حرب التسريبات

من وثائق الدبلوماسية الأميركية إلى شرائط التحقيق في اغتيال الحريري.. إلى ملفات مفاوضات السلام

TT

يشهد العالم «حرب تسريبات» وثائق من المفترض أن تكون سرية، بدأها «ويكيليكس» قبل أشهر بنشره وثائق دبلوماسية أميركية، ثم اعتمدتها وسائل إعلام في لبنان وبريطانيا، نشرت قصصا استنادا إلى وثائق سرية سربت إليها.

ويعتبر موقع «ويكيليكس» رائد هذه الطريقة الجديدة في تناقل الأخبار، إذ بدأت القصص المسربة تتزايد على موقع «ويكيليكس» منذ عام 2006، بعد تأسيس الموقع كمنظمة غير هادفة للربح تقوم على أكتاف منشقين صينيين وصحافيين وفنيين من عدة دول، بينها الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا، كما يقول الموقع، ويرأسه جوليان أسانج، وهو أسترالي بدأ حياته بالقرصنة على الإنترنت. وتمثل هدف العاملين بالموقع المعلن في فضح الممارسات غير الأخلاقية للحكومات والمؤسسات الكبرى.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2010، شن أنصار موقع «ويكيليكس» «غارة انتقامية» إلكترونية عبر الإنترنت، ردا على محاولات دولية لعرقلة الولوج إلى موقعهم، شملت تعطيلا مؤقتا لموقعي شركتي «ماستر كارد» و«فيزا» للبطاقات الائتمانية، وكذلك خدمة «باي بال» للسداد عبر الإنترنت. وسيذكر التاريخ أن عام 2010 كان عام «ويكيليكس» بامتياز، ففي يوليو (تموز)، نشر الموقع 92 ألف وثيقة تتعلق بالحرب في أفغانستان ما بين 2004 حتى نهاية 2009، وتناولت قضايا على رأسها حوادث النيران الصديقة والبطء الشديد لعملية بناء الدولة بأفغانستان وحوادث قتل «الناتو» لمدنيين - وهي قضايا رأى البعض أن الوثائق لم تأت بجديد بشأنها، لكن بقي الأمر المثير للصدمة هو حجم الوثائق المسربة.

وفي أكتوبر (تشرين الأول)، سرب الموقع نحو 400 ألف وثيقة أخرى حول حرب العراق، بينما وصفته وزارة الدفاع الأميركية بأكبر حادث تسريب في تاريخها. وفضحت الوثائق تجاهل واشنطن لتقارير ارتكاب السلطات العراقية أعمال تعذيب بعد حرب عام 2003. وجاء نوفمبر (تشرين الثاني) حاملا معه كشف «ويكيليكس» عن نحو 250 ألف برقية سرية ومخاطبات تخص سفارات أميركية في مختلف أرجاء العالم ما بين عامي 1966 و2010، في حدث وصفه وزير الخارجية الإيطالي بـ«11 سبتمبر (أيلول) الدبلوماسية».

وكان من أبرز ما تضمنته الوثائق، تعليقات سلبية من دبلوماسيين أميركيين حول الدول المضيفة، وجهود تناول الحرب ضد الإرهاب، وجهود نزع التسليح النووي. ويشير المحللون إلى أن أهمية تسريبات «ويكيليكس» لا تكمن في محتواها فعليا، وإنما فيما تكشف عنه من تغير في مفهوم «حرب المعلومات». فبعد أن كانت تعرف على أنها إجراءات تتخذها حكومة ما للتأثير على أسلوب إدراك واقع معين، اتسعت دائرة التعريف الآن لتشمل إجراءات تتخذها عناصر ساخطة تنتمي إلى حكومة معينة من أجل فضحها وتشويه صورتها علانية.

ويسود لدى بعض المحللين اعتقاد بأن «ويكيليكس» وجه ضربة قوية للدبلوماسية، ذلك أنه سيثبط الكثيرين عن طرح تقييمات صادقة للكثير من القضايا ويقوض التعاون مع الدبلوماسيين الأميركيين بالخارج ويعرض حياة الكثير من المرشدين والصحافيين والسياسيين المتعاونين مع واشنطن للخطر ويعزز موقف بعض الأنظمة الاستبدادية القمعية بتصوير خصومها كعملاء أميركيين.

وبطبيعة الحال، أطلق حجم الوثائق المسربة العنان لنظريات المؤامرة، وكان من أبرزها ما أعلنه زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، خلال مقابلة أجريت معه في ديسمبر الماضي، بشأن اعتقاده بأن وراء تسريبات الوثائق لـ«ويكيليكس» عملية استخباراتية أجنبية معقدة. وأشار حينها إلى أنه رغم أن غالبية الوثائق المسربة لا تحمل قيمة تذكر، يبدو بعضها موجها بدقة نحو أهداف بعينها، وضرب مثالا بإشارة أحد المسؤولين إلى تفضيل القيادات الصينية توحيد الكوريتين مجددا، مما يضع بكين في موقف حرج ويضر علاقاتها بواشنطن، وكذلك الإشارة إلى المخاوف العربية من إيران، الأمر الذي من شأنه تقويض مصداقية قادة عرب على الصعيد السياسي الداخلي.

ومن بين وثائق «ويكيليكس» التي اجتذبت اهتماما خاصا داخل عالمنا العربي واحدة تنقل عن رئيس الموساد مائير داغان وصفه لقناة «الجزيرة» (ساخرا) بأنها «قد تكون السبب القادم للحرب في الشرق الأوسط».. وحملت الوثائق ادعاءات بأن القناة تحولت إلى أداة مساومة سياسية.

والآن، تعايش المنطقة العربية تداعيات تسريبات أخرى أطلقتها قناة «الجزيرة»، بنشرها 1600 وثيقة فلسطينية سرية حول المفاوضات مع إسرائيل، تشاركت فيها بصورة حصرية مع صحيفة «الغارديان» البريطانية التي وصفت الحدث بأنه أكبر عملية تسريب لوثائق سرية في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، تكشف عما دار داخل أروقة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بين عامي 2000 و2010.

ومن أبرز المعلومات التي ذكرت في الوثائق المسربة، أن المفاوضين الفلسطينيين عرضوا على إسرائيل تنازلات كبيرة بخصوص القدس، التي لطالما اعتبرها الفلسطينيون والعرب قضية لا تقبل التفاوض، وأن الجانب الفلسطيني وافق على عودة 10 آلاف لاجئ سنويا لمدة 10 سنوات، بمجموع 100 ألف من إجمالي ما يتراوح بين 5 و7 ملايين لاجئ فلسطيني، إضافة إلى اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل كدولة يهودية، واحتفاظ إسرائيل بالمستوطنات داخل القدس الشرقية المحتلة.

وعليه، تعالت تحذيرات بأن هذه التنازلات تقوض المبادرة التي أقرتها جميع الحكومات العربية، وعرضت على إسرائيل الاعتراف الدبلوماسي الكامل وتطبيع العلاقات، مقابل إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها عام 1967. وقد نددت السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها المفاوضان الفلسطينيان البارزان اللذان ورد اسماهما في الوثائق، صائب عريقات وأحمد قريع، بالوثائق المسربة باعتبارها أكاذيب وأنصاف حقائق. وشن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عبد ربه، هجوما حادا ضد القناة، متهما إياها بـ«تزوير وتحريف» الوثائق، مضيفا أن نشر هذه الوثائق يأتي في إطار حملة سياسية منظمة ضد السلطة الفلسطينية، لتندلع مظاهرات صبيحة الاثنين الماضي في رام الله من جانب أنصار «فتح» خارج مكتب «الجزيرة».

في المقابل، اعتبرت حماس الوثائق دليلا على تورط السلطة الفلسطينية في تصفية القضية الفلسطينية.. وقال أحمد مبارك، السياسي البارز لدى الحركة في تصريحات صحافية: «إذا نظرنا إلى تاريخ هذا الصراع على مدار الأعوام الـ64 الماضية، سنجد أنه متجه حتما نحو الحرب». وأشار إلى أن التسريبات أكدت أن السلطة الفلسطينية كانت على علم بحرب عام 2009 ضد غزة، وأنها كانت على علم بمخططات إسرائيلية لاغتيال قيادات كبرى في حماس وساعدت فيها.

من جهتها، اعترفت الخارجية الأميركية بأن التسريبات ستعقد جهود السلام، لكنها أكدت أنها (الوثائق) لا تحمل جديدا.. أما كبار أعضاء الحكومة الإسرائيلية، فيصرون على أن المشكلة الكبرى تبقى في رفض الجانب الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.

أصابع الاتهام وراء مصدر تسريب الوثائق تركزت على محمد دحلان، القيادي بحركة فتح، انتقاما من تجميد سلطاته، وإن كان البعض يستبعد ذلك لأن هذا يعني تدمير دحلان لكامل تاريخه في فتح وهذا سيكبده خسائر كبرى، لكن الآراء تتفق على أن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من التسريب الوثائقي.

يذكر أن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، اتفقا على بدء فعاليات محادثات سلام مباشرة في سبتمبر (أيلول) الماضي، لكن المحادثات توقفت في غضون أقل من شهر لرفض إسرائيل طلبا فلسطينيا بتمديد أجل تجميد البناء الاستيطاني بالضفة الغربية.

وأثارت التسريبات مخاوف من أن تتسبب في تدمير السلطة الفلسطينية والقضاء على أي أمل حيال جدوى المفاوضات مع إسرائيل. وفي حال انهيار السلطة، فقد يدفع ذلك إسرائيل نحو الاضطلاع بدور يحمل طابعا مباشرا أكبر كسلطة محتلة للمناطق الفلسطينية، كما تخيم سحابة قاتمة على المستقبل السياسي لعباس، الذي يعد ومعاونوه الأكثر تضررا من الوثائق المسربة.

والواضح أن الدعم المتوافر لعباس محدود حتى من قبل هذه التسريبات، فقد مني بانتكاسة كبرى بفوز حماس في الانتخابات العامة في يناير (كانون الثاني) 2006. وقد انتهت فترة رئاسته في مطلع 2009، لكنه برر استمراره في السلطة عبر تأويل يرفضه البعض للدستور الفلسطيني. ولا تعد استقالته بالأمر اليسير لعدم توافر خليفة واضح له بإمكانه المضي في عملية السلام.

ومن المرجح أن تزيد التسريبات الأخيرة من صعوبة استئناف عملية السلام (المتعطلة بالفعل). ومع اتخاذ السلطة الفلسطينية الآن موقف المدافع في مواجهة اتهامات بخيانة القضية الفلسطينية، فإن الاحتمال الأكبر أنها ستتخذ موقفا أكثر تشددا حيال المفاوضات وتطرح مطالب أصعب للعودة إلى طاولة التفاوض لإثبات وطنيتها.. بيد أن هناك من يرى أن عملية السلام بلغت مرحلة من الشلل والتأزم تجعل من المتعذر على التسريبات الأخيرة إلحاق أي أضرار إضافية بها.

أما بارقة الأمل الوحيدة التي حملها التسريب، فتمثلت في مساعي بعض المعلقين وأعضاء جماعات السلام الإسرائيلية لاستغلال التسريبات الأخيرة في حشد التأييد العام للدخول في جولة جديدة من المفاوضات، باعتبار التسريبات تكشف عن وجود شريك في السلام جدير بالثقة. وإذا كانت التسريبات ظاهرة جديدة صادمة في فلسطين، فإنها كانت ولا تزال بمثابة حمى تجتاح الساحة السياسية لجارها لبنان.. وتركزت غالبية التسريبات الكبرى بلبنان في السنوات الأخيرة حول المحكمة الدولية المعنية بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، حيث بدت كأداة لتوزيع الاتهامات استباقا لقرار الاتهام المرتقب من قبل المحكمة الدولية.

ومن بين قصص التسريبات أيضا، نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية في مايو (أيار) 2009، تقريرا يدعي أن المحكمة الدولية لديها أدلة تشير إلى تورط حزب الله في اغتيال الحريري، نسبتها إلى «مصادر قريبة من المحكمة».

وفي نوفمبر الماضي، كررت قناة «سي بي سي» الكندية الاتهامات من خلال تقرير لها حول تحقيق المحكمة الخاصة بلبنان، ادعى وجود أدلة حول تورط حزب الله في الاغتيال. وفجأة، تبدلت دفة الاتهامات، ففي 16 يناير بثت قناة «الجديد»، التي يعتقد بوجود صلات بينها وبين حزب الله، أول شرائطها المسربة، الذي تضمن وقائع جلسة بين الحريري (الابن) والشاهد في قضية اغتيال الحريري (الأب)، محمد زهير الصديق الذي يعد واحدا ممن يدعون بـ«شهداء الزور»، ورئيس جهاز شعبة المعلومات وسام الحسن، ومساعد المحقق الدولي غيرهالد ليمان، التي تمت في 29 و30 يوليو 2007. وقد بدت في اللقاء أمارات تدل على صلة وطيدة بين الحريري (الابن) و«شاهد الزور».

ولم يقتصر الحرج الذي سببته التسريبات للحريري على ذلك، وإنما امتد الأمر إلى اتهامه الرئيس السوري بشار الأسد ومعاونين له، على رأسهم صهره آصف شوكت، وشقيقه ماهر الأسد، بتدبير اغتيال والده، وإدلائه بتعليقات وأوصاف غير مناسبة على الكثير من الشخصيات البارزة، بينها الرئيس السوري وعدد من قادته، واتهامه لهم بابتزاز والده.

وقد اعترف مكتب الحريري بصحة التسجيل، لكنه استطرد بأن نبرة الحديث الذي بدا وديا كانت جزءا من خطة لاستدراج الصديق إلى بيروت والكشف عن حقيقة أقواله.. كما أصدر سعد الحريري اعتذارا لكل «الأصدقاء» الذين طالهم حديثه.