحافي بأنه «لا يستطيع الحديث عن نتائج إيجابية.. لأن ألمانيا نامت طوال عقدين عن ملف دمج الأجانب في المجتمع الألماني». هذا ما يكشفه أيضا فشل «الكونفرنس الإسلامي الألماني» الذي دشنت أنجيلا ميركل جلساته قبل سنوات ويعقد اجتماعاته كل ستة أشهر؛ إذ انسحبت أكبر تنظيمات الجالية المسلمة من الجلسات، وثارت الخلافات بين المنظمات الإسلامية نفسها، وتعددت وجهات النظر والخلافات حول مشاريع تعليم الدين الإسلامي في المدارس، وقضايا الحجاب في المدارس وغيرها من الموضوعات العقائدية.

وصف الوزير ديميزيير برنامج الاندماج الجديد الذي طرحه، في أكثر من 200 صفحة، في 9 سبتمبر بأنه توحيد لبرامج الدمج في الولايات، وما أضافه البرنامج هو أنه يهدد بعقوبات أوسع للمستعصين على الاندماج الذين يرفضون دخول دورات الاندماج ويتملصون من إرسال أبنائهم إلى المدارس الألمانية. وكانت أهم مقترحات تفعيل عملية الاندماج هي تعزيز دور اتحادات الأجانب العاملة ضمن مجالس المدن والولايات، وتعزيز دور الآباء في المدارس ومجالسها، ورفع نسبة المعلمين من أصول أجنبية في المدارس، لأن نسبتهم الحالية لا تعادل سوى 1.2%.

* التلويح بالعقوبات لرافضي الاندماج

* آندرياس فالنر، المتحدث الصحافي باسم وزارة الداخلية الألمانية، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الرافضين للاندماج في المجتمع لا تتعدى نسبتهم 10 -15% ومعظمهم من المسلمين الأتراك. ولكن هل تنفع العقوبات في دمج الأجانب في المجتمع؟ قال فالنر إن المقصود بالعقوبات ليس جيل الأتراك الأول الذين تحولوا الآن إلى متقاعدين، وإنما الرافضون للاندماج من فئة أعمار 18 -25 سنة، أي الذين ولدوا في ألمانيا، ومع هؤلاء قد تنفع العقوبات. كمثل، رفض في العام الماضي 30% من الأجانب المشمولين الدخول في دورات الاندماج هذه، ولهذا سيعرض متلقي المساعدات الاجتماعية نفسه مستقبلا لشطب 60% من المساعدات في حالة رفضه دخول هذه الدورات أو قطعها من دون مبرر. ومن الفئات المستعصية على الاندماج من وجهة نظر وزارة الداخلية، يقول المسؤول الألماني، إن إحصاءات الوزارة تكشف عن أن الأجانب الوافدين من البلقان واليونان وأوروبا الشرقية هم في مقدمة المشاركين في دورات الاندماج، وفي مقدمة الحائزين على الجنسية الألمانية، يليهم العراقيون والإيرانيون (المغاربة في المرتبة العاشرة)، ويأتي الأتراك في ذيل القائمة على الرغم من أن عددهم أكثر من مليونين في ألمانيا.

أعلن معهد الأبحاث الاقتصادية الألماني، في اليوم نفسه لإعلان البرنامج الجديد، أن ألمانيا بحاجة إلى 600 ألف وافد جديد من الخارج كل سنة كي تنهض باقتصادها، فما رأي وزارة الداخلية؟ الوزارة ترى أن برنامج الهجرة الذي يحفز هجرة الكفاءات يفي بالغرض ولا يحتاج المرء إلى برامج جديدة هنا.

هناك إجماع بين أحزاب الحكومة والمعارضة على ممارسة سياسة الجزرة والعصا مع رافضي عملية الاندماج من الأجانب. وتحدثت ميركل، في مؤتمر الحزب الديمقراطي المسيحي في ولاية رينانيا البلاتينية، قبل أسبوع، عن «دعم ومطالب» وقالت إن على الأجنبي الذي يبحث عن الدعم أن يستجيب لمطالب الاندماج. وأدارت ميركل كفة الحديث عن الأحياء التي يسود فيها الأجانب ببرلين وكولون ودويسبورغ، فقالت إن على من يريد البقاء في ألمانيا أن يتعلم كيف يعبر عن نفسه لغويا، وهددت بأن الدولة ستستخدم «أقصى العنف» لحماية الديمقراطية حيثما يشعر رجال الشرطة أنهم غير مرغوب فيهم (تقصد أبناء هذه الأحياء).

* دمج الأجانب أم دمج المسلمين؟

* تحول الحديث في السنوات الأخيرة من «دمج الأجانب» إلى «دمج المسلمين». ميركل تحدثت عن دمج الإسلام، ريناته كوناست (رئيسة كتلة حزب الخضر البرلمانية) تحدثت عن «تجنيس الإسلام»، كذلك الكاتبة التركية الأصل رينان ديمركان. وقال وزير الداخلية السابق، وزير المالية حاليا، فولفغانغ شويبله إن ألمانيا بحاجة إلى «إسلام ألماني». هل تكمن مشكلة الاندماج في «الإسلام»؟ البروفيسور كلاوس ج. باده، رئيس المعهد الألماني للهجرة، أجاب عن استفسارات «الشرق الأوسط» هاتفيا؛ قال إن هذا التعميم لا يصح إطلاقه، العراقيون والإيرانيون مسلمون لكنهم الأفضل في عملية الاندماج الجارية في ألمانيا من غير المسلمين، ثم إن الإيطاليين مسيحيون، لكنهم أسوأ في الاستعداد للاندماج في المجتمع الألماني من الأتراك. وقال إن قصر عملية الاندماج على المسلمين هو «شرخ في الواقع» ولا يتطابق مع الحقيقة.

وشكك باده في مبدأ العقوبات لرافضي الاندماج، مشيرا إلى أن الاندماج نفسه لا يسن بقانون أو يحدد ببرنامج. العقوبات حسب رأيه، من وجهة نظر قانونية، هي إجراءات رادعة ضد خرق القوانين، وليس ضد توجه اجتماعي أو قومي ما. وأشار إلى أن تعلم اللغة والتأهيل المهني لا يكفيان، لأن المجتمع يفتقد لعقلية تقبل الآخر، واستشهد بكلمة لكاي شتيفان، وزير داخلية ولاية هيسن، الذي طالب بعقلية «ترحيب» بالآخرين. وهناك 4 ملايين أمي في ألمانيا معظمهم من الألمان.

واستشهد باده بدراسة نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة، وأثارت جدلا واسعا بين الألمان بسبب تصنيفها ألمانيا في ذيل قائمة البلدان التي تقدم أفضل رعاية لأطفال المهاجرين في المدارس. تخلص الدراسة إلى أن اللغة لا تلعب الدور الأساسي في تدني مستويات التلاميذ الأجانب، خاصة الذين يصلون إلى ألمانيا في عمر يزيد على 6 سنوات؛ إذ قدرت الدراسة أن 25% من أبناء المهاجرين من الجيل الأول من الأتراك من عمر 15 سنة (الجيل الأول لا يتقن اللغة الألمانية حتى الآن)، لا يعرفون القواعد الأساسية للرياضيات، في حين ترتفع هذه النسبة إلى 40% بين أبناء المهاجرين من الجيل الثاني (الذين ولدوا في ألمانيا وصارت الألمانية لغتهم الأم). وعموما، فإن الفرق بين مستوى التلاميذ الألمان والتلاميذ من أبناء المهاجرين (خاصة أبناء الأتراك) يبلغ في الرياضيات نحو 3 سنوات دراسية، في حين أن هذا الفرق غير ملحوظ في كندا ونيوزيلندا وأستراليا. المهم هو أن الدراسة اتهمت ألمانيا بالعجز عن دمج أولاد المهاجرين في مجتمعها.

اللجنة التابعة للكونفرنس الإسلامي الألماني توصلت إلى إحصائية مفادها أن عدد المسلمين في ألمانيا يزيد على 4 ملايين، وهذا يصحح إحصاءات وزارة الداخلية التي تشير إلى 3.2 مليون نسمة. لكن الدراسة التي أجرتها المنظمة، ونشرت على صفحة «إسلام. دي»، التابعة للمجس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، تعترف بأن «أبناء الأتراك هم الأسوأ من ناحية تعلم اللغة والدراسة والتأهيل المهني، لا مقارنة ببقية الأمم الأوروبية، أو الأوروبية الإسلامية منها، مثل البوسنة، وإنما أيضا بالمقارنة مع أبناء المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط وآسيا».

ويعيش في ألمانيا نحو 8 ملايين أجنبي، منهم 2.3 مليون تركي يشكلون الجزء الأعظم من الجالية المسلمة في البلد. ويزور المدارس الألمانية حاليا أطفال الجيل الثالث من الجالية التركية التي وصلت إلى ألمانيا في أواخر الستينات إبان الحاجة لقوى العمل في الاقتصاد الألماني الناهض من الحرب العالمية الثانية. وغالبا ما يجري تعيين أئمة المساجد مباشرة من تركيا، بإشراف وزارة الداخلية التركية، وحسب اتفاقات ثنائية بين الحكومة التركية وحكومات الولايات الألمانية. وعادة، لا يجيد هؤلاء الأئمة غير اللغة التركية على الرغم من قدرتهم على قراءة القرآن باللغة العربية.

يذكر أن الجدل الذي أثير في ألمانيا مؤخرا، وشاركت فيه المستشارة ميركل بقوة أيضا، جاء بعد قراءات للاقتصادي والكاتب ثيو زاراسين في كتابه المعنون «ألمانيا تدمر نفسها». علما أن زاراسين حاليا هو عضو المجلس الإداري للبنك المركزي الألماني، وزير الاقتصاد السابق في ولاية برلين، وعضو في الحزب الديمقراطي الاشتراكي. ووجه زاراسين في كتاباته اتهامات عنصرية ضد المسلمين واليهود، وقال في إحدى الندوات، إن ألمانيا تصبح أغبى كلما زاد عدد الأجانب فيها. وإذ انقسم السياسيون الألمان بين «متفهم» ورافض، أجرى معهد «أمنيد» لاستطلاعات الرأي استطلاعا جاء فيه أن نصف الألمان يؤيدون زاراسين في طروحاته. وخلصت مجلة «دير شبيغل»، من استطلاع للرأي بين قرائها، إلى أن نسبة «متفهمي» زاراسين تزيد على الـ70%. وقد اعترف الوزير ديميزيير بأن برنامج الحكومة الاندماجي يأتي كرد فعل على «الضجة» إلى أثارها زاراسين ضد الأجانب.