ألبانيا الكبرى.. حلم أم مشكلة؟

أبناء القومية الألبانية موزعون على كل دول البلقان ويأملون في إعادة توحدهم تحت مظلة الاتحاد الأوروبي

TT

تجري الانتخابات البرلمانية المبكرة في كوسوفو الأحد 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وملايين الألبان في جنوب صربيا، والجبل الأسود، ومقدونيا، واليونان، فضلا عن ألبانيا الأم، يمنون النفس بالمشاركة في انتخابات عامة يشارك فيها جميع الألبان في العالم، تحت علم وسيادة ألبانيا الأم. بل إن بعض الألبان الموزعين في المنطقة، وضعوا صناديق اقتراع مفترضة للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الكوسوفية المقبلة، في عملية رمزية تنم عن حنين دفين في أعماق لم تزدها السنون إلا اشتياقا للطفو على أرض الواقع.

وفي 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي يوافق «يوم العلم» في ألبانيا، رفع الألبان في جنوب صربيا والجبل الأسود، وكوسوفو، ومقدونيا، واليونان العلم الألباني على أسطح منازلهم، ولم تكن تلك ردود الفعل الوحيدة؛ بل شفعوها بتظاهرات ثقافية وسياسية متنوعة. وهذا أحد مظاهر الوحدة بين الألبان سياسيا وثقافيا، وعلى مختلف الصعد. ولا يخفي جميع الألبان في العالم هذه النزعة، ويفتخرون بذلك، بينما ينفي السياسيون في ألبانيا، أن يكونوا يسعون لإعادة بناء ألبانيا التاريخية، أي ألبانيا الأم. لكنهم يتشوقون لجمع شملهم من جديد تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعد فرصة لجميع الإثنيات في المنطقة، وليس للألبان فحسب، للعيش في فضاء واحد، من دون حواجز، وجمارك، وتأشيرات دخول، ورسوم إقامة. وتعتبر النزعة القومية لدى الألبان الأقوى في منطقة البلقان، لكونهم السكان الأصليين للمنطقة، بينما السلاف قدموا إليها في القرن التاسع، وبعض مؤرخيهم (السلاف) يشير إلى أن طلائعهم وصلت لغرب البلقان في القرن السابع.

ويعتقد جميع الألبان، أن قضية كوسوفو قضيتهم، لذلك يتحدث الألبان الموزعون على مساحة البلقان البالغة 728 ألف كيلومتر مربع، كما لو كانوا مواطنين يقيمون في كوسوفو، وأنه يجب أن يعيشوا في دولة واحدة.

وقال الباحث الألباني الدكتور منصور خليلي لـ«الشرق الأوسط»: «كنا نعيش في دولة واحدة حتى مؤتمر لندن المشؤوم في سنة 1913 على أثر حرب البلقان الأولى (1912 - 1913) حين تمت إعادة رسم حدود دول المنطقة، وتوزيع أجزاء من ألبانيا على الدول المجاورة، لكننا لم ننس أننا شعب واحد، وأننا تعرضنا لمظلمة تاريخية كبرى، زادت بدورها من شعورنا بأننا شعب واحد». وتابع: «جميع الألبان في المنطقة يشعرون الشعور نفسه، ولا يوجد شعب لديه من الوحدة والتلاحم والتعاطف كما بين الألبان». ويلقي خليلي باللائمة على العهد الشيوعي الذي عمل على إضعاف الروابط القومية والدينية للشعب الألباني.

لقد غذت قضية كوسوفو أشواق الألبان، وجمعتهم من جديد، ولو وجدانيا، على الأقل؛ إذ إن إمكاناتهم العسكرية والاقتصادية لا تسمح لهم بتحقيق الحلم التاريخي، والأوضاع العالمية والإقليمية تحول دون تجسده على أرض الواقع، مما يجعله رهين العقل الباطن إلى أمد بعيد، أو رهن توفر بديل متاح كالاتحاد الأوروبي. ويقول المحلل السياسي الصربي، نيبوشا ماليتش: «كوسوفو الكبرى ستقوم بالفعل، وليس ألبانيا الكبرى، لأن قدرة الكوسوفيين على ذلك أكبر». ويضيف أن «الكوسوفيين استطاعوا تحريك الألبان في العالم، وليس في المنطقة فحسب، لنصرة قضيتهم وتوحدهم من خلالها». لكن هذا الكلام يدخل في خانة التحريض ضد الألبان أكثر منه قراءة موضوعية للأحداث والواقع.

وكان قد اقتطع من ألبانيا 4 أقاليم، هي أجزاء من إقليم شكودرا الذي كان يمتد إلى مناطق هي اليوم جزء من الجبل الأسود، وأجزاء من إقليم مناستير، وقد اقتطعت منه أراض خصبة تمثل اليوم كومانوفو وتيتوفو وغيرها في مقدونيا، ثم كوسوفو، الجمهورية المستقلة اليوم، ويانينا التي ضمت إلى اليونان. وتزيد مساحة ألبانيا التاريخية، عن مائة ألف كيلومتر مربع، أي نحو 4 أضعاف مساحتها الحالية.

ويعود الحديث عن ألبانيا الكبرى إلى سنة 1999، بعد حرب كوسوفو، حيث أعربت جهات مختلفة عن مخاوفها من أن تصبح كوسوفو جزءا من ألبانيا، بعد طرد القوات الصربية منها عام 1999، مما حدا بوزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت إلى التحذير آنذاك من مغبة إعادة رسم خريطة البلقان على أسس عرقية، وقالت أثناء زيارة قصيرة للبلاد بعد حرب كوسوفو، إن «المجتمع الدولي لن يتسامح مع محاولات تأسيس ألبانيا الكبرى». وتحدثت وقتها نيابة عن الدول الأوروبية التي وافقت على مضض، على ضرب القوات الصربية. وكان رئيس الوزراء الألباني الحالي صالح بيريشا، قد دفع ثمن تطلعاته الألبانية، سنة 1997 عندما تم تأليب المعارضة ضده، وأسقطت حكومته، وقد تعلم الدرس.

الألبان لم يقفوا مكتوفي الأيدي، أو عاجزين أمام الرفض الغربي لتوحدهم؛ بل عملوا جاهدين على ربط أواصر الأخوة بينهم بالقدر المتاح، ومن ذلك الدعم السياسي الكبير لاستقلال كوسوفو، وحشد الدعم الدولي له في الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد الأوروبي، ومنطقة البلقان. ولا يمكن إجراء حديث مع مسؤول سياسي أو ديني ألباني في كل من مقدونيا، أو الجبل الأسود، أو صربيا، أو غيرها إلا ويتطرق لقضية كوسوفو، ويطلب دعمها دوليا.

وتعتبر الحركة الاقتصادية بين كوسوفو وألبانيا نشطة جدا، وازدادت وتيرتها بعد الاستقلال عام 2008، وكذلك بين كوسوفو وألبانيا من جهة وبقية الشتات الألباني في منطقة غرب البلقان، من جهة أخرى، حيث تعد السلع المنتجة في دولتي الألبان «مقدسة»، فهي مثل طعام الأعياد أو لباس الأعياد تحظى بفرح خاص وتقدير مميز. وفي نهاية 2009 دشن رئيسا وزراء كل من ألبانيا صالح بيريشا، وكوسوفو هاشم تاتشي، الطريق السريع الرابط بين تيرانا وبريشتينا، الذي يبلغ طوله 170 كيلومترا؛ منها نفق بطول 6.5 كيلومتر، وبذلك تختصر المسافة بين تيرانا وبريشتينا إلى 3 ساعات فقط. ويعد النفق من أطول الأنفاق على الطرق السريعة في منطقة غرب البلقان وأوروبا الشرقية. وفي حين اعتبر البعض الطريق السريع الذي بلغت تكلفته مليار يورو، عودة كوسوفو تدريجيا لحضن ألبانيا الأم عبر ما وصفوه بالمصافحة التاريخية من خلال الطريق السريع، أكد رئيس وزراء ألبانيا صالح بيريشا، 65 عاما، على أن «الطريق لجميع سكان المنطقة، وهي خطوة للأمام نحو الاندماج في أوروبا».

ويدعم الاتحاد الأوروبي هذا التوجه الألباني. فخلال الزيارة التي قام رئيس المجلس الأوروبي، هيرمان فان رومبوي، إلى تيرانا نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، طالب المسؤول الأوروبي بمواصلة الإصلاحات. وقال رومبوي الذي وصل إلى تيرانا في إطار جولة شملت البوسنة والجبل الأسود ومقدونيا وسلوفينيا إن «الاتحاد الأوروبي يدعم جهود ألبانيا من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي» وإن «التقدم على المسار الأوروبي، تقع المسؤولية الرئيسية فيه على القيادة السياسية في هذا البلد». ولم ينس الاتحاد الأوروبي كوسوفو في هذا الإطار، فقد ذكرت المقررة الأوروبية، الخاصة بالتأشيرات في الاتحاد الأوروبي، تانيا فايون، في وقت سابق من الشهر الماضي أن «هناك أخبارا سارة، لكوسوفو، بخصوص إلغاء فرض تأشيرة دخول مواطنيها لدول الاتحاد الأوروبي، حتى لا تبقى معزولة في المنطقة». وجاءت تصريحات فايون بعد لقائها في بريشتينا برئيس كوسوفو بالإنابة، يعقوب كراسنيتش. وتابعت: «التقدم الحاصل في منطقة غرب البلقان يحمل أخبارا سارة إلى كوسوفو، في الوقت المناسب». وحثت بدورها السلطات المحلية على مواصلة الإصلاحات وتلبية المعايير المطلوبة وفق المعايير الأوروبية قائلة: «إنها عملية طويلة وصعبة جدا، ولا بد من اعتماد كثير من الإصلاحات المهمة؛ ومنها أمن الحدود وجوازات السفر البيوميترية وخطوات أخرى تتعلق بمكافحة الجريمة والفساد».

ومن المتوقع أن يكون ألبان الجبل الأسود أول الألبان دخولا للاتحاد الأوروبي، وسينتظرون إخوانهم للحاق بهم. وهو ما قاله رئيس وزراء ألبانيا صالح بيريشا في حوار مع الصحيفة السويسرية الناطقة باللغة الألمانية «تاغ يسنتسيغر»، مشددا على ضرورة عدم المساس بالحدود القائمة، وأن استقرار وسلامة البلقان تقتضي عدم المس بالحدود الدولية في المنطقة بعد استقلال كوسوفو. وأشار بيريشا الذي اتهم في وقت سابق بتشجيع النزعات القومية والإسلامية إلى أن «تيرانا لا تدعم انضمام كوسوفو إلى ألبانيا» كما أن «استقلال كوسوفو هو نهاية تغيير الحدود في منطقة البلقان». وحول وحدة الألبان، أكد بيريشا على أن «انضمام المنطقة إلى الاتحاد الأوروبي سيجعل مختلف الشعوب تستشعر بأنها توحدت، قوميا وقاريا، ونحن سنشعر أيضا بأننا موحدون داخل المجتمع الأوروبي. لذا، نحن لسنا في حاجة إلى تغيير الحدود». وأوضح بيريشا أنه كان مع وحدة جميع الألبان في منطقة غرب البلقان، لكن الظروف تغيرت وأصبحت هناك آفاق أكبر. ويقول: «ولدت على الحدود بين ألبانيا وكوسوفو وعشت وأنا أحلم بوحدة الألبان. جميع المناطق الألبانية في البلقان. واليوم بإمكاني القول إننا في حاجة للتعاون بشكل وثيق مع جيراننا، وما يهمنا هو حرية التحرك وحرية التنقل وحرية مرور البضائع».

وحذر بيريشا من محاولات الانفصال في المنطقة، أو الحديث عن اتحاد ألبانيا وكوسوفو أو أي مجموعة عرقية وأغلبية في دولة أخرى، وقال إنها ستؤدي إلى صراعات جديدة. وأوضح: «أي شخص يتحدث عن انضمام كوسوفو إلى ألبانيا، أو يتحدث عن انفصالات عرقية معينة عن دولة قائمة في المنطقة بعد استقلال كوسوفو إنما يريد صراعا جديدا في البلقان».

وحول الألبان في مقدونيا، والجبل الأسود، وصربيا، أكد بيريشا على أهمية أن ينال الألبان في هذه الدول جميع حقوقهم، قائلا: «السكان الألبان في جنوب مقدونيا والجبل الأسود وجنوب صربيا يجب أن يعاملوا كمواطنين كاملي الحقوق بما في ذلك حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية». وكانت استطلاعات للرأي في كل من ألبانيا، وكوسوفو ومقدونيا قد أظهرت في الأسابيع القليلة الماضية أن أغلبية الألبان يؤيدون قيام دولة ألبانيا التاريخية. وأكد معهد «غالوب» الذي أجرى الاستطلاع أن 80 في المائة من ألبان كوسوفو يؤيدون قيام دولة ألبانيا الكبرى، وتنخفض هذه النسبة، حسب المصدر، في ألبانيا إلى، 62 في المائة، وأقل منها في مقدونيا بنسبة 51 في المائة. أما الوحدة بين ألبانيا وكوسوفو فقط، فقد أيدها 7.33 في المائة في ألبانيا، و2.29 في المائة فقط في كوسوفو، مما يعني أن طموحات الألبان كبيرة. ويرفض الألبان اسم (ألبانيا الكبرى) ويستعيضون عنه باسم «ألبانيا الطبيعية» كما يؤيد ألبان جنوب صربيا عملية تبادل الأراضي، بين كوسوفو وصربيا بحيث تضم الأقاليم الألبانية الثلاثة في جنوب صربيا إلى كوسوفو مقابل انضمام مناطق في شمال كوسوفو إلى صربيا، وذلك زحفا نحو الأمل. بيد أنه لا يوجد توافق بين بلغراد وبريشتينا حول هذه القضية، كما أن هناك صمتا دوليا حيال المسألة المثيرة للجدل.