موسكو.. بين نارين

مواجهات محتدمة بين متطرفين قوميين ينادون بشعارات «روسيا للروس».. وأبناء القوقاز الوافدين

الشرطة الروسية تشتبك مع متطرفين يمينيين خلال مظاهرة في موسكو السبت الماضي (رويترز)
TT

سقطت موسكو فريسة للنزاعات القومية والعنصرية، بعد انتشار الجماعات المتطرفة التي تنادي بطرد الوافدين من أبناء القوقاز وآسيا الوسطى. ودفعت العاصمة الروسية الثمن عاليا نتيجة سياسات المهادنة التي انتهجتها تجاه التيارات القومية.. وغض الطرف عن هموم الكثيرين من أبناء الجمهوريات الجنوبية في شمال القوقاز. ولفترة قصيرة، استكانت سلطات موسكو للواقع الذي يقول بتراجع النزعات الانفصالية والتوجهات القومية المتطرفة، وإن ظل هذا التيار مفعما بنذر مواجهة على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في هذه المناطق التي نزح أهلها عنها، بحثا عن الرزق في المدن المتخمة بالخير الوفير. ورغم أن موسكو حققت بعض النجاح على صعيد الحد من العمليات الإرهابية التي تواصلت لسنوات طوال، لكنها عادت لتكون ساحة لمواجهات تهدد وحدة وأمن وسلامة الوطن والمواطن.

وما شهدته العاصمة موسكو خلال الأيام القليلة الماضية من مواجهات، لم يكن إلا مجرد مقدمة لقادم أسوأ.. فالسبت الماضي خرج الألوف من مشجعي نادي سبارتاك، وقد اندس بينهم كثيرون من القوميين المتطرفين رافعين شعارات عنصرية، منها «روسيا للروس فقط» و«اخرجوا من بلادنا»، في إشارة إلى أبناء القوقاز وآسيا الوسطى الوافدين إلى موسكو. وكان هؤلاء داهموا ساحة «مانيج» القريبة من الكرملين، احتجاجا على ما وصفوه بتقصير الأجهزة الأمنية في اعتقال ومعاقبة المتهمين بقتل زميلهم يجور سفيريدوف في مواجهة مع عدد من القوقازيين.

وسير «المتعصبون» مظاهرة لم تصرح بها السلطات، وقاموا بمهاجمة ثلاثة من أبناء منطقة القوقاز صادفوهم على مقربة من المكان ليوسعوهم ضربا وركلا بالأقدام. وهنا اشتعلت النيران واندلعت مواجهة سقط فيها جرحى كثيرون بينهم عدد من رجال الأمن إثر إلقاء المتظاهرين للحجارة والكتل الجليدية والزجاجات الفارغة على قوات الشرطة التي استخدمت الهراوات والغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين، فيما اعتقلت ما يزيد عن ستين سرعان ما أفرجت عنهم. ونجحت الشرطة وقوات الأمن المركزي في الحيلولة دون انتقال الشغب إلى الميدان الأحمر وحديقة ألكسندر المجاورة للكرملين، حيث «مقبرة الجندي المجهول» قبل نزولهم إلى مترو الأنفاق ليواصلوا مسيرة الفوضى والشغب، فيما تناقلت الألسنة أخبارا تقول بمقتل آخرين من الجانبين. وسارع الرئيس ميدفيديف بمباركة تصرفات الشرطة التي قال إنها لم تتجاوز القانون، فيما حذر من أية أعمال شغب، مؤكدا أن الشرطة ستواجه أي مظاهرات بقبضة حديدية. ورد الطرف الآخر ببيانات عبر الإنترنت تدعو للتجمهر مرة أخرى (أول من أمس) للرد على موقعة «مانيج» مما زاد من سخونة الأوضاع. وتحمل المواجهة الجديدة شعارات تدعو إلى الانتقام من «آكلي الخنازير» يحملها أبناء القوقاز، و«روسيا للروس فقط» و«طهروا العاصمة من ذوي السحنات القوقازية» من جانب القوميين المتطرفين. وتواترت الأنباء حول تحركات محمومة للقوقازيين بوصول حافلات محملة بممثلي القوميات القوقازية من مختلف الجمهوريات الجنوبية لشد أزر أشقائهم في العاصمة، في مواجهة السلافيين. وتشير الأنباء إلى وصول عشرة آلاف من القوقازيين حسب مواقع الإنترنت، تم تحديد مسار تحركاتهم وخطة العمل وتوزيع القوات خلال المواجهة وكأنها معركة حربية مصيرية. وأعرب كثير من المراقبين عن مخاوفهم من اتساع نطاق الأعمال التخريبية والنزعات الشوفينية في روسيا بما يهدد أمن ووحدة الدولة المتعددة القوميات. وتدفقت في المقابل قوات الأمن لتأمين الأماكن التي توقعت حدوث مواجهات فيها ومنها «ميدان أوروبا» على مقربة من محطة سكة حديد «كييف» غير بعيد عن مقر الحكومة الروسية، ووزارة الخارجية على ضفاف نهر موسكو. ورغما عن كل ذلك فقد وقعت الواقعة وشهدت ساحة أوروبا عددا من الشجارات التي نشبت بين الشباب من أصول سلافية وأشقائهم من ذوي الملامح القوقازية، مما دفع الشرطة إلى اعتقال ما يزيد عن ألف متظاهر، قال شهود عيان إن معظمهم من ذوي الملامح القوقازية.

وقد تزايد عدد «النقاط الساخنة» بشكل لافت في مختلف أرجاء المدينة التي تدفقت عليها قوات الأمن وانتشرت في شوارعها الجانبية، ولا سيما في وسط المدينة. وكانت المصادر الرسمية اعترفت بفداحة المشكلة التي قالوا إنها تهدد الأمن القومي وتنذر بما لا يحمد عقباه بالنسبة لسلامة ووحدة وأمن واستقرار الوطن المتعدد الأعراق والقوميات، وهو اعتراف جاء متأخرا كثيرا تحت وطأة تصاعد المشكلة والخوف من احتمالات الانفجار واسع النطاق الذي بات وشيكا وأقرب من أي وقت مضى، بعد أن تعالت أصوات الاتهام لأوساط النخبة السياسية التي أشاروا إلى أنها تحاول تسخير النزعات والتوجهات العنصرية لخدمة مصالح آنية ضيقة.

لم يكن ما شهدته موسكو من مواجهات دموية ظاهرة عارضة، كانت كل النذر تقول بخطأ السياسات وعدم عقلانية إطلاق العنان للمشاعر القومية، وغض الطرف عن ممارسات شباب الحزب الحاكم ممن تدثروا بلحاف السلطة واستمتعوا بدفء الامتيازات التي يرفلون بها جزاء مواجهتهم لخصومها وهم الذين «تراقصوا طربا» تحت وقع نداءات فلاديسلاف سوركوف النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين الذي طالبهم منذ أيام قلائل بالاستعداد للانتخابات المرتقبة بتنمية «عقولهم وعضلاتهم».

لم يكن نشاط من يسمونهم بالقوميين بعيدا عن رؤى الأجهزة الأمنية، وهي التي طالما غضت الطرف عن اعتداءاتهم ضد الوافدين الأجانب، ومنهم أبناء الوطن الواحد من ذوي البشرة السمراء أو الملامح القوقازية على حد تعبير يوري لوجكوف عمدة موسكو السابق الذي كان حتى الأمس القريب من نجوم وقيادات الحزب والدولة. ويذكر المراقبون كثيرا من ملامح الحملات الانتخابية التي جرت في روسيا طوال العقدين الماضيين، وكانت الشعارات القومية وإعلاء مكانة وهيبة روسيا هي القاسم المشترك لكل الأحزاب والقوى السياسية المشاركة فيها، فضلا عن التطرف القومي الروسي الذي تصدر المشهد في مقدمة الظواهر التي طالما قضّت مضاجع الوطن والمواطن.

وكان الرئيس ديمتري ميدفيديف قد سارع يوم السبت الماضي بعقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن القومي، إثر مداهمة المتعصبين للساحة المجاورة للكرملين والميدان الأحمر واشتعال الشغب والفوضى واندلاع المواجهة مع قوات الشرطة والأمن المركزي التي هرعت لفض المظاهرة وتفريق المتظاهرين. وحذر عدد من الخبراء والمراقبين من إغفال السلطات الرسمية للرقابة ضد التنظيمات القومية المتطرفة وتركيزها على متابعة التنظيمات السياسية المعارضة. وقال مراد غيلمان عضو الجمعية الاجتماعية التي شكلها الكرملين من الشخصيات الأبرز في الساحة الروسية وممثلي المنظمات الاجتماعية والثقافية والإعلامية والدينية إن الأخطر فيما تشهده روسيا من تطورات وأحداث يكمن في أن ظاهرة «البوجروم» وهي المداهمات التي طالما عانى منها اليهود في القرن التاسع عشر في الإمبراطورية الروسية صار في الإمكان تكرارها. وأشار إلى أن هناك من يتصور أنه غدا قادرا على إنزال العقاب بالآخرين دون محاكمة، على ضوء ما يتسم به موقف الدولة من ضعف في مواجهة مثل هذه النزعات والتوجهات. وقد حذرت السلطات الأمنية من اندلاع الحرب والشعارات المتطرفة التي أغرقت مواقع الإنترنت تدعو إلى المواجهة.