روسيا والناتو في وئام.. حتى الآن

أوباما وميدفيديف أفصحا عن رغبة مشتركة في التركيز على ما يجمعهما والابتعاد عن نقاط الاختلاف

أمين عام الناتو آندريه فوغ راسموسن يتحضر لمصافحة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو في وقت سابق هذا الشهر (رويترز)
TT

ما بين الثوابت والمتغيرات والسير على حد التناقضات، عادت قمة روسيا - الناتو إلى الانعقاد لأول مرة منذ ما يزيد على العامين في أعقاب اندلاع الحرب في القوقاز في أغسطس (آب) 2008. في لشبونة كان كل شيء قابلا للنقاش. وسرعان ما كشف عن أن مساحات الاتفاق تظل أكثر كثيرا من نقاط الخلاف التي هي مصدر قلق.

وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد استبق وصول الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف إلى برشلونة بسلسلة من التصريحات، مفادها أن بلدان الناتو ترى في روسيا شريكا وليس منافسا، مشيرا إلى ما تحقق من نتائج بعد اتفاقه معها حول إعادة إطلاق العلاقات بين البلدين. وتناقلت المصادر دعوة أوباما إلى عدم الخوف من روسيا وتأكيداته حول ضرورة تركيز الناتو على إعادة إطلاق العلاقات معها شأنما فعلت واشنطن متجاهلا المخاوف التي سبق وأعلنت عنها بلدان البلطيق وبولندا وتشيكيا.

أما ميدفيديف فقد أعلن من جانبه انحسار الخلافات وانتهاء ما وصفه بمرحلة «البرود والادعاءات المتبادلة في العلاقات بين روسيا والناتو»، والتي كانت احتدمت في أعقاب غزو جورجيا لأوسيتيا الجنوبية وبعد أن فرضت روسيا واقعا جديدا في المنطقة باعترافها باستقلال اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللتين سبق وأعلنتا انفصالهما عن جورجيا من جانب واحد. وبهذا يكون الجانبان قد أفصحا عن رغبة مشتركة تجاه التركيز على ما يجمعهما والابتعاد عن نقاط الاختلاف التي تظل تحكم مسار الكثير من علاقات الأطراف المعنية.

ومع ذلك فإن ما جرى التوصل إليه، يظل في إطار النوايا التي كثيرا ما سجل الماضي القريب اصطدامها بتضاريس الواقع وما تناثر على طريق العلاقات الروسية الأميركية الأوروبية من عراقيل. كان تفاؤل ميدفيديف مشوبا بالحذر والترقب، وهو ما تمثل فيما قاله حول وجود القضية الجورجية كحجر عثرة على الطريق، وإن أشار إلى استعداد الجانبين للحوار حولها.

أما عن القضية المحورية، وهي قضية الدرع الصاروخية، فقد كشفت موسكو عن استعدادها للتعاون بشأنها في إطار ما يطرحه الناتو حول مشاركة روسيا في إنشائها. غير أن التعاون من جانب موسكو يظل مشروطا بحتمية أن تكون المشاركة قائمة على أسس التكافؤ والشفافية إلى جانب التوازن الذي لا بد أن يحول دون الانزلاق إلى سباق التسلح. وفي هذا الصدد كانت موسكو سبق وأعربت عن ضرورة تبني الجانبين لصياغة موحدة لمفهوم التكافؤ، انطلاقا من المساواة ومراعاة مصالح الآخر لدى المشاركة في صناعة واتخاذ القرار وتثبيت ذلك قانونيا في وثائق حلف الناتو وهو ما يعرب البعض عن شكوكه تجاه احتمالات قبوله.

وكشف بريخودكو مساعد الرئيس الروسي عن ذلك بقوله إن التباين لا يزال موجودا في وجهات نظر الجانبين تجاه هذه القضية، مشيرا إلى ما يتردد حول عدم قبول الحلف لإعطاء روسيا دورا مؤثرا لروسيا في الدرع الصاروخية وعدم مراعاة مخاوفها لدى صياغة الاستراتيجية الجديدة التي أعلن الناتو عن إقرارها في قمة لشبونة. وقد كشف الجدل الذي احتدم حول هذه القضية عن عدم وضوح الرؤية تجاه ماهية المنظومة المراد التعاون بصدد إنشائها. وفيما نقلت وكالة «إنترفاكس» الروسية عن مصادر «مطلعة» في الناتو قولها إن الحديث لا يدور عن منظومة مشتركة، لا يزال تنفيذها أمرا سابقا لأوانه لأسباب تقنية وسياسية كثيرة وإن المقصود هو التنسيق بين منظومتين مستقلتين مضادتين للصواريخ: أوروبية في القارة الأوروبية وروسية في الفضاء الأوروآسيوي. قال ميدفيديف إن موسكو ستواصل الحوار مع الناتو وبعض دول الحلف حول فكرة إنشاء المنظومة الأوروبية المشتركة للدفاع المضاد للصواريخ من حيث تدقيق مضمون المشروع وجوانبه العسكرية ومكوناته التقنية والتكنولوجية وتكلفته المادية مؤكدا أن موسكو لن تنضم إليه إلا على أساس المشاركة المتكافئة فيه. وقال أيضا إن موسكو عرضت على الناتو إنشاء منظومة الدفاع الصاروخية استنادا إلى ما يسمى بالقطاعات دون توضيح لتفاصيل هذا الاقتراح.

وبغض النظر عن التفاصيل التي يقولون إنها مسكونة بالشياطين، فإن الشواهد تقول بانحسار المواجهة وتعزز الرغبة في استئناف التعاون الذي تريد العاصمتان موسكو وواشنطن أن يكلل بالتصديق على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية التي سبق ووقعها الرئيسان ميدفيديف وأوباما في أبريل (نيسان) الماضي. وكان الرئيسان قطعا شوطا طويلا على هذا الطريق، حين أعلن الرئيس الأميركي أوباما التراجع عن خطط نشر عناصر الدرع الصاروخية في كل من بولندا وتشيكيا وما رد عليه ميدفيديف بإعلانه عن عدم تنفيذ ما سبق ولوح به حول نشر منظومات صواريخ «اسكندر» في مقاطعة كالينينغراد.

ولكن الطريق لم يكن كله مفروشا بالورود حيث سرعان ما تناثرت فوقه الأشواك التي تمثلت في عدد من الخطط الاستباقية وما صاحبها من تصريحات من جانب ممثلي الجانبين. وكانت موسكو حرصت على الكشف عن حقيقة مواقفها من خلال تصريحات الجنرال نيكولاي ماكاروف رئيس أركان القوات المسلحة الروسية الذي أكد رفضه للبدائل التي تطرحها الإدارة الأميركية. وقال إن موسكو لن تقبل بأي خطط من هذا القبيل ما لم تشارك فيها، وهو ما كان إشارة إلى استعداد موسكو للتعاون في إنشاء منظومات الدفاع الصاروخية التي قال ميدفيديف إن الإدارة الأميركية غيرت خططها الخاصة بنشر عناصرها في أوروبا ليس من أجل روسيا بل تماشيا مع مصالح الولايات المتحدة نفسها وإن وصف هذا القرار بأنه «قرار شجاع». وإذ أشار إلى أن موسكو تنظر إلى التعديلات التي أعلنتها واشنطن على خططها الخاصة بتطوير منظومة الدرع الصاروخية بوصفها خطوة بناءة في الاتجاه الصحيح أعرب صراحة عن استعداد بلاده لمناقشة التعاون في مجال الدفاع المضاد للصواريخ. وكانت هذه التصريحات التي تتسم بإيجابية كثيرة مقدمة طبيعية لما تحقق في برشلونة من اتفاق حول التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والتصدي للقرصنة في أعالي البحار والحيلولة دون انتشار أسلحة الدمار الشامل وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر والتجارة غير المشروعة للأسلحة ومواجهة التحديات المشتركة ومنها الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية. كما أعلنت موسكو عن قبولها لكل ما يتوافق مع استراتيجيتها بما في ذلك ما يتعلق بأفغانستان وإيران. وأكدت مجددا على مساندتها لنشاط قوات التحالف في أفغانستان والاتفاق حول تنظيم نقل المعدات والقوات إليها عبر الأراضي والأجواء الروسية.

أما عن إيران، فقد عادت روسيا لتعلن تأييدها لحق طهران في تطوير برنامجها النووي السلمي وإن أعربت عن استعدادها للتعاون مع الناتو في مراقبة تطوير البرنامج النووي لإيران وغيرها من الدول في الوقت الذي قالت فيه بضرورة إعلاء دور الأمم المتحدة وعدم إغفال الشرعية الدولية. وهنا يتوقف المراقبون عند ما سارعت قوى المعارضة الروسية في الداخل إلى الإعلان عنه من منظور رفضها لما وصفته بعدم جواز الانصياع لتوجهات الولايات المتحدة والدوائر الغربية تجاه إيران محذرة من مغبة الانسياق وراء الالتزام بقيود العقوبات الدولية المفروضة ضد طهران والتي قالت إنها قد تضر بمصالح روسيا لدى محاولاتها التوصل إلى سلام دائم وتسوية المشكلات العالقة بين بلدان حوض بحر قزوين.

وتبقى القضية الجورجية التي اعترفت الأطراف المعنية بأنها لا تزال قائمة كعقبة تحول دون تحقيق الاستقرار في منطقة القوقاز. وكانت وكالة أنباء «ريا نوفوستي» الروسية الرسمية، قد أشارت إلى «أن تنفيذ مطالب حلف الناتو تجاه جورجيا ومعاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا مقابل عرض انضمام روسيا وتعاونها في مشروع الدرع الصاروخية تعني أن الناتو يريد بناء شراكة مع روسيا وفق شروطه وهو الذي يطالبها بتأكيدات جديدة من موسكو تضرب سيادتها».

ومضت الوكالة الروسية الرسمية لتقول «إن الدفاع عن مصالح جورجيا يعني عمليا الحد من نشر القواعد الروسية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. أما عن تطبيق معاهدة الحد من القوات التقليدية التي سبق وأعلن الرئيس السابق فلاديمير بوتين عن تجميدها ردا على إعلان نظيره الأميركي جورج بوش الانسحاب منها قالت مصادر روسية إنه لا يعني سوى حظر تحرك القوات المسلحة على أراضيها بما لا يصب في مصلحة روسيا ويشكل خطرا عليها».

وفي الوقت الذي يعكف فيه الكثيرون من مراقبي الجانبين على دراسة ما تمخضت عنه لقاءات لشبونة من اتفاقات ومراجعات، تظل الأنظار مشدودة إلى الكونغرس الأميركي في انتظار ما سوف تسفر عنه مناقشاته بشأن التصديق على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية والذي سبق وأعلن الرئيسان أوباما وميدفيديف عن توقعاتهما بتحقيقه قبل نهاية العام.

وكان الرئيس الأميركي أعرب عن أمله في سرعة التصديق على المعاهدة في القريب العاجل بما قد يعطى إشارة إلى إيران مفادها أن الوسطاء الدوليين تجاوزوا خلافاتهم فيما حذر حلفاؤه الأوروبيون من مغبة انهيار المعاهدة خشية أن يسفر ذلك عن نسف الجهود الرامية إلى تقرير القضية الإيرانية وظهور الوحدات الروسية على مقربة مباشرة من حدود شرق أوروبا، حسب ما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية. ونقلت وكالة «ريا نوفوستي» عن جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي قوله في الكونغرس حول التصديق على المعاهدة مطلب للأمن القومي وإشارته إلى أن الأميركيين سيكونون عاجزين بغير المصادقة عليها أن يراقبوا الترسانة النووية الاستراتيجية الروسية.

أما الرئيس الروسي فقد كشف من جانبه عن قلقه تجاه تعثر قضية التصديق على المعاهدة التي تبدو وقد وقعت رهينة الصراعات الحزبية الداخلية في الولايات المتحدة ولا سيما في أعقاب خسارة الديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة للكونغرس الأميركي. وقال إن البرلمان الروسي سيرد على ما سوف يفعله الكونغرس على نحو متواز نظرا لأن هذه المسألة تتعلق بالمصلحة المشتركة لكلا الجانبين وغيرهما من الدول ويخدم مصلحة موسكو وواشنطن على حد سواء.