صراع الكوريتين

استفزاز بيونغ يانغ لسيول ليس طلبا للمواجهة بل سعيا للحوار مع الولايات المتحدة

صورة من وزارة الدفاع في كوريا الجنوبية تظهر النيران التي تسببت بها صواريخ كوريا الشمالية (أ.ب)
TT

تصاعدت التوترات في شبه الجزيرة الكورية إلى أعلى مستوى لها خلال أكثر من عقد في أعقاب المناوشات العسكرية بين الكوريتين. وقد زادت كوريا الشمالية من وتيرة هذا التوتر يوم الثلاثاء الماضي، عندما أطلقت عشرات القذائف المدفعية على جزيرة يونبيونغ الكورية الجنوبية. وتقع هذه الجزيرة على الساحل الغربي لشبه الجزيرة الكورية، وهي قريبة من الحدود البحرية المتنازع عليها، وأقيم عليها بعض المنشآت العسكرية الجنوبية وعدد قليل من السكان المدنيين. وقد أدى القصف إلى مقتل اثنين من مشاة البحرية الكورية وإصابة بعض المدنيين.

بدا الأمر وكأن كوريا الشمالية لم يكن لديها من الأسباب ما يبرر هذا القصف، لكنها كانت قد حذرت جارتها الجنوبية بضرورة وقف التدريبات العسكرية بالقرب من حدودها البحرية وهددوا قبل أسابيع بالرد على أهداف كورية جنوبية متى شاءوا. وعندما رفضت سيول وشرعت في إطلاق قذائف المدفعية في المياه المتنازع عليها - والبعيدة عن الشواطئ الكورية الشمالية - كان الرد الكوري الشمالي بعمل عسكري.

وتأتي الحدود البحرية الغربية لكلتا الدولتين من بين أهم أسباب هذه الاشتباكات المتفرقة بين الحين والآخر، إذ لم تعترف كوريا الشمالية بالحدود التي وضعتها الأمم المتحدة بصورة أحادية في أعقاب الحرب الكورية التي قامت بين عامي 1950 و1953. وتأتي آخر الأزمات بين الكوريتين بعد أيام من الكشف عن إنشاء كوريا الشمالية منشأة سرية لليورانيوم عالي التخصيب في انتهاك للعقوبات الدولية.

وقد تصاعد القلق بشأن طموحات بيونغ يانغ النووية في أعقاب تقرير سغفريد هيكر، العالم النووي في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة والذي زعم أن الكوريين اصطحبوه في زيارة لمنشأة تخصيب اليورانيوم أثناء زيارته لكوريا الشمالية في نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. ونشر هيكر، المدير السابق لمعامل لوس أنجليس الوطنية في نيو مكسيكو، تقريرا مفصلا عن زيارته لكوريا الشمالية على موقع جامعة ستانفورد، وقال إنه شاهد أكثر من ألفي جهاز طرد مركزي خلال جولة في مجمع يونغ بيون النووي، والذي وصفه بـ«المذهل» لمنشأة النووية، ووصف غرفة التحكم في المنشأة بأنها «متقدمة بشكل مدهش». ولم يتحدث هيكر عما إذا كانت المنشأة تعمل أم لا. وتزعم كوريا الشمالية أن منشأة الماء الخفيف تستخدم في إنتاج الطاقة لا الرؤوس الحربية - بيد أن هذه المزاعم لا تجد قبولا لدى المجتمع الدولي.

وجاء كشف كوريا الشمالية المثير للدهشة عن منشأة تخصيب اليورانيوم الحديثة، كصدمة قوية للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية التي تبنت سياسة العصا والجزرة في محاولة إثناء بيونغ يانغ عن طموحاتها النووية. وربما يدرج التصعيد العسكري الأخير إلى قائمة المناوشات العسكرية الطويلة لهذه الأحداث «المتفرقة» بين الدولتين منذ نهاية الحرب الكورية عام 1953، لكن توقيته يثير القلق إلى حد بعيد. وقد تزامن مع وصول المبعوث النووي الأميركي، ستيفن بوسورث، إلى الصين في أعقاب توقف قصير في سيول وطوكيو، والتي حاول خلالها تنسيق المواقف بشأن سياسة موحدة للتعامل مع تهديد كوري شمالي من نوع مختلف تماما يتمثل في منشأة تخصيب اليورانيوم في يونغ بيون.

وحث العديد من المراقبين الولايات المتحدة وحلفاءها على ضرورة الدخول في محادثات مع كوريا الشمالية، مؤكدين على أن تحدي الانتشار النووي سيستمر ما لم يتم التعامل معه. وكانت كوريا الشمالية قد عبرت مؤخرا عن رغبتها في العودة إلى المحادثات السداسية حول برنامجها النووي التي توقفت قبل أكثر من عام، والالتزام باتفاقية 2005 الرامية إلى إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية.

وبعثت كوريا الشمالية خلال الأسابيع الأخيرة بإشارات إلى رغبتها في العودة إلى المحادثات السداسية التي تضم كوريا الجنوبية والصين والولايات المتحدة واليابان وروسيا إضافة إلى كوريا الجنوبية، ومن ثم سعت الصين إلى استئناف المفاوضات في دبلوماسية مكوكية سريعة نيابة عن كوريا الشمالية شهدت الإدلاء بعدد من البيانات والتصريحات العامة وعبر قنوات أخرى تؤكد على أن بيونغ يانغ مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات. وقال راجا رام موهان، خبير شؤون جنوب شرق آسيا لـ«الشرق الأوسط» إن أحدث أعمال التصعيد الكورية الشمالية لا ينبغي النظر إليها كنوع من السعي إلى المواجهة، بل كإحدى الإشارات إلى الولايات المتحدة على رغبتها في الحوار. وقال موهان: «عبرت كوريا الشمالية بشكل متكرر عن رغبتها في الحوار مع الولايات المتحدة، واستئناف المحادثات السداسية، ومن ثم تحاول كوريا الشمالية الضغط على الأطراف الأخرى للعودة إلى المحادثات».

لكن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تراجعتا رغبة في الحصول على الحصول على المزيد، متوقعة خطوة واضحة من جانب كوريا الشمالية لإثبات استعدادها لبدء نزع السلاح النووي من جانب واحد. ويرى محللون أن كشف بيونغ يانغ عن برنامجها النووي كان إشارة على جديتها كشريك في الحوار مع الولايات المتحدة، التي تستخدم رسميا مع كوريا الجنوبية استراتيجية مزدوجة تتألف من العقوبات مع الحوار، غير أن هذه السياسة لم تتسبب سوى في مزيد من تجنب كوريا الشمالية للحوار.

ويقول أميتاب ماتو، الأستاذ بجامعة جواهر لال نهرو في دلهي: «نتيجة لذلك، باتت الأوضاع أكثر تعقيدا عن ذي قبل. فلدى كوريا الشمالية الآن ورقة أخرى تدعى اليورانيوم». ويرى محللون آخرون أن أحدث هجمات كوريا الشمالية ضد جارتها الجنوبية، محاولة لاستعراض كوريا الشمالية لقوتها أمام العالم الخارجي - ويعتقد الكثيرون أيضا أنها دلالة على نوع من التحول السياسي في بنية القيادة الكورية الشمالية.

فما يدور في كوريا الشمالية بهدوء يجعل من شبه المستحيل تغيير النظام من الخارج. بيد أن هناك مؤشرات قوية على أن كيم يونغ إيل حاكم كوريا الشمالية المريض، قد عين ابنه كيم يونغ أون، الذي يعتقد أنه في السابعة والعشرين من العمر، خليفة له. هذه الخلافة التي تمضى قدما في أعقاب إصابة كيم يونغ إيل بالسكتة الدماغية في صيف 2008، حدت بزعيم كوريا الشمالية إلى زيارة الصين مرتين العام الحالي، وهو ما اعتبر تمهيدا للطريق من أجل الحصول على الدعم الصيني للقرار وطلب الدعم الاقتصادي للدولة المتداعية اقتصاديا. وقد برزت صورة كيم يونغ أون على المستوى الشعبي خلال الشهور الأخيرة، فهو يرغب في لفت انتباه العالم الخارجي، خاصة الأميركيين. ويرى محللون في عرض بيونغ يانغ محاولة لإحراج سيول وواشنطن، حيث يبدي الحلفاء أولويات مختلفة في التعامل مع كوريا الشمالية. فمنذ تولي إدارة الرئيس الكوري الجنوبي، لي ميونغ باك، المتشددة السلطة في 2008، لم تأبه كوريا الجنوبية لنداءات كوريا الشمالية، مطالبة إياها بأن تظهر أولا رغبة صادقة في التخلي عن الأسلحة النووية كشرط للعودة إلى التواصل والذي يشمل شرط المساعدة الاقتصادية. أما بالنسبة لإدارة أوباما، فلم تكن كوريا الشمالية شأنا دوليا ذا أهمية قصوى بالنسبة لها، وهي تأتي بعد الشرق الأوسط وأفغانستان. ويتضح افتقار واشنطن إلى الحماسة في الحوار مع كوريا الشمالية، في الوقت الذي كانت منشغلة فيه بمصاعبها الاقتصادية الداخلية، في اعتمادها على زعامة الحليف الآسيوي، كوريا الجنوبية، خاصة في أعقاب الاعتداء السابق في مارس (آذار) الماضي والذي قتل خلاله 46 بحارا كوريا جنوبيا في البحر الغربي المضطرب، بالقرب من الحدود بين الكوريتين.

وقد ألقت سيول باللائمة في الهجوم على بيونغ يانغ التي أنكرت أي صلة لها بالهجوم وقررت الولايات المتحدة الوقوف بحزم إلى جانب كوريا الجنوبية في دعوتها لاتخاذ موقف عقابي ضد كوريا الشمالية. كان رد الفعل الدبلوماسي سريعا، حيث عبرت الصين عن استيائها من تدهور الأحداث دون إدانة العمل الكوري الشمالي. أما روسيا فعبرت بقوة عن إدانتها للكوريين الشماليين، في الوقت الذي شددت فيه الحكومتان على الحاجة إلى حل دبلوماسي للمشكلات بين الكوريتين.

وقد سارعت الحكومات الغربية الأخرى إلى اتخاذ موقف متشدد ضد بيونغ يانغ، فطالب المتحدث باسم البيت الأبيض كوريا الشمالية بوقف أعمالها العدائية. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض: «إن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن كوريا الجنوبية». كما أدان وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ ما وصفه «بالهجوم غير المبرر» على كوريا الجنوبية.

المشكلة بالنسبة لأي حلول من الحلول تكمن في نتائجه، ومن ثم ينبغي تجنب قيام للولايات المتحدة وحليفتها كوريا الجنوبية بأي عمل عسكري. فعلى الرغم من أن النصر سيكون حليف الولايات المتحدة وحليفتها كوريا الجنوبية في حال حدوث نزاع شامل. فإن تكلفة هذا الصراع ستكون مدمرة، حيث تقع العاصمة الجنوبية سيول على مقربة من الحدود مع كوريا الشمالية، وهو ما يضعها في مرمى نيران المدفعية الكورية الشمالية التي تقدر بالآلاف. وستدمر أغلب المدن الكبرى في كلا البلدين وسيكون عدد الضحايا كارثيا. إدارة هذه الأزمة ممكنة على المدى القريب، لكن عدم وضع كوريا الشمالية على قمة أولويات الأجندة الدولية، يلقي بالمزيد من الضغوط على إدارة أوباما للتفكير في سياستها الحالية.

وتقع شبه الجزيرة الكورية في شرق آسيا وكانت دولة موحدة تحدها من الشمال الغربي الصين ومن الشمال الشرقي روسيا ومن الشرق اليابان. خضعت كوريا الموحدة إلى الحكم الياباني في الفترة من 1910 إلى 1945 مع استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية. ثم قسم القادة الأميركيون شبه الجزيرة الكورية حيث احتلت القوات الأميركية الجزء الجنوبي فيما احتلت القوات الروسية الجزء الشمالي.

سرعان ما أصبح هذا القرار الثانوي للجيوش المتحالفة أساسا لتقسيم كوريا من قبل القوتين العظميين، وفاقم من تبعات القرار خلافهما على بنود استقلال كوريا. ثم أقام خصما الحرب الباردة حكومتين مواليتين لأيدلوجيات كل منهما وهو ما أدى إلى انقسام كوريا إلى كيانين سياسيين: كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. كان النزاع الذي تلا ذلك بين الدولتين حرب وكالة إلى حد بعيد. فقد تدهور الوضع ليصل إلى ساحة حرب مفتوحة عندما غزت القوات الكورية الشمالية كوريا الجنوبية عام 1950، مستخدمة دبابات وأسلحة روسية. خلال الحرب الكورية (1950 - 1953) سقط الملايين من المدنيين ودمرت الحرب التي امتدت لثلاث سنوات غالبية المدن في الدولتين.

ساعدت الولايات المتحدة كوريا الجنوبية في رد العدوان وهرع الاتحاد السوفياتي لتقديم مساعدات مادية للصين وكوريا الشمالية. وأنهي التهديد بشن حرب نووية الحرب باتفاق لوقف إطلاق النار ووضع خط الحدود العسكرية، ونتيجة لذلك تبنت كوريا الشمالية النظام الشمولي في الحكم فيما أسست كوريا الجنوبية جمهورية على النمط الغربي.