75 عاما على تأسيس «الكتائب».. الحزب المسيحي الأكبر سنا في لبنان

تحول من مطالبته بالفيدرالية إلى اللامركزية الموسعة.. ومن «المقاومة المسلحة» إلى المطالبة بنزع السلاح خارج سلطة الدولة

TT

مرّت ثلاثة أرباع قرن على تأسيس حزب الكتائب، من بيار الجميل الأب إلى أمين الجميل الابن، 75 عاما عايش خلالها الحزب المسيحي الأبرز في الفترة الماضية التاريخ اللبناني الحديث ليشيخ مع من شاخوا مناضلا للبقاء، متمسكا بمبادئه العامة ومنقلبا على سياسة طبعها العنف في زمن الحرب ليرفع الراية البيضاء اليوم في زمن السلاح.

«بعد 75 سنة ستكون (الكتائب) هنا، كموج البحر وكفصول السنة، أجيالا تخلف أجيالا وأفواجا تعقب أفواجا». هكذا أطلق رئيس حزب الكتائب أمين الجميل سنة اليوبيل الماسي من عمر الحزب، كله ثقة أن «الكتائب ستبقى لتشهد على قيام الدولة في لبنان»، هو أعلنها صراحة: «إن حزب الكتائب يقدِّم، لا سياسة جديدة تنسجم مع تطور الوضع اللبناني والمسيحي فقط، بل مفهوما جديدا للسياسة ينسجم مع تطور الإنسان وحاجة المجتمعات الحديثة» داعيا للحياد الإيجابي، من دون أن يعني تنصلا من الانتماء العربي وقضايا الحق، لاعتماد العلمنة المؤمنة من دون أن تعني الابتعاد عن قيم الأديان وتعاليمها، والسعي لإحلال اللامركزية الموسعة، من دون أن تعني «كانتونات» ذاتية.

وقف أمين الجميل في احتفال حاشد منذ أيام ليخط، وبالأحمر العريض، أهداف الحزب في المرحلة المقبلة، مبادئه، واستراتيجية عمله؛ فسياسة الحزب تغيرت مع المتغيرات وتأقلمت مع المستجدات، فـ«الكتائب» الحزب اللبناني المسيحي الأكبر سنا، هو الحزب الوحيد لبنانيا الذي خرّج رئيسي جمهورية، تأسس في خريف عام 1936، على يدي بيار الجميل الذي أعجب آنذاك بانضباط الأحزاب الاشتراكية في برلين، مما دفعه إلى تأسيس حزب الكتائب وفقا لهذه الانضباطية بعد عودته إلى لبنان.

الحزب الذي تأسس في زمن الانتداب الفرنسي انطلق كحركة استقلالية أسهمت إلى حد بعيد في إنجاز استقلال 1943 من خلال الضغط الشعبي الذي لعب حزب الكتائب دورا كبيرا في التحضير له، والذي كان العامل الأبرز في تحقيق الاستقلال. وكانت زوجة مؤسس الحزب بيار الجميل من النساء اللواتي خطن أول علم لبناني.

يقول نائب رئيس حزب الكتائب، سجعان قزي، لـ«الشرق الأوسط» إن «الحزب انطلق في بيئة كثرت فيها الأحزاب والتكتلات السياسية التقليدية التي تتصارع على السلطة، مساهمة في انقسام البلد الذي كان الانتداب المستفيد الأول والأخير منه، بهدف إطالة أمد وجوده»، ويضيف: «لا ننسى أن الحزب قام في خضم ظاهرة الأحزاب المرتكزة على الشبيبة في أوروبا وعلى التنشئة شبه العسكرية، ولا شك أنه تأثر بها وقام على كثير من أسسها».

ويلخص الكتائبيون المراحل الأساسية في تاريخهم الحزبي وفق 9 تواريخ مصيرية؛ فبعد استقلال 1943، تصدى الحزب في عام 1958، بالتعاون مع حلفائه لما سموه «محاولة الانقلاب على الدولة اللبنانية والنظام اللبناني من قبل الجمهورية العربية المتحدة، التي كان يتزعمها جمال عبد الناصر، ونجح في الإبقاء على هوية لبنان واستقلاله».

وفي عام 1969 رفض حزب الكتائب اتفاقية القاهرة التي أتاحت للفلسطينيين استعمال جنوب لبنان للقيام بعمليات عسكرية على إسرائيل، وسمي الجنوب اللبناني في وقتها «فتح لاند». ولا ينكر القادة الكتائبيون أنّهم، في عام 1975، تصدوا عسكريا لمواجهة الفلسطينيين المتواجدين في لبنان إذ يعتبرون أنه وفي تلك الفترة، «تعرضت الدولة اللبنانية والكيان اللبناني لأخطر تهديد في التاريخ الحديث، حيث حاولت منظمة التحرير الفلسطينية السيطرة على لبنان وتحويله إلى وطن بديل للفلسطينيين؛ فتصدت الكتائب لهم عسكريا بعد فشل الدولة في الدفاع عن نفسها، وخاضت الكتائب أشرس المعارك، حيث سقط لها آلاف الشهداء، ومنعت مشروع توطينهم في لبنان».

ويشكل عام 1982 تاريخا أسود بالنسبة للكتائب؛ إذ اغتيل خلاله «قائد المقاومة اللبنانية» الرئيس اللبناني المنتخب، بشير الجميل، على أيدي أحد عناصر الحزب القومي السوري، الذي فجر مقر الكتائب الذي كان يتواجد فيه بشير فانتخب الرئيس أمين الجميل، شقيقه، رئيسا للجمهورية خلفا له.

وفي فترة الثمانينات خاضت الكتائب «معارك ضارية ضد القوات السورية التي كانت قد احتلت أجزاء كبيرة من لبنان، وسقط لها أيضا آلاف الشهداء»، حتى عام 1990 حين بسطت القوات السورية سيطرتها على كامل الأراضي اللبناني، ولمدة 15 عاما، نفى خلالها الرئيس أمين الجميّل إلى فرنسا، وصولا للعام 2005، حيث يشدد الكتائبيون على أنهم شاركوا، وبشكل فاعل وقوي، «بثورة الشعب اللبناني ضد الاحتلال السوري، وسميت (ثورة الأرز)، وكان بيار الجميل نجل أمين الجميل من أكثر الفاعلين على الأرض لإنجاح هذه الثورة التي حررت لبنان من جديد من الاحتلال، فكان الاستقلال الثاني».

وفي عام 2006 أطلقت الرصاصة القاتلة في كيان الحزب مستهدفة وزير الصناعة في حينها، بيار الجميل، الذي كان يواكب شخصيا نهضة «الكتائب»، وتوالت النكسات مع استهداف نائب الحزب أنطوان غانم. ويؤخذ على الحزب عداؤه الدائم للفلسطيني بعد المجازر المتبادلة التي أقدم عليها الطرفان في الحرب، كما يؤخذ عليه تعامله مع إسرائيل في فترة من الفترات، ودعوة قائده بشير الجميل للفيدرالية، مما يعتبره البعض تقسيما مبطنا.

هنا يقول عضو المكتب السياسي، جوزيف أبو خليل، الذي عايش قسما كبيرا من التاريخ الكتائبي: «نحن لم نشجع يوما العداء للفلسطيني، إلا أنه وفي الأعوام 1968 حتى 1975 كان من المستحيل التفاهم معه لاعتماده مبدأ العمل الفدائي المسلح، مما أدى لتفكك البلد وسقوط الدولة وانحلال الجيش. وبعد سلسلة حوادث واعتداءات علينا، وكنا حينها الحزب الأبرز والأقوى، كان لا بد لنا من التصدي لفوضى السلاح، فوقفنا وقفة معترضة»، ويضيف: «موقفنا كان دائما واضحا بما خص القضية الفلسطينية، وهو إلى جانب الفلسطينيين؛ فوجود إسرائيل كارثة على شعبها؛ فكيف على شعوب المنطقة. عمدوا إلى تشويه صورتنا ووضعنا في خانة الساعين لضرب القضية الفلسطينية، إلا أننا لم ننفك نعلن أن الحرب وقت شاذ، وكل ما فعلناه حينها هو الدفاع عن الكيان».

ولا ينكر سجعان قزي أنه، وفي وقت من الأوقات خلال الحرب، «تم طرح فكرة الفيدرالية لأن حينها كانت قد سقطت صيغة العيش المشترك، ففضل اللبناني المسلم الوقوف إلى جانب الفلسطيني على الوقوف بجانب شريكه في الوطن». ويقول قزي: «اليوم مطلبنا اللامركزية الموسعة بإطار تعزيز الميثاق اللبناني، وهو نظام يقوم على إناطة السلطات بالمحافظات، وليس فيدرالية مقنعة كما يحاول البعض أن يشيع. فللفيدرالية أسسها المعروفة. نحن لم ولن نفرض يوما لا الفيدرالية ولا سواها بالقوة، بل ندعو لمؤتمر وطني للبحث في النظام الأمثل اعتماده لبنانيا».

ويرد قزي التعامل مع إسرائيل في عام 1967 بالقول «إن المسيحيين كانوا معرضين لحرب إبادة» آنذاك، ويضيف: «لم يكن التعامل مع إسرائيل خيارا بل اضطرارا. فعندما تتعرض مجموعة ما للإبادة يتيح لها القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان تقبل المساعدة من أي طرف أتت هذه المساعدة».

وتتلخص رؤية حزب الكتائب: «لتحقيق السلام في لبنان، بتحقيق نظام تعددي جديد يحفظ الصيغة التعددية للمجتمع اللبناني، التخلص من كل السلاح غير الشرعي المتواجد مع الكثير من الأطراف اللبنانية، منها حزب الله والمخيمات الفلسطينية وبعض السلفيين، رفض التوطين الفلسطيني والعمل على منع حصوله، المحافظة على الوجود المسيحي الحر في لبنان».

ويوضح الكتائبيون أنهم وتحت هذه العناوين يخوضون «معركة قاسية بوجه حزب الله الذي يحاول بقوة السلاح الخارج عن إطار الدولة فرض ثقافته على المجتمع اللبناني، ضاربا عرض الحائط بخصوصيته التعددية التي يمتاز بها، ويحاول تحويل لبنان من بلد آمن مستقر مؤمن بثقافة السلام والانفتاح على دول العالم إلى بلد مواجهة ومقاومة، إلى بلد الانعزال المعتمد على ثقافة الموت والجهاد والاستشهاد».