إسكندرية.. ليه؟

ذكريات الخمسينات والستينات من مدينة محطاتها تحكي تاريخها

TT

في زيارتي الأخيرة لمصر للمشاركة في مهرجان الإعلام (21 - 24 ديسمبر/ كانون الأول) انتصر عقلي على قلبي في المعركة المتكررة بينهما في كل زيارة؛ هل أذهب للإسكندرية مسقط رأسي وأذرف الدمع على ما بقى متناثرا فيها من ذكريات الطفولة وما فقدته الأسرة، أم أكتفي بمخدر الذكرى؟

عقلي فضل تجنب رؤية التشويه الذي أصاب عروس البحر المتوسط، كملكة جمال ألقى مخبول ماء النار على وجهها. ومثل نهاية كل زيارة، أفيق على صوت الطيار بعد نصف ساعة من الإقلاع بأننا نحلق فوق الإسكندرية. وتلتوي الأعناق نحو النوافذ لمشاهدة المدينة الأشهر وعاصمة الثقافة والحضارة العالمية في الفترة الهيلينية (323 - 146 قبل الميلاد) التي امتزج فيها التاريخ بعظمة مصر، حيث كانت عجيبتان من عجائب الدنيا السبع (قائمة رصدها الشاعر والمؤرخ فيلو البيزنطي 280 - 220 ق. م. وصدق عليها المؤرخ الإغريقي هيرودوت 484 - 425 ق.م) في مصر: أهرام الجيزة، ومنارة الإسكندرية (بنيت عام 280 ق. م. بارتفاع 140 مترا كأعلى بناء في العالم وقتها وإعجاز تكنولوجي ترى السفن نورها على بعد 47 كيلومترا في البحر)، وتبدأ مطارق الشعور بالدق في القلب: هل سيقدر لي السير على رمال شاطئ الإسكندرية مرة أخرى؟

رمال الشاطئ: غمرتني الذكريات بـ«دوش» الأحزان مثل «الدوشات» الأربعة التي كانت توجد على كل شاطئ من شواطئ الإسكندرية الممتدة من الأنفوشي، بين الميناءين الشرق والغربي (وتفصلهما جزيرة فاروس، التي وقفت عليها منارة الإسكندرية الشهيرة، وكان ربط الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. قرية راقودا الساحلية بها في بداية بناء الإسكندرية) حتى العصافرة والمندرة، حيث يقطع الشاطئ قصر المنتزه والمعمورة، وتعود الرمال مرة أخرى على شاطئ خليج أبو قير. على شكل المسلة المصرية الفرعونية بنيت الدوشات في عهد المغفور له الملك فؤاد الأول (1868 - 1936) على مسافات 80 مترا تفصل بينها. وكل مسلة بارتفاع مترين، على كل واجهة «دوش» ماء عذب نقي كي يغتسل السابحون والسابحات، والدوش يقطع الماء تلقائيا بعد ثلاث دقائق. بدأ تحويل هذه الشواطئ إلى «ريفييرا» مصرية عند بناء الخديوي إسماعيل (1830 - 1895) مصر الحديثة، وأكسب القاهرة اسم «باريس على النيل» وكانت مدن مصر في عهده أكثر رونقا من مدن أوروبا (تلاميذ المدارس الإسكندرية، كانوا يجيبون خطأ على سؤال الجغرافيا بأن مصر تقع في أوروبا وليس في أفريقيا (فميدان محطة الرمل - سعد زغلول باشا حاليا - بالنخيل الباسق والأزهار قلده المهندسون الفرنسيون لبناء الميدان الرئيسي على كورنيش «نيس» الفرنسية). وفي عهد إسماعيل أقيمت «الكبائن» على النظامين الفرنسي والإيطالي، ومشروع الشواطئ وتم بناء كورنيش إسماعيل صدقي باشا(1875 - 1950) وزير الاوقاف ثم المالية ثم الداخلية في حكومة سعد باشا الوطنية.

وتعود فخامة بلاجات الإسكندرية (الإسكندرانية لا يقولون شاطئ وإنما «بلاج» وكلمة الجمع: بلاجات تستخدم رسميا في مراسلات البلدية والصحافة المصرية) هو مبنى الوزارة في محطة «بولكلي» على فرع «باكوس» من ترام الرمل ذي الطابقين، الذي أسسه أيضا الخديوي إسماعيل عام 1860، من محطة الرمل إلى فيكتوريا، حيث توجد المدرسة الإنجليزية العريقة، كلية فيكتوريا، وكان أبناء كبار حكام الإمبراطورية البريطانية، من الهند وأستراليا يدرسون فيها حتى التوجيهية قبل الجامعة، والمرحوم المخرج الكبير الصديق يوسف شاهين (1926 - 2008)، درس بها، وكذلك الممثل العالمي عمر الشريف، والعاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال (1935 - 1999). الترام يتفرع مرتين في المناطق التي يزيد فيها العمق الجغرافي للإسكندرية (الإسكندرية شريط ساحلي يمتد حتى أبو قير شرقا والعجمي غربا، ويحده البحر المتوسط من الشمال وبحيرة مريوط، المعروفة بـ«الملاحة» جنوبا). عند سبورتينغ إلى خط كيلوباترا (آخر ملوك مصر أدت هزيمتها إلى نهاية الدولة المصرية التي لم تقم لها قائمة إلا في عهد محمد على باشا، حيث أعاد للإسكندرية مجدها ببناء ترعة المحمودية لنقل القطن إلى الميناء للتصدير، فتحولت من مدينة مهملة بسكان 5000 آلاف فقط، إلى مدينة عالمية تقود بورصتها أسواق العالم)، يتوحدان قبل الانفصال مرة أخرى بعد محطة رشدي إلى خطي باكوس وفيكتوريا، ليتوحدا عند سان استيفانو. أسماء المحطات تحكي تاريخ الإسكندرية (كامب شيزار مثلا تحريف لمعسكر قيصر أثناء حرب كليوباترا مع الإمبراطورية الرومانية). والوزارة في بولكلي، وهو مبنى الحكومة، حيث تنتقل في فترة الصيف (نهاية يونيو/ حزيران حتى منتصف سبتمبر/ أيلول) منذ أيام الخديوي إسماعيل حتى عهد قريب (لم نكن قد سمعنا بشرم الشيخ) وحيث كان بيت الأسرة (في نهاية شارع الأميرة فوزية الذي غير العسكر اسمه إلى اسم شخص غير مصري) على شاطئ ميامي. وكان الوزراء، كالنحاس باشا، وفؤاد سراج الدين باشا، ونجيب الهلالي باشا، والنقراشي باشا لهم كبائن بين ميامي والمندرة والعصافرة، وأذكر أن أحيانا ما يتضايق جدي، حضرة البك ناظر مدرسة راس التين المتقاعد، من صياحنا في المعركة الجوية (مجموعة الأولاد النادي اليوناني، وأولاد كلية فيكتوريا بثقافة إنجليزية، وأولاد من الإرسالية الفرنسية يحاولون إسقاط الطائرات الورقية المنافسة بأعلام بريطانيا وفرنسا واليونان) فيضع قبعته البنما (وكان بالغ الأناقة بالبذلة الصيفية الكتان والبوبيون البني الفاتح والمِنَشَّا بالمقبض العاجي والعصا بمقبض فضي) تاركا «دوشة العيال» على شاطئ ميامي، حيث تنشغل أمي في الكبينة بإعداد جبال من الساندويتشات للأولاد بطائراتهم الورقية والبنات المستعرضات بمضرب الكرة بالبيكيني من مختلف الجنسيات، ويتمشى البيه الناظر إلى المندرة لتناول القهوة مع أحد أو بعض الوزراء (فالأقرب كانت فيلا الهلالي باشا وكانت صحته تدهورت قبل وفاته 1958). وأذكر ثورة جدي العارمة ذات صباح عام 1954 عندما رأي في الصفحات الأولى صورة أول رئيس لمصر، اللواء محمد نجيب، في مناسبة رسمية، مستبدلا بالطربوش (غطاء الرأس الرسمي) كاسكيت الجيش (اعتبره جيلا جدي وأبي رمز جيش الاحتلال الإنجليزي بينما تمسك الضباط الوطنيون المصريون بزعامة الملك بالطربوش رمز استقلالية الأمة)، منزعجا من قصر فهم العسكر للوطنية، متنبئا «بخراب مصر» على يد «شوية عيال بكره يبيعوا الهرم بتراب الفلوس».

وينزف دوش الذكريات بداخلي وشواطئ الإسكندرية شريط أبيض من ارتفاع 30 ألف قدم من الطائرة، وآخر ذكريات القفز بالمايوه في البحر والجري على رمال الشاطئ تعود لأكثر من ثلاثين عاما، ذات خريف، مع مجموعة أصدقاء إسكندرانية - رحم الله معظمهم - احتفلنا في الليلة السابقة بالنجاح العالمي لفيلم الصديق المرحوم يوسف «جو» شاهين «إسكندرية ليه» (وأنصح القراء بمشاهدته حيث تاريخ الحركة الوطنية الممزوج بالثقافة والفن في الإسكندرية). في الصباح أصر «جو» على ذهاب «الشلة» إلى شاطئ سيدي بشر، واشترى بنفسه السمك الطازج من «الحلقة» في الأنفوشي، وشواه على طريقته (حفرة على الرمال وأشعل فيها «قوالح» الذرة وشواية من السلك)، وكان رحمه الله يصر على أن الإسكندرية هي بلد.. دولة، قائمة بذاتها، والإسكندرانية صنف آخر من البشر. وأذكر إصراره على أن نغسل أيدينا أولا بماء البحر، وتحت الدوش ثم بالصابونة. ومن يومها لم تلمس أقدامي الحافية رمال شواطئ الإسكندرية، وكانت آخر زيارة لسيدي بشر. ويزداد سكين الشعور بالذنب انغماسا في القلب، خاصة بعد انتهاك الإرهاب لأحلى ذكريات سيدي بشر الأسبوع الماضي.