صراع بين القضاء المصري والحكومة

حكم إسقاط الجنسية عن المصريين المتزوجين من إسرائيليات واجه انتقادات كثيرة

أحد القضاة المصريين يلوح بمستند خلال إحدى المحاكمات بالقاهرة (إ.ب.أ)
TT

«بات القضاء يتصرف باعتباره جهة سياسية وليست قضائية».. تلخص هذه العبارة التي كتبها الدكتور عبد المنعم سعيد، القيادي بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الأهرام»، طبيعة الأزمة التي تواجه السلطة التنفيذية في البلاد، بعد سلسلة طويلة من الأحكام القضائية التي أصدرها مجلس الدولة، بما في ذلك الأحكام التي أصدرها قبل أيام بشأن الانتخابات البرلمانية.

ويقول الخبراء إنه ليس أمام الحكومة إلا أمر من اثنين: إما الالتزام بأحكام القضاء، أو عدم الالتفات إليها مما يكبدها خسائر سياسية، خاصة بعد أن بلغ عدد الدعاوى التي أقامها المصريون ضد المسؤولين بالحكومة مليونا ومائة ألف دعوى قضائية خلال العام القضائي المنقضي، فيما بلغ عدد الأحكام التي أصدرتها محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها خلال العام نفسه ما يزيد على 10 آلاف حكم وضعت غالبيتها في خانة أحكام مع إيقاف التنفيذ.

ومجلس الدولة هو هيئة قضائية مستقلة، تختص بنظر المنازعات الإدارية والقضايا التأديبية، ومراجعة القوانين واللوائح التي تصدرها الحكومة، لكنه في الفترة الأخيرة دأب على مواجهتها بالكثير من المخالفات، وإصدار أحكام محرجة لها.

غير أن القضاة الذين تحصنوا بمنصة القضاء اكتشفوا واقعا مغايرا خلال إشرافهم على الانتخابات البرلمانية في البلاد، لتتعمق جذور أزمة تبدت ملامحها قبل خمس سنوات، حينما استُدعي القضاء للإشراف الكامل على العملية الانتخابية حينذاك. أما في الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم الأحد الماضي فقد تعرض المستشار وليد الشافعي، رئيس محكمة الجيزة الابتدائية عضو اللجنة العامة للانتخابات في دائرة البدرشين، للاحتجاز على يد الشرطة المصرية، بعد أن قال إنه ضبط عمليات تزوير في الانتخابات.

لكن بعيدا عن المواجهة المباشرة مع السلطة خارج أروقة المحاكم، بدت أحكام مثل حكم إلزام الحكومة المصرية بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، وحكم إسقاط الجنسية عن المصريين المتزوجين من إسرائيليات، وإبطال عقد أحد المشروعات العقارية الكبرى لـ«عدم صحة شروطه»، وإلزام الحكومة بوضع حد أدنى للأجور يتناسب مع ارتفاع الأسعار، وإقصاء الحرس الجامعي خارج أسوار الجامعات المصرية، وحتى نظر قضية وقف أعمال بناء «الجدار العازل» على الحدود بين مصر وقطاع غزة.. كل هذه الأحكام بدت ذات صبغة سياسية واضحة، ربما لطبيعة أصحاب الدعاوى أنفسهم، أو نظرا لطبيعة موضوع الدعوى، لكنها (الأحكام) على أي حال قد دشنت نوعا جديدا من الجدل حول العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية في البلاد.

ويمكن العودة للمشهد الافتتاحي لهذه الموجة الجديدة من فصول المواجهة بين السلطتين التنفيذية والقضائية، والتي بدأت منذ تأسيس مجلس الدولة (قضايا الحكومة) في أربعينات القرن الماضي، حتى تجلت واضحة في عام 2006 وما بعدها. فقبل أربع سنوات خرج المستشاران محمود مكي وهشام بسطويسي من دار القضاء العالي وهما يرفعان أيديهما بعلامة النصر على الحكومة.

كان المستشاران قد تم تقديمهما لمحاكمة تأديبية بتهمة تحبيذ نشر قائمة سوداء تتضمن أسماء قضاة اتهمتهم المعارضة ومنظمات حقوقية بالتورط في وقائع تزوير انتخابات البرلمان المصري عام 2005. لكن المحاكمة التأديبية أتت كذلك على خلفية محاولة السلطات المصرية تمرير قانون يقول قطاع من القضاة إنه لا يستجيب لطلباتهم في توفير الضمانات اللازمة لاستقلاليتهم وحصانتهم وفقا للمعايير الدولية المتعلقة باستقلال القضاء.

بعدها تجاهلت الحكومة المشروع المقدم من طرف نادي قضاة مصر، الذي تولى رئاسته خلال هذه الفترة مجموعة أطلق عليها «تيار استقلال القضاء» كان مكي وبسطويسي والمستشار محمود الخضيري على رأسهم، في غمرة نزاع القضاة مع الحكومة، ولم يكن قد مرّ وقتها إلا أشهر معدودة على احتدام الجدل بين القضاة والحكومة حول نزاهة الانتخابات البرلمانية التي أجريت تحت إشراف قضائي كامل حينذاك، وكشف خلالها عدد من القضاة عن وقائع تزوير، كانت أشهرها تلك التي كشفت عنها القاضية نهى الزيني.

لكن ما بدا أكثر خطورة من الجدل حول نزاهة الانتخابات ومطالب القضاة باستقلاليتهم عن السلطة التنفيذية، هو مجموعة من الأحكام القضائية حاصرت الحكومة ووضعتها «أمام خيارين أحلاهما مر»، وهو التعبير الذي استخدمه الناشط السياسي أحمد بهاء شعبان، موضحا «فإما الالتزام الواجب بأحكام القضاء، أو عدم الالتفات إليها وتحمل الخسائر السياسية المحتملة المترتبة على هذا الاختيار».

وعلى غرار مشهد محاكمة القاضيين مكي وبسطويسي، كانت محاكم مجلس الدولة تعيد إنتاج المشهد الأخير من الفيلم السينمائي الشهير «ضد الحكومة»، والذي دار داخل قاعة محكمة، لكن الاتهام كان هذه المرة ضد وزراء لا قضاة. وقد اختار مخرج الفيلم الراحل عاطف الطيب أن يبتعد عن واقعيته، ليسمح للكاميرا بأن تغادر موقعها وتتحرك بحرية، لتبحث عن زوايا تضفي جلالا على منصة القضاء، التي باتت ملجأ المعارضة المصرية اليوم، وهو ما أضفى على نوعية القضايا وطبيعة الأحكام صبغة سياسية. ولا تزال في ذاكرة المشاهد المصري الصرخة التي أطلقها النجم أحمد زكي في المحكمة «كلنا فاسدون.. كلنا فاسدون.. لا أستثني أحدا، حتى بالصمت العاجز قليل الحيلة».

كان المخرج «الطيب» الذي اختطفه الموت مبكرا يعي طبيعة هذه الصرخة، ليس فقط باعتباره من أوائل المثقفين المصريين الذين أبرزوا دور السلطة القضائية في صراع المعارضة ضد السلطة التنفيذية، قبل نحو ثلاثين عاما، وإنما لأنه عاش الواقع وانخرط بالبسطاء والفقراء، وأدرك أن طبيعة «المشهد السياسي» من الصعب أن تتغير، في ظل غيبة الحراك الحقيقي حول صراع تتبدل مواقعه وأطرافه، بشكل حماسي عابر. لكن الانتقال بصراع المعارضة ضد الحكومة إلى داخل أروقة المحاكم كشف عن تغير عميق في بنية المعارضة وتكتيكاتها، أكثر من أي شيء آخر.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في مصر هذا القدر من التوتر، ففي جعبة الماضي القريب كان الشد والجذب بين السلطتين قائما منذ محاولات الحكومة «الوفدية» تقليص سلطات الهيئة القضائية عشية ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، ثم لاحقا حين دخلت العلاقة نفقا جديدا على خلفية ما سمي «مذبحة القضاء» في ستينات القرن الماضي، وصولا للمواجهة المفتوحة بين نادي قضاة مصر والحكومة في عام 2005 عقب الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات البرلمانية، وهو ما سبب حرجا للحكومة بعد أن كشف قضاة وقوع عمليات تزوير.

يقول المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، لـ«الشرق الأوسط» إنه «منذ إنشاء مجلس الدولة عام 1946، وهو يواجه العنت الحكومي، عن طريق عدم تنفيذ أحكامه الواجبة النفاذ بمجرد صدورها».

ويضيف «تتعمد الجهات الإدارية المصرية تقديم استشكالات في تنفيذ هذه الأحكام أمام محاكم مدنية غير مختصة، وذلك لتعطيل تنفيذ الأحكام بصفة مؤقتة، حتى يحال الاستشكال إلى مجلس الدولة، وتتعمد الجهات الإدارية التحايل على تنفيذ الأحكام الباتة والنهائية، الصادرة في قضايا معينة على خلاف رغبات ومصلحة مراكز القوى داخل النظام المصري، والتي تزعم إعلاميا في نفس الوقت أنها تحترم هذه الأحكام وتبدي استعدادا لتنفيذها».

أدرك الدكتور عبد المنعم سعيد بوضوح هذا الأمر، مما دفعه لتناول القضية حين تحدث في أحد مقالاته عن أسباب تدعو للقلق «على الأحوال في بر مصر (...) نتيجة أفعال تقوم بها السلطة القضائية، باتت تهدد من ناحية الفصل بين السلطات في الدولة‏،‏ ومن ناحية أخرى استقلال القضاء نفسه، حيث بات القضاء يتصرف باعتباره جهة سياسية وليست قضائية».

في مقابل هذا التشخيص الذي يقدمه سعيد، يرى المستشار الأسبق بمجلس الدولة جمال حسنين أن «مجلس الدولة هو كلمة السر في إنصاف المظلومين ضد قرارات الوزراء والحكومة التي تهدد آمالهم وأحلامهم، وملجأهم لوقف تنفيذ الأحكام والقرارات السلبية المخالفة للقانون».

وهو ما أوضحه حسنين لـ«الشرق الأوسط» بقوله «بلغ عدد الدعاوى التي أقامها المصريون ضد النظام الحاكم بدءا من رئيس الجمهورية وصولا إلى رئيس الحكومة المصرية والوزراء وجميع المحافظين والمسؤولين الحكوميين مليونا ومائة ألف دعوى قضائية خلال العام القضائي المنقضي الذي بدأ في أول أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي وحتى 31 يونيو (حزيران) من العام الحالي».

وأشار إلى أن محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها أصدرت خلال العام نفسه ما يزيد على «10 آلاف حكم وضعت غالبيتها في خانة أحكام مع إيقاف التنفيذ». ويرى حسنين أن «من أبرز هذه الأحكام، حكم الإدارية العليا بأحقية القبطي المطلق بموجب حكم قضائي نهائي في الزواج الكنسي الثاني، وحكم إسقاط الجنسية عن المتزوجين من إسرائيليات».‏ وقد تحدث عن هذين الحكمين بالتحديد الدكتور عبد المنعم السعيد بقوله إن حكم إسقاط الجنسية عن المصريين المتزوجين من إسرائيليات واجه انتقادات كثيرة من جانب اتجاهات وتيارات مختلفة اعتبرت أن مجلس الدولة «فرض نفسه مدافعا عن الأمن القومي للبلاد بدلا من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى»‏.‏ وتساءل سعيد «ما الذي جرى للقضاء المستقل،‏ والفصل بين السلطات؟‏»، مضيفا في النهاية أن الموضوع كله يحتاج تفكيرا طويلا وعميقا من كل أركان النظام السياسي الذي اختلطت أوراقه بطريقة مزعجة.

ما بدا بالنسبة لسعيد مزعجا وصفه معارضون للنظام المصري بالخطير، لكن على خلاف المؤيدين للحكومة، يرى هؤلاء المعارضون أن مكمن الخطر في عدم تنفيذ الأحكام القضائية، الأمر الذي حذر منه خالد علي المحامي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، قائلا «الامتناع عن تنفيذ أحكام مجلس الدولة يهدد السلام الاجتماعي، فالهدف من إنشاء 3 سلطات للدولة (قضائية وتنفيذية وتشريعية) هو حل النزاعات التي قد تنشأ بين أجهزة الدولة».

وأضاف علي لـ«الشرق الأوسط» أن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حصل على حكم تاريخي بإلزام المجلس القومي للأجور بزيادة الحد الأدنى لأجور العمال، وبدلا من أن تسعى الحكومة إلى تنفيذ الحكم وتبحث عن مصادر دخل لتوفير مرتبات كريمة للمصرين، فإنها قامت بالطعن على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا».

وربما كان هذا هو السبب الذي دعا محكمة القضاء الإداري في حكمها بوجوب إقصاء الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية عن الجامعات المصرية، لتأكيد أنها من دون غيرها تختص بالفصل في ما يتعلق بتنفيذ ما يصدر عنها من أحكام، مشددة على أنه يتعين النأي عن إقامة استشكالات لوقف تنفيذ أحكام مجلس الدولة أمام محكمة غير مختصة ولائيا بنظرها، وهو ما قطع الطريق أمام الحكومة المصرية لرفع دعوى أمام محاكم الأمور المستعجلة المدنية لوقف تنفيذ الحكم.

واعتبرت المحكمة أن الحكم الذي يصدر بوقف تنفيذ حكم لمجلس الدولة «هو العدم سواء بسواء، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني»، في صيغة بدا معها وكأن صدر المحكمة قد ضاق بأساليب الحكومة المصرية في التعامل مع أحكام مجلس الدولة بحسب عدد من المراقبين.

يمكن اكتشاف أسباب هذا الضيق إذا ما أدركنا ما كشف عنه أحد المصادر بمجلس الدولة (رفض ذكر اسمه)، قائلا إنه «باستعراض أهم الأحكام الصادرة خلال الأشهر التسعة الماضية نجد أن محاكم القضاء الإداري بدوائرها الخمسين، أصدرت ما يزيد على 6 آلاف حكم لم تنفذ الحكومة منها سوى أقل من 6%، رغم أن أحكام القضاء الإداري واجبة النفاذ ولا يوقف تنفيذها الطعن أو الإشكال عليها».

وأضاف المصدر «إلا أن وزراء حكومة نظيف أصبحوا يعدون صحف الطعن على أحكام القضاء الإداري قبل إصدارها، لتؤدي أحكام القضاء الإداري وظيفة وحيدة هي امتصاص غضب المواطنين».

وأشار في الوقت نفسه إلى أن «اللواء حبيب العادلي، وزير الداخلية المصري، تصدر قائمة أكثر الوزراء الذين تصدر ضدهم أحكام قضائية من محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها، وتلاه وزراء المالية والإسكان والسياحة، إلى جانب رئيس الوزراء الذي تقدم أكثر من 4 آلاف مواطن بالطعن على قراراته خلال العام القضائي الماضي فقط».

وبينما كان القضاة يخوضون ما أطلقوا عليه «معركة استقلال القضاء»، كانت تغييرات أساسية قد أصابت بنية المعارضة المصرية، وبدأت تتكشف تباعا، فالأحزاب الرسمية فقدت مصداقيتها في الشارع بعدما ظلت أسيرة مقارها لسنوات، مع تدهور صحافتها. ترافق هذا مع انشقاقات داخل صفوف الحزب الحاكم أفرزت نوعا جديدا من المعارضين خرجوا من عباءة الحزب، وانضم إلى المعارضة رموز من كبار موظفي الدولة وأساتذة الجامعات وقضاة سابقون، وهؤلاء دخلوا معترك السياسة بخلفية تولي مفهوم الشرعية أهمية كبرى، ولجأوا من أجلها إلى ساحات القضاء، بعد سنوات ظل خلالها جسم المعارضة الرئيسي في البلاد يتشكل من تنظيمات سرية تعمل تحت الأرض أو جماعات محظورة «شبه علنية»، أو طلاب جامعات تملأهم الحماسة والروح الصدامية.

وتكشف أسماء أصحاب الدعاوى القضائية «ضد الحكومة» عن تلك النوعية الجديدة من رموز المعارضة، وعلى رأسهم السفير أمين يسري، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق مقيم دعوى وقف تصدير الغاز لإسرائيل، والذي دشن تحركه مفهوم «ملاحقة الحكومة قضائيا»، فأقيمت دعوى ضد أعمال التحصينات على الحدود بين مصر وغزة، وهو ما أطلق عليه إعلاميا دعوى وقف «الجدار العازل»، وشارك في إقامتها عدد من رموز التيارات السياسية المعارضة في البلاد، وكذلك دعوى إقصاء الحرس الجامعي عن الجامعات المصرية.

يرسم محمود المرينابي، المحامي بالإدارية العليا ومجلس الدولة، خريطة بطبيعة ونوعية أهم القضايا المطروحة على مجلس الدولة والتي تحظى أيضا باهتمام إعلامي. قال إن «قضايا المنع من السفر، والمطالبة بإلغاء قانون الطوارئ، وإحالة مدنيين إلى المحكمة العسكرية، والإشراف القضائي على الانتخابات، كانت أكثر هذه القضايا شهرة».

ويشير المرينابي كذلك لقضايا البيئة التي تنظرها محكمة القضاء الإداري، كقضية تلوث الهواء بفعل مصانع الإسمنت بمحافظة حلوان، حيث يقول إن «قضية تلوث محافظة حلوان أقيمت منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد أثبتت حالة التلوث بموجب تقارير من كليات العلوم، وجاء قرار المحكمة بنقل مصانع الإسمنت إلى الصحراء، لكنه قرار لم ينفذ على الرغم من حديث الحكومة عن حماية البيئة، مما جعلها تخصص لقضاياها حقيبة وزراية».

ويرى المرينابي أن معظم القرارات التي تصدر عن السلطة الإدارية مشوبة بالبطلان، على حدّ تعبيره، معتبرا أنها «قرارات مسيئة تخدم جهة واحدة تخضع لها السلطة الإدارية».

وأشار المرينابي إلى قيام محاكم القضاء الإداري التابعة لمجلس الدولة بإصدار أحكام تتعلق بالحقوق والحريات الدينية التي تهم فئات معينة من الشعب، مثل أحقية البهائيين في كتابة بهائي أمام خانة الديانة لهم في بطاقة الرقم القومي، وهو الحكم الذي التزمت به وزارة الداخلية المصرية ونفذته. وتعليق الفصل في دعاوى العائدين للمسيحية بتغيير ديانتهم من الإسلام إلى المسيحية في بطاقات الرقم القومي لحين فصل الدستورية العليا في الأمر.

ويوضح بقوله إن محكمة القضاء الإداري سبق أن أصدرت 4 أحكام بشأن العائدين للمسيحية، ما بين أحقيتهم في تغيير خانة ديانتهم من الإسلام إلى المسيحية، ثم حكم آخر قضى بعدم أحقيتهم في تعديل كلمة مسلم أمام خانة الديانة رغم عودتهم إلى ديانتهم المسيحية، وحكم آخر بإلزام وزارة الداخلية بكتابة مسيحي بدلا من مسلم للعائدين للمسيحية، مع الإشارة إلى من سبق إشهارهم للإسلام ورجوعهم عنه، وأخيرا الحكم الرابع والذي قضى بتعليق الفصل في هذه القضايا لحين فصل المحكمة الدستورية العليا في دستورية الفقرة الثانية من المادة «47» من قانون الأحوال الشخصية والتي تلزم مصلحة الأحوال المدنية بتغيير بيانات ديانة أي شخص بناء على شهادة من الجهة المختصة الأزهر أو الكنيسة.

على الجانب الآخر، يوضح المستشار حسن منصور، نائب رئيس محكمة النقض أنه «ليست كل الأحكام القضائية واجبة النفاذ، بل هناك أنواع متعددة من الأحكام القضائية يرجأ تنفيذها، لأنها لم تصبح نهائية، أي تم الاستشكال فيها، لوجود عقبة قانونية بعد صدور الحكم، أو أن يكون الحكم قابلا للطعن عليه في الدرجة الأعلى بدرجات التقاضي».

وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «بعض الأحكام تعتبر أحكاما تقريرية (أي تقرر حالة) وليس فيها إلزام، مثال زوجة رفعت دعوى طلاق على زوجها، وتم الحكم لها، لكنه غير ملزم للزوج، وهو ما يجعل البعض يتصور أن كل حكم صادر واجب النفاذ»، مشيرا إلى أنه «يتم تنفيذ الحكم، إذا كان واجب النفاذ وفيه إلزام».

وأوضح منصور أن أعلى درجات التقاضي هي محكمة النقض والإدارية العليا، وبحكم القانون لا يجوز الطعن على أحكامهما، وتسبق الحكم فيه عبارة «الحكم عنوان الحقيقة».

وأشار منصور إلى أن أي موظف عام في الدولة يعطل تنفيذ أي حكم حسب المادة 123 من قانون العقوبات يعاقب بالحبس والغرامة، لافتا إلى أنه ليس في مصلحة الدولة عدم احترام القضاء، لأن هيبة الدولة لن تتحقق إلا في سيادة القانون والأحكام القضائية، فالأحكام القضائية تعلو على أي اعتبار حتى لو كان النظام العام.. وهو ما حدث بالفعل حين قضت محكمة مصرية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعزل محافظ العاصمة، وحبسه لمدة عام واحد، وإلزامه بدفع تعويض مالي، لامتناعه عن تنفيذ حكم قضائي. وقالت المحكمة في أسباب حكمها بحبس وعزل المحافظ إنها ثبت لديها توافر أركان الجريمة في حق المحافظ، حيث تقاعس بصفته موظفا عاما عن أداء مهام وظيفته.

وأضافت المحكمة أن المحافظ لم يحترم سيادة الأحكام القضائية، ولم يسارع في تنفيذها، بل إنه سارع في تقديم طلب لإعادة فتح باب المرافعة بشأن تنفيذ الحكم بعد أن أصبح مهددا بتوقيع العقوبة عليه، مؤكدة أن العبرة في ذلك هي باحترام أحكام القضاء قبل التهديد أو التلويح بالعقاب.

وقد نجحت الحكومة في تجاوز هذا المأزق بإعلان محافظة القاهرة أنها قامت بتنفيذ حكم المحكمة بالفعل، لكنها تأخرت في إعلام هيئة المحكمة بتنفيذه، وهو ما يعني بطريقة ما سقوط التهمة عن المحافظ، وتفادي عزله.. وهكذا لا يزال باب الأحكام التي لم تنفذ مفتوحا كساحة متجددة للصراع بين القضاء والحكومة.