سيدة «الأرقام القياسية»

وزيرة خارجية فرنسا الجديدة تخلت عن حلمها الرئاسي بعد أن ترددت في منافسة ساركوزي.. وأصبحت أول امرأة تتولى وزارة الدفاع

TT

في أشهر الصيف المنصرم دغدغت مخيلة ميشال أليو ماري أحلام لذيذة. الموسم حابل بالوعود ورئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي كشف عمدا، وفي وقت مبكر، عن رغبته في تغيير حكومة فرنسوا فيون لإعطاء ما تبقى من عهده الأول البالغ خمس سنوات، زخما جديدا يمكنه من الإطلال على الاستحقاق الرئاسي القادم ربيع عام 2012 من موقع قوة. فالأشهر الأخيرة، حملت خيبات سياسية لساركوزي وحكومته، إذ إن سياسته الأمنية المتشددة إزاء المهاجرين، وخصوصا ترحيل مئات الغجر إلى رومانيا وألبانيا، جلبت عليه الانتقادات من كل حدب وصوب.

وفي الوقت عينه كانت فضائح ثرية فرنسا الأولى، ليليان بتنكور، وعلاقتها مع وزير المالية السابق ووزير العمل وقتها أريك فيرت والشكوك بوجود «تمويل سياسي» مخالف للقانون لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» اليميني الحاكم، تتفاعل مع نقمة النقابات والطلاب وغالبية الفرنسيين، على مشروع إصلاح قانون التقاعد الذي أنزل ملايين الفرنسيين إلى الشوارع، سبع مرات متتالية. ونتيجة ذلك كله كان تهافت شعبية ساركوزي التي هبطت إلى أدنى مستوى لها منذ انتخابه المريح ربيع عام 2007.

إزاء هذا الوضع غير المريح، عول رئيس الجمهورية على خطة من شقين: داخلي، يكمن في تغيير الحكومة ورئيسها والمجيء بدماء «جديدة»، وخارجي، يتمثل في الاستفادة من رئاسته لمجموعة العشرين الاقتصادية للدول الصناعية والناشئة ولمجموعة الثماني للدول الأكثر تصنيعا للإطلالة على المسرح العالمي ولتوظيف ذلك من أجل استعادة شعبيته والتأهل لولاية ثانية.

من ضمن هذا التصور، برز اسم ميشال أليو ماري مرشحة محتملة لرئاسة الحكومة بدل فرنسوا فيون الذي احتل هذا المنصب منذ ثلاث سنوات ونصف. وبحسب مستشاري ساركوزي، فإن إيكال هذا المنصب لأليو ماري له فوائد عديدة، أولها أنها امرأة، وبالتالي سيكون لتعيينها «وهج التجديد» باعتبار أن فرنسا لم تعرف سوى تجربة يتيمة في الماضي عندما عين الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران الوزيرة أديث كريسون رئيسة حكومة في ربيع عام 1991. غير أن التجربة كانت مخيبة للآمال. فالحكومة استقالت قبل أن تكمل العام وشبهت أديث كريسون بـ«مدام بومبادور» عشيقة الملك لويس الخامس عشر.

لكن أليو ماري من معدن آخر ولها تاريخ يشهد لها. وإذا نظر إليه فإنها تستحق، على الأقل فرنسيا، أن تدخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية. فهي الأكثر تحصيلا علميا من بين كل الوزراء والوزيرات. وكانت أول امرأة تحتل منصب أمينة عام الحزب الديغولي (أو أي حزب كبير) المعروف وقتها بالتجمع من أجل الجمهورية ما بين 1992 و2002 والذي هو في الأساس حزب الجنرال ديغول وإن تحت مسميات أخرى.

أما على المستوى الوزاري، فإن لأليو ماري تاريخا حافلا. فهذه المرأة المولودة في عام 1946 وصلت إلى الوزارة من النيابة. وحصلت على أول حقيبة وزارية في عام 1986 (وزيرة دولة لشؤون التعليم العالي) في حكومة جاك شيراك. ثم في عام 1993 عادت إلى الحكم وزيرة للشباب والرياضة. ومع إعادة انتخاب شيراك رئيسا للجمهورية، عهدت لأليو ماري وزارة الدفاع الوطني لتكون بذلك أول امرأة تصل إلى هذا المنصب ليس في فرنسا وحدها وهي القوة النووية بل في كل العالم الغربي. وفي أجواء الجيش الذكورية، نجحت أليو ماري الحريصة على أن تسمى «السيدة وزيرة الدفاع» في فرض نفسها واحترامها على حملة التنويهات والنجوم وساعدها في ذلك قربها من الرئيس شيراك ونجاحها في الحصول على الاعتمادات اللازمة لتحديث القوات المسلحة الفرنسية. وخلال خمس سنوات، بقيت اليو ماري في هذه الوزارة السيادية الأساسية التي استخدمتها لصقل صورتها ونسج شبكة من العلاقات الخارجية بما في ذلك مع العالم العربي وتحديدا مع الدول الخليجية التي زارتها طولا وعرضا.

ومع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في عام 2007، لم تغلق أليو ماري الباب بوجه إمكانية ترشحها لرئاسة الجمهورية فيما كان المرشح المعلن هو ساركوزي. وبالنظر إلى الاحترام الذي تحظى به في صفوف الحزب خصوصا أوفياء الجنرال ديغول، وإلى عدم وجود منافس جدي لساركوزي، رأت أليو ماري أن أمامها «فرصة» للتحرك. غير أن مشكلتها أنها ترددت ولم تكن حازمة في مسعاها. وبعد محاولة خجولة داخل حزب التجمع من أجل الجمهورية انضوت تحت لواء المرشح ثم الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي الذي كافأها بأن أوكل إليها وزارة الداخلية وهي الحقيبة السيادية الثانية (بعد الدفاع) التي تقع بين يديها. وبذلك تكون أليو ماري قد حققت إنجازا جديدا إذ إنها كانت أول امرأة تحتل هذا المنصب الحساس الذي يتطلب قوة شخصية وحزما في التعامل مع الملفات المعقدة والحساسة. وبقيت «السيدة الحديدية» الفرنسية في منصبها الجديد أقل من عامين لتخلي مكانها، بمناسبة تعديل وزاري، لـ«بريس هورتفو»، وزير الداخلية الحالي وخصوصا الصديق الشخصي والوفي للرئيس ساركوزي.

لكن خروج أليو ماري لم يكن إبعادا لها إذ إنه عوض عليها بوزارة العدل وهي أيضا وزارة سيادية دخلتها في شهر يونيو (حزيران) عام 2009 لتخلف بذلك الوزيرة رشيدة داتي. وكانت الأخيرة قد تحولت إلى ما يشبه «التعاة» على ساركوزي الذي أراد في بداية عهده تطبيق سياسة الانفتاح والتنوع فاختار داتي ممثلة للفرنسيين المتحدرين من أصول مهاجرة وخصوصا عربية. لكن داتي كانت تهوى الأضواء والإعلام فتكاثرت حولها القصص ونسجت الروايات وآخرها حول هوية والد ابنتها التي أنجبتها وهي وزيرة إذ إنها رفضت الكشف عنه بقولها إن لها «حياة خاصة معقدة».

وعندما حان وقت التعديل الوزاري الأخير بعد مخاض عسير للغاية وفي ظروف سياسية صعبة بالنسبة لساركوزي، اختار الرئيس الفرنسي أن يبقي القديم على قدمه أي الاحتفاظ بفرانسوا فيون رئيسا للحكومة ولكن مع إجراء حركة تبديل في الحقائب. وأهم ما فيها إخراج برنار كوشنير من وزارة الخارجية وهيرفيه موران من وزارة الدفاع. الأول، لأنه راكم الأخطاء ولأن الانتقادات انصبت عليه من كل حدب وصوب مركزة على تهاوي مواقع فرنسا الدبلوماسية وعلى التخبط الذي اتسم به أداؤها في الأشهر الأخيرة ولأن كوشنير، رغم شعبيته، لم يكن يتوفر عنده «البروفايل» المطلوب لوزير خارجية. فهو ليس دبلوماسيا في الأساس ووصل إلى السياسة من العمل الإنساني ولذا فإن «عفويته» في إطلاق التصريحات كانت تثير غالبا الاستياء هنا أو هناك ما جعله وزيرا غير مرغوب فيه في عدد من البلدان العربية والأفريقية.

لكن ما أزعج كوشنير في أدائه هو الثنائية الدبلوماسية حيث كان قصر الإليزيه يتدخل في الصغيرة والكبيرة مما حد من هامش تحركه ودفع به أكثر من مرة إلى حد الاستقالة، وآخرها الصيف الماضي بسبب سياسة ترحيل الغجر. وكشف كوشنير أنه كتب رسالة الاستقالة التي أراها لأحد الصحافيين الأميركيين. وفي أي حال لم يتقبل اليمين أن يكون وزير الخارجية اشتراكيا. لكن ما دام كوشنير محافظا على شعبيته وعلى «ثقة» الرئيس كان محميا ولا يمس. لكنه في المرحلة الأخيرة فترت علاقته بساركوزي الذي أراد الاستفادة من التعديل الوزاري للعودة إلى «الأساسيات» أي إلى العائلة السياسية التي ينتمي إليها. ومرة أخرى اختار لهذه الوزارة السيادية من الوزن الثقيل ميشال أليو ماري التي تكون بذلك قد احتلت تباعا وزارات الدفاع والداخلية والعدل والخارجية...

تعيش أليو ماري منذ سنوات مع رفيق دربها النائب باترك أوليه الذي احتل لأسبوع واحد رئاسة مجلس النواب في بداية عهد ساركوزي ما بين برلمان ذاهب وآخر قادم. وكان أوليه المنتمي مثل أليو ماري إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية يشكو مازحا أنه لن يستطيع دخول نعيم الحكومة ما دامت رفيقته ميشال عضوا دائما فيها. غير أن هذه القاعدة كسرت إذ إن أوليه عين وزيرا في حكومة فيون الأخيرة مسؤولا عن العلاقة مع البرلمان. وبذلك تكون أليو ماري قد حققت «نجاحا» إضافيا إذ إنها وأوليه يمثلان أول ثنائي في تاريخ الجمهورية الفرنسية يحتلان معا مقعدين وزاريين في حكومة واحدة. في الماضي، كانت المرشحة الرئاسية الاشتراكية سيغولين رويال ورفيق دربها فرنسوا هولند نائبين. الأخير لم يعين قط وزيرا بسبب توزير سيغولين المتلاحق. غير أن هذه القاعدة غير المكتوبة كسرت «إرضاء لخاطر» وزيرة الخارجية الحالية.

ومع تسلم أليو ماري الخارجية وآلان جوبيه، رئيس الوزراء الأسبق، وزارة الدفاع يكون الشيراكيون والديغوليون التاريخيون قد عادوا لتسلم الحقائب السيادية في حكومة فيون، مما يكشف عن ضعف الرئيس ساركوزي السياسي. لكن ثمة سؤالان رئيسيان مطروحان. الأول هو: هل سيترك الأليزيه لأليو ماري مزيدا من الحرية وهامش التحرك؟ والثاني: ما الذي سيتغير في سياسة فرنسا الخارجية؟

خلال وزارة كوشنير، كان الإليزيه يتدخل في الملفات الخارجية عبر أقرب مساعدين للرئيس ساركوزي هما أمين عام الرئاسة كلود غيان ومستشار الرئيس الدبلوماسي السفير جان دافيد ليفيت. الأول تخصص بشؤون الشرق الأوسط وبلدان المغرب وأفريقيا السوداء فيما الثاني تسلم ملف العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والصين. ما كان يعني أن دور كوشنير تهمش كثيرا.

والواقع أن دستور الجمهورية الخامسة التي وضع أسسها الجنرال ديغول في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958 أعطى رئيس الجمهورية صلاحيات رسم سياسة فرنسا الخارجية والدفاعية. والرئيس هو من يضغط على الزر النووي كما أنه هو الذي يصدق على المعاهدات الدولية. ولذا ليس من المتوقع بتاتا أن يتخلى ساركوزي عن هذه الصلاحيات وهو الذي يرى نفسه مع ترؤسه مجموعة العشرين ومجموعة الثمانية فضلا عن رئاسته للاتحاد من أجل المتوسط «رئيسا للعالم». لكن شخصية اليو ماري مختلفة عن شخصية كوشنير ولذا يتوقع المراقبون أن يتغير الوضع خصوصا أن الفترة الراهنة المتسمة بضعف ساركوزي السياسي مختلفة تماما عن الفترة السابقة حيث كان يفرض إرادته على الجميع دون نقاش. وبأي حال، لا يمكن تصور أن تكون هناك «ديبلوماسيتان» فرنسيتان متضاربتان. لكن المتعارف عليه أن اليو ماري التي لديها تجربة واسعة في الشؤون الخارجية منذ أن كانت وزيرة للدفاع ستدافع عن صلاحياتها وستحاول أن تعيد الإمساك بالدبلوماسية الفرنسية لإعطائها الانسجام المطلوب.

ما الذي سيتغير في سياسة فرنسا الخارجية؟ السؤال مترامي الأطراف. لكن الأمر المتعارف عليه بشكل عام أن الخطوط الأساسية للسياسة الفرنسية (الالتزام بالحلف الأطلسي والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية والدفع إلى مزيد من السياسة الخارجية الأوروبية والبحث عن علاقة وثيقة مع الصين واستخدام الدبلوماسية طريقا لتنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية والعقود..) لن تتغير. ما سيتغير هو «الأسلوب» وربما العودة إلى «بعض الديغولية» وتنشيط سياسة فرنسا العربية والسعي للعب دور ما في ملف الشرق الأوسط حيث لم تعد تخفي باريس انتقاداتها لأسلوب السياسة الأميركية ولتطرف الحكومة الإسرائيلية وتصلبها في موضوع مفاوضات السلام والاستمرار في الاستيطان وتدمير فرص التفاوض.

وفي هذا الموضوع بالذات، يعتبر الخبراء أن فرنسا لم تحصل على مقابل للخطوات التي خطتها تجاه إسرائيل وأن ما كانت تأمله من «إعادة التوازن» لسياستها الشرق أوسطية (أي التقرب من إسرائيل) لم يتحقق وربما حان الوقت لإعادة تقييم كل ذلك.