الهند وإيران.. علاقة تنحسر تحت الضغوط الأميركية

قد تجد نيودلهي استعدادا من السعودية والإمارات لتعويض النقص في الواردات النفطية الإيرانية

TT

دخلت العلاقات الهندية - الإيرانية مؤخرا لمرحلة جديدة مأزومة، من بين مؤشراتها تجميد الهند لسياسة متبعة منذ أمد بعيد لتسوية الحسابات التجارية مع الجمهورية الإسلامية. ويعد هذا الإجراء الأخير في سلسلة من الأحداث التي عصفت بالعلاقات بين البلدين.

رسميا، صدر القرار الأخير من جانب المصرف المركزي الهندي، «مصرف الاحتياطي الهندي». ورسميا أيضا، من المفترض أن المصرف المركزي مستقل عن الحكومة، إلا أن محصلة الإجراءات الهندية الأخيرة تشير إلى أن نيودلهي شرعت أخيرا في تنفيذ ما تطلبه منها وزارة الخزانة الأميركية منذ أمد بعيد، وهو إغلاق «اتحاد المقاصة الآسيوي» الذي يتعامل مع المدفوعات الخاصة بالواردات النفطية الإيرانية.

وقد تأسس الاتحاد عام 1974 من قبل إيران والهند ودول جنوب آسيوية أخرى ويوجد مقره الرئيسي في طهران. ويهدف الاتحاد إلى تيسير التجارة الإقليمية عبر السماح بتسوية فواتير الواردات عبر إجراءات متبادلة لمسك الدفاتر داخل المصارف المركزية التسعة الأعضاء بالاتحاد. وخلال حديثه أمام البرلمان الهندي في نوفمبر (تشرين الثاني) في أعقاب إعلانه تأييد بلاده نيل الهند مقعدا دائما بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، شدد الرئيس الأميركي باراك أوباما على أن «تنامي القوة يصاحبه تنامٍ في المسؤوليات». وبالطبع، عنى بقوله هذا أنه ينتظر من نيودلهي استغلال مكانتها على الصعيد العالمي في مساندة القضايا الأميركية والحرص دوما على تجنب تقويضها.

وعليه، حاولت حكومة مانموهان سينغ إظهار شعورها بـ«المسؤولية» عندما حظرت على الشركات الهندية استغلال سبيل «اتحاد المقاصة الآسيوي». ومع استخدام واشنطن وعدد من الدول الأوروبية عقوبات مالية لدفع باقي دول العالم لوقف تعاملاتها التجارية مع الجمهورية الإسلامية، أصبحت الشركات في الهند وغيرها تجابه صعوبة متزايدة في فتح خطابات اعتماد مسماة بالدولار أو اليورو لسداد قيمة صفقات تجارية تشمل إيران. ومنذ عامين، اقترح الإيرانيون استغلال «اتحاد المقاصة الآسيوي»، وسارت هذه الآلية على ما يرام.

بعد تجميد المدفوعات عبر «اتحاد المقاصة الآسيوي»، طلبت شركات هندية من «الشركة الوطنية الإيرانية للنفط» (إن آي أو سي) أن ترشح مصرفا أوروبيا يمكن من خلاله دفع الأموال، لكن الشركة رفضت قبول أموال خارج إطار «اتحاد المقاصة الآسيوي» خوفا من تعرضها للمصادرة.

وفي الوقت الذي توصلت فيه أمس الهند وإيران إلى اتفاق مؤقت لتمرير المدفوعات عبر بنك ألماني، لدفع قيمة واردات الهند من النفط الخام الإيراني، فإن الولايات المتحدة بعدما شهدت هذه الخطوة من جانب الهند ستستمر في الضغط عليها لتقليص روابطها بإيران على صعيد الطاقة.

الواضح أنه تحت ضغوط أميركية، عكفت نيودلهي على استفزاز طهران لفترة طويلة، بداية من تصويتها داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية وصولا إلى تباطؤها الشديد في تناول مجموعة متنوعة من القضايا الثنائية. وبذلك، أبدت الهند التزامها بالنهج الأميركي. من جهتها، جاءت الضغوط الأميركية على نيودلهي في صور متنوعة، سعيا لإقناعها بتقليص روابطها بطهران، تبعا لما ورد بالعديد من البرقيات السرية من البعثة الدبلوماسية الأميركية في نيودلهي التي سربتها «ويكيليكس». كانت الهند قد انضمت إلى مجلس الأمن بعد انقطاع دام عقدين، ويعد اختيارها سياسة تحمل تبعات اقتصادية وسياسية كبيرة سبيلا آخرا كي تبدي أمام المجتمع الدولي استعدادها لتحمل أعباء جديدة ثقيلة في خضم منافستها آخرين لنيل مقعد دائم بالمجلس.

وكشفت البرقيات التي سربها «ويكيليكس» كيف مارست الولايات المتحدة ضغوطا على صناعة السياسات داخل الهند. ووردت إشارات في وثائق «ويكيليكس» إلى العرض الذي قدمته الهند للولايات المتحدة لمجمل الزيارة القصيرة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد لها عام 2008. وقد أشار ذلك بوضوح إلى أن الأميركيين لم ترق لهم الزيارة، وطالبوا الجانب الهندي بتقديم تفسير لها. وورد بالبرقيات المسربة ذكر لوقف الهند صادراتها لإيران من الغرافيت وإلغاء مشروع كانت تنوي شركة هندية تنفيذه هناك.

وفي الوقت الذي لم تأبه الصين للضغوط الأميركية لفرض عقوبات ضد إيران، لم تملك الهند هذا الخيار. وعن ذلك، قال أميتاب ماتو، البروفسور السابق بجامعة جواهر لال في دلهي، إن الهند «لم يكن أمامها خيار. إن الأمر أشبه بصدور أمر لها من شقيقها الأكبر، في هذه الحالة الولايات المتحدة، لفعل ذلك». في الوقت الذي اضطلعت فيه واشنطن بدور مهم في تحديد عمق واتجاه العلاقات الهندية - الإيرانية، تبقى المؤسسة الهندية بوجه عام غير قلقة، لأن الوضع الجديد يعكس في الكثير من جوانبه التحول الاستراتيجي البطيء للمصالح الهندية في الشرق الأوسط من إيران إلى الدول العربية.

ويرى بي آر كوماراسوامي، أستاذ السياسات غرب الآسيوية بجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، أن العرب يساورهم قلق جم إزاء إيران، حسبما كشفت برقيات «ويكيليكس» المسربة مؤخرا. وخلال محادثاتهم غير المعلنة، من الواضح أن العرب يؤكدون على أن إيران مصدر تهديد لهم.

الواضح أن الدول العربية تحمل أهمية كبيرة بالنسبة للهند على أصعدة الطاقة والتجارة وفرص العمل للهنود. يعمل ملايين الهنود في دول عربية عدة ويشكلون نحو 40% من إجمالي الحوالات المتدفقة على الهند، ويتوقع زيادة أعدادهم بنسبة تتراوح بين 5% و10% خلال العقد القادم. ويبلغ حجم التجارة بين الجانبين 114 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتضاعف بحلول عام 2014. وتحصل الهند على وارداتها النفطية بصورة أساسية من دول عربية - السعودية (18%) والكويت (10%) والعراق (9%) والإمارات (8%). في المقابل، تستورد الهند من إيران 14% من وارداتها النفطية.

وفي هذا الصدد، أعرب كوماراسوامي عن اعتقاده بأن «الهند بإمكانها الالتفاف على المخاوف الأميركية والإسرائيلية، لكن ليس بمقدورها تجاهل الضغوط العربية»، مشددا على أنه في صياغتها لسياستها تجاه طهران «تبدي الهند تفهمها للمخاوف العربية». وأضاف أن العالم العربي يتسم بنفوذ في عملية صناعة السياسات الهندية أكبر مما هو معروف بوجه عام.

وبعد أن زار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الهند عام 2006، عمدت الهند إلى اتخاذ تحركات ترمي لجعل السعودية أكبر مصدر لوارداتها النفطية بحلول عام 2010. ونظرا للتناغم المتزايد بين توجهاتها والتوجهات السعودية حتى فيما يخص القضايا الأمنية، من المحتمل أن تلقى الهند استعدادا من السعودية والإمارات لتعويض الفاقد في الواردات النفطية من إيران.

وبخلاف الضغوط الأميركية، هناك أسباب أخرى تثير سخط الهند حيال النظام الإيراني، فمنذ بضعة شهور أصدر المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي بيانا دعا خلاله المسلمين لإنقاذ «أمم» من براثن قوى مهيمنة. ومن بين هذه «الأمم» ذكر كشمير التي تتقاسم الهند وباكستان إدارتها. وأثارت إشارة خامنئي لكشمير باعتبارها «أمة غضب عارم داخل الهند. وعليه، استدعت الهند القائم بالأعمال الإيراني لديها وأصدرت بيانا أعربت خلاله عن «خيبة أملها وأسفها العميق» بسبب هذه التعليقات.

وفي وقت سابق، تحدث خامنئي عن تعاطف إيران مع شعب كشمير الذي يعاني «القمع». وربط معلقون هنود بين الاستفزاز الإيراني للهند بخصوص كشمير وغضبها من التقارب بين نيودلهي وواشنطن. ويرى محللون أن مساندة إيران لقضية كشمير يأتي في إطار محاولة أكبر للاضطلاع بدور الريادة داخل العالم المسلم.

إلا أن الهند أبدت هي الأخرى افتقارها إلى المهارة في إدارة علاقاتها داخل الشرق الأوسط. في المقابل، أظهرت الصين ذكاء أكبر بكثير. الواضح أن الهند ليس بإمكانها التخلي تماما عن إيران لأنه على صعيد الكثير من القضايا، تعد الأخيرة حليفا مهما لها، خاصة داخل أفغانستان. إلا أنه مثلما أشارت مصادر إيرانية، فإن الهند لم تتعاون مع إيران بجدية قط بخصوص أفغانستان في الفترة الماضية. بوجه عام، يبدو أن جهودا كافية لم تبذل لتعزيز العلاقات بين الجانبين، مما جعل تحركها باتجاه الأزمة أمرا حتميا.

ولم تتسم العلاقات بين الهند وإيران دائما بالسلاسة، حيث اتخذا موقفين متعارضين خلال الحرب الباردة، حيث كانت إيران في عهد الشاه حليفا وثيقا للأميركيين والباكستانيين. في أعقاب قيام الثورة الإسلامية عام 1979، توترت العلاقات مجددا بين الجانبين مع تزايد التقارب بين إيران وباكستان الإسلامية. عام 1994، اعترضت إيران طريق محاولة قادتها باكستان داخل منظمة المؤتمر الإسلامي لاقتراح قرار داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يدين الانتهاكات الهندية لحقوق الإنسان في كشمير. بعد ذلك، تنامت العلاقات بين البلدين وبلغت أوج ازدهارها في مشاعر الكراهية التي أبداها الجانبان لـ«طالبان» المدعومة من باكستان. وعملت الهند مع إيران وروسيا لتقديم دعم عبر طاجيكستان إلى قوات «التحالف الشمالي» بأفغانستان.

ووقعت الهند وإيران اتفاقات حول توفير ممرات للنقل وتصدير غاز طبيعي مسال وما إلى غير ذلك. إلا أن الكثير منها لم يتجاوز مرحلة التخطيط، أو واجه مشكلات، حسبما أوضح كوماراسوامي. عام 2005 - 2006، وهي فترة دخلت خلالها الهند في مفاوضات بالغة الأهمية مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي مدني، صوتت الهند مرارا ضد البرنامج النووي الإيراني داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما أثار الشكوك بأنها فعلت ذلك تحت ضغط من الولايات المتحدة. وبالمثل، يعتقد أن قرارها بالانسحاب من مشروع خط الأنابيب المشترك بينها وبين إيران وباكستان كان بإيعاز من الأميركيين.