ساحل العاج.. أزمة حلها بـ«الشوكولاته»

صراع جديد يشتعل بين رئيس يرفض التنحي وآخر فاز بالانتخابات ويحظى بدعم دولي

مؤيدون لغباغبو في ساحل العاج خلال مظاهرة بالعاصمة أبيدجان (رويترز)
TT

آخر أخبار ساحل العاج هي أن الرئيس لوران غباغبو، الذي سقط في انتخابات الولاية الثانية أمام الحسن وتارا، لا يزال يرفض التخلي عن منصبه. وذلك على الرغم من أن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي، وربما كل المجتمع الدولي، يعترفون بأن الحسن وتارا هو الذي فاز في الانتخابات.

آخر وساطة، بعد وساطة ثامبو امبيكي، رئيس جنوب أفريقيا السابق، كانت وساطة ثلاثة من رؤساء المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (خمس عشرة دولة) التي تضم ساحل العاج.

ذهب الثلاثة إلى أبيدجان، عاصمة ساحل العاج، وقابلوا الرئيس الشرعي والرئيس السابق الرافض غباغبو. غباغبو بقي مصرا على عدم التنازل عن منصبه. ولم يكتف بذلك، بل هدد الوفد باستعمال القوة. لكن، ربما لن تستعمل القوة لأن أحدا لا يريدها. ولأن جوناثان غودلاك، رئيس نيجريا، ورئيس الوفد الثلاثي الأفريقي، قال: «عندما يحصل نزاع، فإن الحوار يحل كل الخلافات، وهذا الحوار لا يزال مستمرا».

في الأسبوع الماضي، نقل موفد صحيفة «نيويورك تايمز» إلى ساحل العاج الصورة المتناقضة للصراع: في جانب، هناك الرئيس الفائز الحسن وتارا في فندق تحيط به قوات الأمم المتحدة لتحرسه، وفي جانب القصر الرئاسي العملاق، وفيه الرئيس المنهزم غباغبو، وتحرسه القوات المسلحة التي تؤيده، وأيضا، تؤيده الشرطة، وعدد كبير من المواطنين في العاصمة أبيدجان في جنوب البلاد، حيث يكثر عدد مؤيديه، بينما يكثر مؤيدو الحسن وتارا في الشمال.

لسنوات ظلوا يسمون غباغبو «لا بولانجيه» (الخباز)، لأنه مشهور باللعب على مؤيديه ومعارضيه، و«مرمغتهم»، وتطويعهم، والانتصار عليهم، مثلما «يمرمغ» الخباز قطع العجين في الدقيق، ويطوعها، ويخبزها، ويأكلها. ربما لهذا كتب مراسل «نيويورك تايمز»: «على الرغم من العقوبات والضغوط على غباغبو، يظل صامدا».

في الجانب الآخر، لم يقدر الحسن وتارا حتى على تنفيذ إضراب عام في البلاد لإجبار منافسه على التنحي. من حي كوكودي الراقي في شمال أبيدجان، إلى حي تريشفيل الشعبي في الجنوب، كانت الحركة عادية. زحمة سيارات وضجيج ومتاجر مفتوحة. وفي سوق كوماسي الشعبية في قلب العاصمة، بسط التجار السلع، وانشغل الناس وهم يشترون ويأكلون ويشربون ويعيشون حيث المعيشة صعبة في هذا البلد، وكأنهم في عالم آخر.

في الأسبوع الماضي، دعا الرئيس الجديد الحسن وتارا إلى العصيان المدني، لكن مثل الإضراب العام، لم ينفذ. لسوء حظ الحسن وتارا (الشمالي)، العاصمة أبيدجان تقع في جنوب البلاد، حيث أنصار غباغبو (الجنوبي). لكن، في بواكي، في الشمال، معقل التمرد السابق المناصر للحسن وتارا، لقيت الدعوة إلى الإضراب استجابة، وأغلقت الأسواق والمصارف أبوابها. وقال الدكتور مايكل ماكغفورن، أستاذ السياسة الأفريقية في جامعة ييل، إن التهديد العسكري، والإضراب السياسي والعصيان المدني ربما لن يهزموا غباغبو، وأن «الشوكولاته هي الحل».

هذه إشارة إلى ثروة ساحل العاج الأولى: أشجار الكاكاو، التي يسيطر عليها غباغبو وحلفاؤه من التجار والسياسيين وأصحاب البنوك وشركات التأمين، الذين ظلوا يسيطرون على ساحل العاج لأكثر من عشر سنوات؛ فالكاكاو واحد من أغلى منتجات أفريقيا، ومنه تصنع الشوكولاته، واحدة من أكثر المأكولات والمشروبات الغربية ترفا. وساحل العاج أكبر منتج في العالم للكاكاو. وأيضا تنتج كميات كبيرة من القهوة.

وقال دبلوماسي غربي بارز في ساحل العاج إن غباغبو وحلفاءه من السياسيين والأغنياء، اشتروا قصورا في فرنسا، وجمعوا أرصدة في بنوك سويسرية من ثروة الكاكاو والقهوة. هو يستفيد منهم، وهم يستفيدون منه. وقال الدبلوماسي الغربي: «هذا تحول عملاق بالنسبة إلى صبي فقير من قرية ريفية كان منتهى طموحه هو مهنة التدريس». وقال الدبلوماسي السويدي المخضرم بيير شوري: «في أفريقيا عندما تكون رئيسا فقد حصلت على كل شيء. وعندما لا تكون رئيسا لن يكون معك أي شيء».

ليس غباغبو أول رئيس في القارة الأفريقية يرفض نتائج الانتخابات ويبقى داخل القصر الرئاسي، ولكن هذه المرة نجد زعماء أفارقة متحدين، ويتحدثون على غير عادة، ويريدون منه أن يتنحى ويقبل نتيجة الانتخابات. ويعد هذا تحولا بارزا لأنهم كانوا مترددين في إدانة رئيس زيمبابوي روبرت موغابي، الذي رفض الاستقالة بعد انتخابات مشكوك في نتائجها خلال 2008.

لكن، في حالة ساحل العاج، هناك اختلافان: أولا، لا يظهر غباغبو كبطل شارك في النضال ضد الاستعمار، كما فعل موغابي، ولذا لا يكن الزعماء الأفارقة احتراما خاصا له. ثانيا: غباغبو محسوب على فرنسا التي تميل دائما نحو حماية الأفارقة في الدول التي كانت تستعمرها. وهذه واحدة من المرات النادرة التي تخيب فرنسا أمل زعيم أفريقي (فرنسي)، عكس بريطانيا التي، في أغلب الأحيان، تركز على الديمقراطية في مستعمراتها السابقة.

ومع تفاقم المشكلة في ساحل العاج، كشفت وثائق «ويكيليكس» رسالة من السفارة الأميركية هناك في يوليو (تموز) سنة 2009، قالت الآتي: «لن تكون هناك انتخابات ما لم يكن الرئيس غباغبو واثقا من الفوز بها». وأشارت إلى شعارات يرفعها أنصاره، تقول: «سنفوز أو سنفوز». هذا عن غباغبو، ماذا عن الحسن وتارا؟

على عكس «المدرس»، وتارا دبلوماسي. وعلى عكس الفساد، وتارا سمعته نظيفة تقريبا. وعلى عكس الانغلاق داخل الوطن، وتارا كان موظفا كبيرا في البنك الدولي. وعكس ثروة الشوكولاته والقهوة، يتندر الأميركيون الذين يعرفون الحسن منذ أن كان هنا، ويؤيدونه، ويتابعون نضاله بعد أن عاد إلى وطنه، يقولون إنه من «حزب الشاي». هذه إشارة إلى «حزب الشاي» الأميركي (الجناح اليميني في الحزب الجمهوري).

وعلى الرغم من أن الحسن وتارا ليبرالي ومنفتح، فإن القصد هو المقارنة بين جناحين في السياسة المعقدة في الدول الأفريقية، التي لا تقدر أغلبية الأميركيين على متابعتها، هذا إذا كانت تتابعها حقيقة.

لكن، أكثر من أي شيء، يصف الأميركيون الحسن وتارا بأنه «الأميركي»، في مواجهة «الفرنسي»، وذلك لأن الأول درس في جامعات فرنسية، بينما درس الثاني في جامعات أميركية. حصل على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا العريقة.

ماذا عن الخلفية التاريخية للصراع بين الرجلين؟ إنها خلفية صراع يستمر لأكثر من ألف سنة، منذ أن بدأ الإسلام يدخل أفريقيا جنوب الصحراء.

ساحل العاج تقع على شريط التماس الذي يمتد من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي. من الصومال شرقا، عبر إثيوبيا والسودان وتشاد وأفريقيا الوسطي، ونيجريا، وغانا، وساحل العاج، إلى غينيا وسيراليون وليبيريا، على المحيط الأطلسي.

دخل الإسلام ساحل العاج قبل أن تدخلها فرنسا (وتدخل دولا مجاورة مثل: النيجر وأفريقيا الوسطي وتشاد وفولتا العليا)، وتعمل ليلا ونهارا على فرنستها، لغة وثقافة ودينا لو أمكن. لكن، عندما لم تقدر فرنسا على تغيير دين وثقافة المسلمين في المناطق الشمالية، ركزت على غير المسلمين في المناطق الجنوبية. لكنها، على أي حال، نجحت في فرنسة محدودة تتمثل في اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية وطموح السفر إلى، أو العيش في، فرنسا.

لهذا، مثل كثير من دول خط التماس بين أفريقيا والإسلام، ظهرت في ساحل العاج مشكلة الهوية: مزدوجة؟ متناقضة؟ منفصمة؟ مطمئنة؟ حتى اسم «كوت ديفوار» الفرنسي (ساحل العاج)، ظل النقاش يدور حوله. وقبل سنوات قليلة، أصدرت الحكومة أمرا قالت فيه إن اسم البلاد «كوتديفوار»، من دون فاصل، وكأنها تريد خلق كلمة جديدة غير الكلمة الفرنسية.

حتى اليوم، في حين أن اسم البلد في الأمم المتحدة هو «أيفوري كوست» (ساحل العاج باللغة الإنجليزية)، فإن اسمها في فرنسا والولايات المتحدة «كوت ديفوار» الفرنسي.

وتقسم الخارجية الأميركية بين الاسمين الرسائل الرسمية أو المعاملات الشخصية. وبينما للجنة الأولمبية العالمية اسم «ساحل العاج»، فإن هناك اسما آخر في «فيفا» (الاتحاد الدولي لكرة القدم)، الذي تشتهر فيه البلد بسبب قوة منتخبها في هذه الرياضة.

في وقت مبكر من العصر الروماني، شهدت كل المنطقة تجارة القوافل عبر الصحراء في الملح والعبيد والذهب والسلع الأخرى، وعلى حافة الغابات الاستوائية. وعندما بدأت قوافل المسلمين، اشتهرت محطات مثل غاو وتمبكتو في الغرب، حتى أنجمينا في الشرق، في ما عرف بالحزام السوداني، الذي امتد من نهر النيل عبر نهر النيجر إلى نهر السنغال، على المحيط الهادي. وأصبحت هذه مراكز التعليم الإسلامية، وساعدت على إدخال الإسلام إلى الحزام السوداني. لكن، بقي جنوب ساحل العاج، وجنوب غانا، وجنوب نيجريا، وجنوب تشاد، وجنوب السودان.

وعلى الرغم من أن بريطانيا وفرنسا استعمرتا كل دول الحزام السوداني، ركزتا على الجزء الجنوبي منه، مثلما حدث في جنوب ساحل العاج.

مع موجة الاستقلال قبل نصف قرن تقريبا، ومثلما قاد ثورة السنغال (حيث الأغلبية مسلمة) مسيحي متفرنس هو ليوبولد سنغور، قاد ثورة ساحل العاج (حيث ثلث السكان مسلمون) مسيحي متفرنس هو فيلكيس بوانيي. ومثلما مجد سنغور «نيغروتيود» (الزنجية)، وأهمل الانتماء الديني، سواء الإسلام أو المسيحية، فعل الثاني الشيء نفسه. وهكذا، في البلدين، ظهرت تناقضات ومشكلات هوية. لكنها، في السنغال، هدأت عندما صارت الأغلبية المسلمة تحكم (كل الرؤساء بعد شاعر الزنجية سنغور مسلمون)، لكنها لم تهدأ في ساحل العاج، لأن المسلمين ليسوا أغلبية، لكنهم أقلية كبيرة.

في سنة 1995، بعد وفاة بوانيي، خلفه مسيحي متفرنس، وسط عدم رضا من جانب المسلمين في الشمال، وفي سنة 1999، وقع انقلاب عسكري غلب عليه الطابع المسيحي المتفرنس.

وفي انتخابات سنة 2002، بعد عودة الديمقراطية، فاز مسيحي متفرنس، أيضا وسط عدم رضا من الشماليين المسلمين. وكان هذا هو غباغبو «الجنوبي». الذي فاز مرة أخرى سنة 2006، وسط عدم رضا من الشماليين المسلمين، الذين طفح غضبهم هذه المرة، وأعلنوا حربا أهلية استمرت ثلاث سنوات.

وعندما ظهر الحسن وتارا منافسا، شك خصمه في ما إذا كان وطنيا، وقال إنه ينتمي إلى «قبائل الشمال المهاجرة»، لكن، لحسن حظ المسلمين في الشمال، أيدت الولايات المتحدة «الأميركي» الحسن وتارا، عكس فرنسا التي أيدت «الفرنسي» غباغبو.

على أي حال، لم تتوقف الحرب الأهلية إلا عندما تدخلت الأمم المتحدة. وهي التي أشرفت على انتخابات هذا الشهر، التي فاز فيها الحسن «الشمالي»، حلقة جديدة في حلقات عمرها أكثر من ألف سنة، في صراع مستمر على خط التماس بين الإسلام وأفريقيا جنوب الصحراء.