الصراع الكردي - التركي.. تعليق القتال وتجدد الآمال

الأنظار متجهة إلى مرجعية مسعود بارزاني بإعادة إطلاق مفاوضات السلام

مقاتلون من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل (أ.ف.ب)
TT

أثار قرار حزب العمال الكردستاني، غير المعتاد، تمديد وقف إطلاق النار من جانب واحد لأجل طويل ينتهي بعد ثمانية أشهر، وتحديدا إلى حين انتهاء إجراء الانتخابات التشريعية في تركيا، كثيرا من التساؤلات حول الأسباب التي دعت إلى هذا التمديد الطويل. فقيادة الكردستاني التي تقدمت منذ بداية تسعينات القرن الماضي بسبع مبادرات من جانب واحد لوقف القتال، لم تتلق أي استجابة لغاية الآن من أي من الحكومات التركية المتعاقبة لتحويل تلك المبادرات إلى اتفاق ثنائي لوقف القتال الشامل بين الدولة والمقاتلين الأكراد، تمهيدا للشروع في المفاوضات السياسية لحل الصراع الكردي - التركي.

وقبل فترة وجيزة من انتهاء الهدنة الأخيرة بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، تعالت أصوات قادة الحزب بالتبرم من مواقف الحكومة التركية الرافضة لأي وقف للقتال من جانبها. وقد صرحت قيادات الحزب بشكل واضح بأن «للصبر حدودا»، وأن قيادة الحزب باتت مقتنعة تماما بعدم جدوى المبادرات السلمية التي تتقدم بها لإنهاء الصراع الدامي في تركيا، ولكن كل تلك التصريحات لم تحل دون تمديد أطول مما سبق لمبادرة وقف القتال. فماذا استجد من تطورات؟ وما الذي حدث حتى يقدم الحزب على تمديد وقف إطلاق النار من جانب واحد ولهذه المدة الطويلة؟ وما هي الضمانات التي تلقتها قيادة الحزب لتنتعش آمالها بالوصول إلى حل سياسي للصراع الدامي المستمر منذ عام 1984 في تركيا؟

الإشارة الأولى جاءت من آيسل توغلوك نائبة رئيس مؤتمر المجتمع الكردستاني ومحامية عبد الله أوجلان، التي أعلنت في تصريحات نقلها موقع «خبر تورك»، أن موكلها أعلن أن «مرحلة الحوار انتهت مع الدولة التركية وبدأت مرحلة المفاوضات». ونفت توغلوك التي التقت أوجلان في سجنه بإيمرالي في وقت سابق من الشهر الحالي «انقطاع مرحلة الحوار بين موكلها ومؤسسات الدولة» كما روجت لها الصحافة. ونقلت عن أوجلان وصفه للقاءاته مع الدولة بالهامة والجدية، قائلا إن «مرحلة الحوار انتهت وبدأت مرحلة المفاوضات». وذكرت أن أوجلان أكد من جانبه تأييد الدولة لمرحلة السلام، لكنه وجّه انتقاداته للأحزاب التركية «التي تحاول وضع العصي في عجلة السلام». وقالت توغلوك إن أوجلان طالب بإنشاء لجنة دستورية لتقصّي الحقائق، مؤكدا رضوخه لأي قرار تتخذه هذه اللجنة بشأن إسكات البنادق واستتباب السلام.

هذه التحركات المحدودة من رئيس الحزب المعتقل داخل السجن، تلقى صدى لها هنا في كردستان العراق التي تحولت أخيرا إلى مرجع أساسي لكل جهد يصبو نحو تحقيق السلام في تركيا، فقد أصبح إقليم كردستان وبشخص زعيمه مسعود بارزاني ملاذا لقيادات سياسية تركية تتوافد للحصول على الدعم الكردي من أجل السلام المنشود مع تركيا.

فكردستان العراق، وعبر الرئيس بارزاني، يمكن أن تلعب دورا مهما في إيجاد الحل السلمي للقضية الكردية في تركيا. ويتحدد هذا الدور بمهمتين أساسيتين لم يأل بارزاني جهدا شخصيا من أجل القيام بهما. المهمة الأولى هي إقناع قادة حزب العمال الكردستاني بضبط النفس والابتعاد إلى أقصى الدرجات عن القيام بنشاطات عسكرية ضد الجيش التركي، والثانية محاولاته المستمرة لتهيئة فريق سياسي كردي - تركي معتدل للتقدم إلى مفاوضات مع الحكومة التركية. وتتركز جهوده في هذا المجال بدعوة الأحزاب والقوى الكردستانية إلى مؤتمر قومي كردي يشمل كافة أجزاء كردستان الأربعة لحشد الدعم والتأييد لسياسة الانفتاح التركية على القضية الكردية، حيث سبق أن تقدم بارزاني بمبادرة من هذا النوع لجمع القوى الكردستانية في مؤتمر قومي يدعم جهود السلام في تركيا.

وكان بارزاني قد التقى قبل أسبوعين بوفد من حزب السلام والديمقراطية برئاسة صلاح الدين دميرتاش رئيس الحزب، وعضوية كولتر كشاناك الرئيسة الثانية في الحزب وبنكي يلدز عضو البرلمان التركي. وقدم دميرتاش خلال اللقاء شرحا عن وضع الأكراد في تركيا في ظل المستجدات الحاصلة، مشيرا إلى «أهمية الحوار لإيجاد آلية مناسبة لحل المشكلات عن طريق السلام والديمقراطية».

من جانبه، أشار بارزاني إلى أهمية الحل السلمي والديمقراطي للقضية الكردية في تركيا، مؤكدا على النضال الديمقراطي والسياسي والبرلماني والإعلامي كشرط رئيسي لعرض المطالب وكسب التعاطف، مشيرا إلى أن «إقليم كردستان يدعم بكل طاقاته وإمكانياته الحل السلمي». وقال: «أتمنى أن يدعم جميع الأحزاب التركية هذا الحل». وشجع أعضاء الوفد لترسيخ الديمقراطية. وقال: «كلما شهدت الديمقراطية تقدما ورسخت دعائمها تتقدم القضية الكردية وتنال الثقة والدعم الأكبر».

ولم يخف بارزاني تخوفه من تحول الصراع السياسي الحالي إلى صراع قومي كردي وتركي. وقال: «إن أخشى ما أخشاه هو تحول الصراع الحالي إلى صراع قومي يتطور إلى قتال بين الأكراد والترك، فهذه ستكون كارثة، على الطرفين أن يحترسا منها».

المتحدث الرسمي باسم قيادة القوات الشعبية، الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، فرحان عمر، لم يخف بدوره مخاوفه من تجدد القتال مرة أخرى في ظل تمديد قرار البرلمان التركي القاضي بتفويض الجيش لشن هجماته على مقاتلي الحزب وملاحقتهم حتى داخل الأراضي العراقية. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «منذ إطلاقنا لأول مبادرة بوقف القتال من جانب واحد لم نلق أية استجابة من الجانب التركي، ورغم أننا في جميع تلك المبادرات نتكبد خسائر فادحة بسبب مواصلة الجيش التركي لهجماته على مواقعنا ومقاتلينا، ولكننا عندما نمدد مبادراتنا بوقف القتال، إنما نريد أن نوصل رسالة إلى الرأي العام التركي والعالمي برغبتنا الأكيدة في السلام». وأضاف: «إن قيادة الحزب ستتجاوب مع جميع الجهود الرامية إلى تحقيق السلام في تركيا، فلسنا نحن من يؤخر حل هذا الصراع الدامي، بل الحكومة التركية هي التي تتحمل المسؤولية برفض مبادراتنا السلمية واللجوء إلى البرلمان مرة أخرى للحصول منه على تفويض بإراقة المزيد من الدماء».

من جانبه، يؤكد المتحدث الرسمي باسم قيادة قوات حرس الحدود في إقليم كردستان اللواء جبار ياور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه «لا جدوى من الهجمات التركية المتكررة على مواقع الكردستاني، فالحلول العسكرية لا تحل مشكلة الصراع السياسي الكردي - التركي». ويضيف: «بقدر ما يتعلق الأمر بنا نحن في إقليم كردستان فإننا نعترض على أي دخول للقوات التركية إلى داخل أراضينا، فالعراق دولة لها سيادة ولا يجوز انتهاك حدودها من قوات دولة أخرى، ولذلك من دون وجود أي اتفاق بين الحكومتين العراقية الفيدرالية والحكومة التركية لن نقبل بأي انتهاك للحدود المشتركة مع تركيا».

ومع تثبيت قرار وقف القتال من جانب «الكردستاني»، تتكثف جهود القوى والشخصيات السياسية الكردية بالتنسيق مع قيادة إقليم كردستان العراق، لتوفير أجواء المفاوضات السياسية بالتناغم مع تراجع زعيم الحزب عبد الله أوجلان عن موقفه السابق الذي هدد من خلاله بنفض يده عن مبادرات حزبه السلمية. فالتحركات أصبحت أكثر فاعلية في الفترة الأخيرة بتوافد كثير من الشخصيات السياسية الكردية - التركية إلى كردستان العراق ولقائهم بالزعيم مسعود بارزاني، منهم البرلمانية الكردية ليلى زانا والسياسي الكردي أحمد تورك ووفود متعددة من حزب السلام والمؤتمر الديمقراطي الكردي. وتحث جهود هذه القوى والشخصيات مجتمعة بارزاني على القيام بدور أو تقديم مبادرة لحل القضية الكردية، خاصة أن علاقات بارزاني مع القيادة التركية وصلت إلى أعلى مستوياتها من التفاهم، وأنه أصبح معتادا أن يتبادل الطرفان الكردي والتركي زيارات متكررة ومتقاربة؛ مما يؤهل بارزاني وإقليم كردستان للقيام بدور في تقريب جانبي الصراع. وتبدو في الأفق بوادر حقيقية لانفراج الأزمة بين «الكردستاني» والدولة التركية، ولكن الخطوات الحقيقية لتحقيق ذلك مؤجلة حاليا بحسب مصادر سياسية كردية إلى حين الانتهاء من أزمة تشكيل الحكومة العراقية، وهي الأزمة التي تأخذ معظم أوقات واهتمامات رئيس الإقليم مسعود بارزاني.