ميقاتي.. وسطي أم رجل حزب الله؟

قدم من عائلة غير سياسية ولديه علاقات جيدة بالإسلاميين في طرابلس

TT

توقع كثيرون أن لا يصمد الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أمام العواصف التي هبت عليه جراء قبوله أن يكون «دفرسوارا» في الطائفة السنية، بتوليه المنصب الأول لهذه الطائفة رغما عن زعيمها الأول سعد الحريري الذي يرأس أكبر تياراتها ويمتلك أكثر من ثلثي نوابها.

فلم يعهده الكثيرون، مغوارا ولا متهورا، إنما رجل محافظ إلى درجة الإزعاج، لا يتخذ خطوة إلا بعد إشباعها درسا وتقليبا وتمحيصا. لكن الرجل الذي كان يصعب على صحافي أن يأخذ منه كلمة «مثيرة»، ذهب فجأة إلى قمة الإثارة بإعلانه ترشيحه إلى الرئاسة الثانية متلاقيا مع حزب الله وقوى 8 آذار الساعية إلى إقصاء الحريري عن هذا الموقع الذي شغله منذ انتهاء الانتخابات النيابية عام 2009، الانتخابات نفسها التي تحالف فيها مع الحريري في طرابلس وحصل منها على «كتلته» النيابية المؤلفة منه، ومن النائب أحمد كرامي.

يمتلك ميقاتي تاريخا لم يلوثه بحرب، أو بفساد، ما خلا الاتهامات التي كان يحلو للرئيس السابق عمر كرامي أن يوجهها إليه من على منصة مجلس النواب في أول عهده بالوزارة نتيجة تملكه لشركة الهاتف الجوال التي استثمرت في قطاع الاتصالات وأدارت إحدى رخصتي الهاتف الجوال في لبنان تحت اسم «سيليس». أما مستقبل ميقاتي، فلا يزال في علم المجهول، خصوصا بعد اتخاذه قرار الترشح وتعريض نفسه لسهام أهل طائفته الذين انتفضوا على ترشيحه، لا لشخصه، ولكن لموقفه، في هذه اللحظات الحاسمة التي يمر بها لبنان، خصوصا أن القضية المطروحة على جدول أعمال حكومته لا تقل خطورة عن قرار قبوله رئاستها، فهي المحكمة الدولية التي تنظر في جريمة اغتيال زعيم السنة الأول، رفيق الحريري، التي يتوقع من ميقاتي أن يوقع قرار سحب تمويلها وقضاتها اللبنانيين، بالإضافة إلى إعلان وقف التعامل معها. وهذا قرار قد لا يستطيع ميقاتي أن «يبرئ نفسه منه» كما يقول المقربون من الحريري الذي يبدي الاستياء الشديد من ميقاتي، لا لشخصه، لكن لموقفه، فالحريري يرى أن ميقاتي «غدر به وطعنه في الظهر، فأصابه حيث فشل خصومه وأطاح به عن رئاسة الحكومة»، فاتهمه «المستقبل» بأنه يرأس حكومة حزب الله، وهو اتهام يرفضه ميقاتي الذي يشكر الحزب - كما غيره - على دعمه إياه لهذا الموقع، قائلا إنه لا يمكن أن يرفض دعما متعهدا فقط بحماية المقاومة، بالإضافة إلى تعهد آخر بجعل العلاقات مع واشنطن أولوية، جامعا بين صيف واشنطن وشتاء حزب الله تحت سقف واحد.

ولعل أكثر ما أزعج الحريري وفريقه في تكليف ميقاتي، أنه كان «ضربة معلم» بالنسبة للخصوم، فهذا الرجل «المعتدل الهادئ، ذو العلاقات الدولية الجيدة» يشكل هدفا أصعب بكثير مما يمكن أن يشكله الرئيس السابق عمر كرامي المفرط في معارضته. كما أن ميقاتي الذي اشتهر بوسطيته التي تمادى في إظهارها سيكون مجبرا على تشكيل حكومة من لون واحد بعد قرار الحريري و«14 آذار» عدم التعاون معه.

وبالإضافة إلى علاقاته الجيدة جدا مع الرئيس السوري بشار الأسد شخصيا، يمتلك ميقاتي علاقات إيجابية مع فرنسا التي يقال إنها الداعم الأساسي له في معركته الأخيرة، وكذلك نسج علاقات جيدة مع قيادات تركية وعربية. أما في الداخل، فقد اتبع، على النمط التركي، سياسة «صفر مشكلات» مع الجميع - حتى موعد الترشيح - خصوصا في مدينة طرابلس، حيث نشأت قوته السياسية والشعبية. فهو انفتح على الجميع، حتى مع الذين خاصموه، ويمتلك علاقة مميزة مع الإسلاميين، فلا يكاد مسجد يبنى في المدينة، إلا ولميقاتي نصيب في تمويله. أما رجال الدين في المدينة، فهم يحظون بمساعدات لأعمالهم الخيرية من قبل ميقاتي الذي عرف عن مؤسساته تقديماتها الكثيرة لجهة الأعمال الخيرية. حتى أن الجماعة الإسلامية التي رشحت الحريري لتأليف الحكومة الجديدة، قالت إنها فعلت ذلك «وفاء للرئيس الراحل»، لكنها «لم تجد في وصول ميقاتي جريمة» كما قال أحد قيادييها النائب السابق أسعد هرموش. أما السلبية التي تحيط بعمله في المدينة، فيقول أحد فعالياتها إن ميقاتي ككثير من السياسيين الطرابلسيين، اهتم بالمساعدات وأهمل الإنماء، فلم يخض حربا من أجل مشروع استثماري جيد للمدينة.

محمد نجيب ميقاتي المولود عام 1955 هو «الرقم السادس في الترتيب العائلي»، قبله كان لعائلته أربع بنات وصبي. ولأنه كان كذلك فقد حاز الكثير من الدلال، الذي يقول ميقاتي إنه لم يشكل حساسية لدى العائلة، خاصة لدى أخيه وشريكه طه فهما اعتمدا «معادلة ذهبية هي أن الكبير يعتني بالصغير والصغير يحترم الكبير. وقد استمرا على هذه المعادلة حتى اليوم».

كان ميقاتي طفلا عنيدا، حتى أنه استطاع أن يفرض على أهله عدم الذهاب إلى المدرسة التي ارتادها لثلاثة أيام فقط في سنته الأولى وفوت عاما دراسيا كاملا عوضه العام التالي بدخوله إلى صف الحضانة الثاني مباشرة.

تلقى دروسه الأولى في «الليسيه الكبرى» الفرنسية ثم توجه إلى الجامعة الأميركية فالدراسات العليا في هارفارد. ورغم أنه لم يكن تلميذا «نجيبا» في بداياته، فقد استطاع «تمرير المراحل»، وكان دائما عند المعدل العام للنجاح دون زيادة ولا نقصان، لكن الأمر تغير عندما بدأ يحب المدرسة، فقد نال شهادة البكالوريا - فرع العلوم الاختبارية بدرجة جيد جدا. بقيت المدرسة «غير محببة لديه. وشهر أكتوبر (تشرين الأول) الذي يبدأ فيه العام الدراسي يشكل عنده نقطة حزينة. حتى أنه عندما ذهب أولاده إلى المدرسة، كان «يخترع» فرصة للسفر للعمل، ولو لأسبوع، لكي تتولى والدتهم أخذهم إلى المدرسة. قائلا له «إنهم (أولاده) قالوا إنهم لا يريدون الذهاب فلن أجبرهم». لكن الأمور اختلفت مع التقدم في المدرسة مع إيجاد أصدقاء ورفاق صف، فأصبح يشتاق للعودة إلى الصف والرفاق، وصولا إلى الجامعة التي يقول إنها «كانت أحلى أيام حياتي». السنين الأولى للمدرسة كانت حزينة. كان الأساتذة يطلبون حضور الوالد إلى المدرسة بشكل متكرر. وفي إحدى المرات قال الأستاذ لوالده «أستغرب كيف أن هذا التلميذ يكون كسولا وأنا أعرف أنه يحفظ في ذهنه أسماء الـ 99 نائبا في المجلس النيابي». فقد كان ميقاتي هاويا للأمور السياسية لكن لم يكن في ذهنه أن يدخل في عالمها. كان يتابع كل القضايا السياسية. ويقول: «عندما بلغت سن الـ13 كنت أقصد المجلس النيابي وأحضر الجلسات العامة، فقط من باب الحشرية. كنت أطلب بطاقة خاصة، أذكر أنها كانت زهرية اللون، لدخول جلسات المجلس النيابي». وعندما دخل القاعة نفسها كنائب وكوزير رافقته هذه الذكريات حتى أنه كان يراقب الجمهور كيف ينظر إليه متذكرا كيف كان يجلس بينهم.

يعترف ميقاتي أنه منذ ذلك التاريخ كان يحلم بأن يدخل البرلمان والعمل السياسي، لكنه كان حلما يعتبره بعيد المنال «لأننا لم نكن عائلة سياسية ولم نتعاط السياسة أبدا، وكنت أرى أن الإرث السياسي هو الغالب. لم أعتقد يوما أن لي موقعا في هذا المكان. كان الأمر كمن يشاهد فيلما تلفزيونيا ويشتهي أن يكون مكان الممثل. حلمت بالموقع، لكني لم أصمم على الوصول إليه».

وسطيته هذه فسرت من قبل البعض على أنها «بلا لون أو طعم»، لكن ميقاتي البارع في السير بين النقاط، يرد على منتقديه بأربعة أسئلة: هل تمكنت من الفوز بالنيابة يوما؟ هل استطعت أن تصبح وزيرا؟ هل أصبحت رئيس حكومة؟ وهل استطعت أن تجمع ثروة؟ ثم يستطرد بالقول: «أنا فعلت كل ذلك، فمن منّا يكون الصح؟». يبرر ميقاتي وسطيته بالقول: «اتجاهنا في المنزل كان دائما وفاقيا، لم نكن جماعة (حرب). كنا نبتغي السلام وعند أي خلاف أو حدث، كنا ننظر دائما إلى ما يوفق. هذا دخل في طباعي منذ الصغر، كنت أرى دائما جانبا وفاقيا من أي حدث». ورغم أنه يعترف بأن البعض يرى أن الموقف الوسطي لا لون له، يؤكد أنه الأصعب. يرفض استعمال كلمة اعتدال «لأن الاعتدال ربما يكون مزيجا من أمرين، فالطقس المعتدل هو مزيج من البرودة والحرارة. لكن الوسط ليس مزيجا، إنه لون بحد ذاته وهو من أصعب الألوان». إيمانه بالاعتدال والوسطية، دفعه لإنشاء «منتدى الوسطية» و«منتدى استشراف الشرق الأوسط» كما أشرف على تنظيم سلسلة مؤتمرات وندوات عن الوسطية في المجالات كافة بمشاركة شخصيات لبنانية، عربية ودولية.

في السياسة الحالية، يقول ميقاتي إنه مع «14 آذار» لجهة المطالبة باستقلال لبنان وسيادته، ومع «8 آذار» الذي يتحدث عن المقاومة وعن واقع إقليمي معين، ومن حيث معرفتي بأننا جزء من هذه المنطقة ويجب أن نعيش علاقات جيدة ومثمرة مع الدول المجاورة. بدأ عمله السياسي من باب الاقتصاد، حيث انتخب عضوا في غرفة التجارة والصناعة عام 1992 ورئيسا للجنة الاقتصادية. وفي عام 1998 عين في أول حكومة تألفت في عهد الرئيس اميل لحود وزيرا للأشغال العامة ووزيرا للنقل وصفه آنذاك رئيس مجلس النواب نبيه بري بطرافته المعهودة بـ«أطول وزير في العالم» لطوله الفارع الذي يتجاوز المائة وتسعين سنتيمترا. ثم انتخب نائبا عام 2000 حيث نال حينها أكبر عدد من الأصوات في الشمال. وهو يعتز بالإجماع الذي ناله لتشكيل الحكومة بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005. حينها تعهد ميقاتي بعدم الترشح للانتخابات التي نظمتها حكومته، مبررا العزوف عن الترشح للانتخابات بأن «الإنسان إنسان، وأنا لا يمكن أن أكون حياديا وطرفا في آن». كما انسحب من شركة الهاتف الجوال والأعمال الأخرى في لبنان قائلا: «قررت أنه إذا أردت أن أكون رئيس وزراء ناجحا، يجب علي أن أتخلى عن أي مصلحة شخصية». عن تلك الفترة يقول: «استطعت أن أتعامل مع الجميع بقوة وبحزم، ولكن بعدل. كنا خلية إنتاجية في الحكومة، وكنا نعيش في الحكم كأننا سنعيش أبدا، ولآخرتنا وكأننا سنرحل غدا». دخل الجامعة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1975. وفي 11 مارس (آذار) 1976 حصلت حركة انقلابية قام بها اللواء عزيز الأحدب فتوقفت الدراسة في الجامعة، وأصيب المبنى الذي كان يسكنه بهذا القصف، فاضطر أن يترك لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية، لمتابعة دراسته. لكن ما حصل هو أنه قبل انتهاء الفصل الدراسي، أصيبت والدته بتوعك صحي، وكان هناك إجماع لدى الأطباء أن هذا التوعك سببه بعده عنها، فعاد إلى لبنان وترك الجامعة وبقي قربها حتى فرقهما الموت، فتابع دراسته في الجامعة الأميركية، ثم الدراسات العليا في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد. تزوج في عمر 23 سنة، تعرف على زوجته مي دوماني على مقاعد الدراسة. وأصبح أبا في الـ24. وهذا أدى إلى تقارب كبير في السن مع الأولاد. وهذا التقارب أعطاه «قدرة على تكوين صداقة متينة معهم مع بقاء الاحترام». لكن ميقاتي يصر على إبقاء عائلته بعيدا عن الإعلام والسبب هو زوجته التي طردت مصورا وصحافيا من منزلهما عندما حاولا أخذ صورة للعائلة عند توزيره لأول مرة قائلة لهما: «هو الوزير وهو الشأن العام، أما نحن فلا. اختار الشأن العام فهذا شأنه، أما نحن فنريد أن نعيش حياتنا الطبيعية ولا أريد أن أضر بالأولاد. فهي كانت ترى أن الأولاد في مرحلة حرجة وقد يؤذيهم التعرض للأضواء».

الشقيق الأكبر طه هو في موقع الأب الذي لكلمته وقع خاص عنده. وابن شقيقه عزمي هو العقل الإداري الذي في عهدته إدارة الأعمال، مع شقيقه فؤاد، أما أولاده ماهر ومالك وميرا، فهم معنيون ببناء أنفسهم وإدارة شؤونهم بعيدا عن السياسة.. ميقاتي الذي يشغل المركز 41 في لائحة أثرى الأثرياء العرب يلخص أسرار النجاح في الحياة بأنه عاش في «عائلة متماسكة ومتمسكة بالترابط العائلي». دخل عالم الأعمال بالاشتراك مع شقيقه طه الذي كان قد أسس شركة تتعاطى المقاولات الهندسية في أبوظبي التي بدأ العمل فيها منذ تخرجه عام 1968 من الجامعة. ولما كان طه هاويا لمعدات الاتصال، أنشأ نجيب شركة صغيرة مع زميل في الجامعة تعمل في قطاع الاتصالات، محولا هواية شقيقه إلى عمل. وقد كبرت هذه الشركة (INVESTCOM) ودخلت في عالم الهاتف الجوال، حيث أسسا أول شركة من نوعها في لبنان. يقول ميقاني: «النجاح ناجم عن علاقتي الممتازة مع شقيقي»، وقال: «نحن ندير عملا عائليا والفضل في نجاح العمل هو الأسلوب الذي اتبعه أخي، وهو استيعابه للجميع وتطويره ولأنه صاحب مبادرة وكنا جميعا نساعد في النجاح، والحمد لله نجحنا».

وشركة ميقاتي موجودة في 20 دولة أفريقية تقريبا. وبعد اندماجها مع شركة «MTN» أصبحا الشريك الأكبر فيها، ولديهما أعمال أخرى استثمارية وكذلك في مجال العقارات، ودخلا قطاع الألبسة بشراء شركة «فاسونابل» للألبسة. كما دخلا عالم الطيران حيث يمتلكان عددا كبيرا من الطائرات التي يقومان باستثمارها مع شركات أخرى، بالإضافة إلى شركة طيران اسمها «فلاي بابو» تنطلق من سويسرا. وهو حاليا عضو في مجلس أمانة الجامعة الأميركية في بيروت، وفي المجلس الاستشاري لكلية هاريس في جامعة شيكاغو، بالإضافة لعضويته في المجلس الاستشاري للمجموعة الدولية لمعالجة الأزمات «إنترناشيونال كرايسز غروب».