بين برودة الإنجليز وثورية الفرنسيين

الصورة النمطية غير كافية لتفسير رد الفعل المختلف للشعبين

TT

الإنجليز معروفون بطباعهم الباردة. والفرنسيون بطباعهم الثورية. إذا أردنا أن نبني على هاتين الصورتين النمطيتين، سيكون من السهل تفسير رد الفعل المتناقض للفرنسيين والبريطانيين، على خطط حكومتيهما التقشفية.

فعلى الضفاف الجنوبية للمانش - إذا كنت فرنسيا والقناة الانجليزية إذا كنت بريطانيا - كانت الإضرابات والمظاهرات وأعمال الشغب تشل البلاد بسبب اقتراح الحكومة رفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاما. وعلى الضفاف الشمالية للقناة الانجليزية، كان البريطانيون يتلقون أنباء أقسى خطط تقشفية ستعتمدها حكومتهم منذ عقود، من بينها رفع سن دفع معاشات التقاعد الحكومية من 62 إلى 66 عاما، بكل برودة وهدوء.

من كان يشاهد وزير الخزانة البريطاني جورج اوزبورن وهو يعلن خطط حكومته الجديدة، خصوصا أن تلك الخطط ستؤدي بنحو نصف مليون بريطاني من موظفي القطاع العام إلى خسارة وظائفهم، توقع أن يخرج البريطانيون في مظاهرات عنيفة شبيهة بتلك التي تشهدها جارتها على الضفة الجنوبية للمانش. ولكن لم يحصل شيء. حافظ البريطانيون على برودتهم، وبدا وكأنهم تقبلوا إعلان يوم «الخميس الاسود»، كما سماه البعض، برحابة صدر.

وعندما سئل أحد المسؤولين البريطانيين إذا كان يتوقع أن يثور شعبه أسوة بالفرنسيين كرد فعل على تلك الخطط، رد بكل ثقة: «لا، لأن البريطانيين يدركون أن لا خيار آخر أمامنا، وأن هذه الخطط هي ضرورية للحفاظ على النمو الاقتصادي». وبالفعل، فقد بينت استطلاعات الرأي التي أجريت في الأيام التي تلت، أن معظم البريطانيين يوافقون على ضرورة اعتماد سياسة تقشف، ولكن ليسوا متأكدين من السرعة ولا الدرجة التي تتبعها حكومتهم.

فهل فعلا أسباب اختلاف رد فعل الجارين، تعود للكليشيهات التي تعودنا عليها؟

لا شك أن «ثقافة الثورة» تعشعش في عقول الفرنسيين منذ أيام الثورة الفرنسية في العام 1789، ويعتقد الكثيرون أنها ما زالت تحركهم حتى اليوم. فهناك نوع من التكبر يشعر به الفرنسيون حتى اليوم، ويفخرون به أمام مواطنيهم الأوروبيين.

ولكن كريس وورن، أستاذ محاضر في التاريخ الفرنسي في جامعة ساسكس البريطانية، يعتقد أن هذا التفسير خاطئ، وأن أسباب ردود أفعالهم وتكاتفهم، تعود إلى تاريخ أقرب بكثير من القرن الثامن عشر. ويتحدث وورن عن شعور «بحس الجماعة» لدى الفرنسيين غائب تقريبا لدى البريطانيين.

ويعطي مثلا على ذلك، الإزعاج الكبير الذي تسببت فيه الإضرابات الأخيرة وحصار الوقود لآلاف الفرنسيين، والذي أدى إلى تعطيل الحركة العامة، ولكن مع ذلك، كان هناك نوع من القبول العام لهذه الإضرابات. ويقول: «هناك قدرة لدى الجماعات الفرنسية على اتخاذ تحركات داخل المجتمع تتسبب بإزعاج لفئات أخرى، ولكن يتم قبولها لأنهم يعتقدون أنه في النهاية ستستفيد فئات أكبر من هذه التحركات، وسيكون لها منفعة عامة على صعيد المجتمع».

ويشرح وورن أن هذا الحس الجماعي يعود إلى الستينات، وخصوصا إلى ثورة الطلاب في عام 1968 التي شهدت تكاتف الطلاب مع العمال وأطاحت بحكومة شارل ديغول. ويقول وورن إن هذا الاتحاد بين الطلاب والعمال هو ما يخيف الحكومات الفرنسية: «إذا حاولت الحكومة تمرير مشروع غير شعبي، يبدأ العمال إضرابات، أو الطلاب، ويشجع ذلك فئات أخرى على الانضمام، ولأن الحكومة خائفة من هذا التحالف، تتراجع عموما عن قراراتها».

وهذا ما يفسر سبب تظاهر من هم في عمر الشباب في فرنسا على خطط الحكومة رفع سن التقاعد، رغم أن هذا القانون لا يطالهم مباشرة، بل يطال من هم في سن أقرب للتقاعد. وهنا يكمن التباين الكبير بين الفرنسيين والبريطانيين. ويقول وورن: «بريطانيا تعتبر أن تحركات الجماعات محصورة فقط بالجماعة التي تتظاهر، بينما الجماعات الأخرى لا ترى إلا النقاط السلبية، ولكن في فرنسا الجماعات كلها ترى منافع من تحرك جماعة واحدة». ويضيف: «مثلا الطلاب في فرنسا يؤيدون التقاعد المبكر لأن ذلك يعني أن الموظفين في الستين يتقاعدون مبكرا، وهذا يعني وظائف أكثر للشبان. ولكن هذه العلاقة في بريطانيا غائبة. والموقف العام لماذا علي أن اهتم أو أتعاطف معك؟» ولكن إذا كان «حس الجماعة» لدى الفرنسيين يأتي من ثورة الطلاب في الستينات، فمن أين يأتي غياب هذا الحس لدى البريطانيين؟ قد يكون من الصعب تحديد ذلك بشكل دقيق، إلا أنه من المنصف القول أن مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، تركت أثرا، وأحيانا كدمات، على البريطانيين، تقريبا في كل المرافق.

يقول وورن: «كبر في بريطانيا حس الفردية في العقود الأخيرة، وأعتقد أن هذا يعود في الحقيقة إلى عهد ثاتشر في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات». ويعتبر وورن أن ما أعلنته الحكومة في خططتها التقشفية الأخيرة، يعتبر أفضل مثال على ذلك. فالطريقة التي سوقت لها الحكومة الائتلافية التي يرأسها زعيم المحافظين دايفيد كاميرون اعتمدت على حس الفردية للتسويق لخطتها حول وقف دفع مساعدات مالية للعائلات مع أولاد. ويقول وورن: «علاقة البريطانيين بالتقديمات الاجتماعية باتت ماذا سنحصل نحن شخصيا من ذلك، مقابل ما ندفعه؟ بينما في فرنسا، وباقي أوروبا، فإن الثقافة السائدة هي عقد اجتماعي: كلنا ندفع (ضرائب) ومن هو بحاجة يستفيد».

وجاء حزب العمال الجديد برئاسة توني بلير، بعد ثاتشر، لكي يرسخ فكرة الفردية التي بدأتها «المرأة الحديدية»، وطبعها نوعا ما. ويقول وورن إنه في بريطانيا «هناك شك من الجماعات وخوف من أن الجماعة ستفرض أمورا على الفرد، بينما هذا الشعور غائب في فرنسا. وإن كان هناك خوف من الاستبداد في فرنسا، فهو خوف من استبداد الحكومة وليس الجماعة».

ولم يكن الترويج لحس الفردية، هو السياسة الوحيدة التي اعتمدتها ثاتشر والتي غيّرت وجه بريطانيا. فهناك سياسة تدمير النقابات التي أيضا اعتمدتها لكي تنهي عقودا من تحكم النقابات بالبلاد من خلال الإضرابات المتكررة التي كانت تنظمها، والتي كانت غالبا من تشل البلاد وتؤدي إلى خسارة اقتصادية كبيرة. ومن جملة الخطط التي اعتمدتها ثاتشر لتقوية الاقتصاد، سياسة خصخصة كبيرة، أدت إلى اختفاء جزء كبير من الصناعات البريطانية، لعل أكثرها تأثيرا إغلاق مناجم الفحم بعد إضرابات عمال المناجم، وخسارة عشرات الآلاف الوظائف في القطاع العام.

يقول البروفسور جون ويب، أستاذ العلوم السياسية من جامعة ساسكس: «عادة القطاع العام هو الذي يكون منظما نقابيا أكثر من القطاع الخاص. وعندما ضاعت الكثير من الوظائف العامة في الثمانينات، نتج عن ذلك قوة عمل قوية في القطاع الخاص في التسعينات، أقل تنظيما وارتباطا بالنقابات». وهناك أيضا التعديلات التي أدخلتها ثاتشر على قوانين تنظيم التحركات النقابية، والتي جعلت بموجبها تحركات النقابات أصعب من دون التعرض لملاحقات قضائية. ويقول ويب: «يمكن أن تحصل الإضرابات ولكن هناك قواعد صارمة جدا، ويجب أيضا أن تخضع القرارات لتصويت مسبق داخل النقابة وما إلى ذلك. في السبعينات، كان يمكن لقادة النقابات أن يقولوا نحن سنبدأ بتنظيم إضرابات، وهكذا كان، بهذه البساطة».

ولكن بريطانيا التي تمتعت بعقدين من الهدوء النقابي عموما، قد تعود وتشتعل عندما تبدأ نتائج الخطط التقشفية بالظهور على الأرض، وقد تدفع النقابات إلى التحرك جديا. يقول ويب تعليقا على احتمال حصول ذلك: «هذا سيناريو محتمل، فقد نشهد في غضون سنتين أو ثلاث، تحركات نقابية واسعة في حال عاد الاقتصاد إلى الركود بسبب سياسات الحكومة التقشفية، وفي حال لم ينجح القطاع العام في تحقيق آمال الحكومة بالتوسع والتعويض عن خسارة الوظائف في القطاع العام». ويضيف ويب أن القطاع الخاص قد يتأثر أيضا بخطط الحكومة بعد أن يبدأ في خسارة عقود مع القطاع العام.

ورغم أن الكثيرين تعجبوا من رد فعل البريطانيين، أو عدم رد الفعل، فإن صحافية فرنسية كانت تغطي إعلان اوزبورن، قالت ما يدل على سبب تفهم الفرنسيين لرد فعل جيرانهم. فوسط نقاش حول أسباب عدم استياء البريطانيين من رفع سن دفع معاشات تقاعدية إلى سن الـ66، قالت: «عذرا ولكن نحن لدينا أسباب قوية للتظاهر، فالمعاش التقاعدي الذي تدفعه الدولة الفرنسية لمواطنيها كريم للغاية، بينما هنا لا يعتبر شيئا». ولكن قد يكون للبريطانيين ما يتظاهرون ضده في السنوات القليلة المقبلة، ربما عندما يصلون بعد عدة أشهر إلى استنتاج أن استراتيجية حكومتهم غير ضرورية، وأن تخفيض الإنفاق العام كان سريعا وقاسيا أكثر من الحاجة.