القذافي والقبائل.. فرق تسد

هناك نحو 30 قبيلة كبيرة أهمها ورفلة التي قد ترجح كفة الميزان إذا انضمت إلى المحتجين

TT

«الجيش والشعب ايد واحدة»، هتاف ردده المتظاهرون في تونس ومصر تعبيرا عن الامتنان للجيش في البلدين الذي تدخل في اللحظة الحاسمة، ولعب دورا فاعلا ورئيسيا في خلع الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، بعد أن مكث الأول على كرسي السلطة 23 عاما، ومكث الثاني 30 عاما. إلا أن الأمر في ليبيا التي تعد بمثابة ظهيرا جغرافيا للبلدين بين البلدين يبدو مختلفا، حيث تشكل القبائل اليد الطولى في إمكانية خلع العقيد معمر القذافي، الذي تولى السلطة في سبتمبر (أيلول) 1969.

في ثورتي «الياسمين» و«25 يناير» بتونس ومصر، تعلقت الأنظار في البلدين بالمؤسسة العسكرية لأنها الوحيدة القادرة على حسم الأمور وترجيح كفة الشعب على كفة الحاكم، إلا أن هذا العنصر غاب عن الثورة الليبية المشتعلة حاليا ضد نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا.

ورغم أن عددا لا يستهان به من وحدات الجيش الليبي قد أعلن تمرده على نظام القذافي وانضمامه إلى الشعب في ثورته، فإن القوة الأكبر في الجيش ما زالت موالية للقذافي، الذي استخدم طائرات حربية في قصف المعارضين، في مدن الشرق الليبي، حسبما أكد شهود عيان، رغم نفي القذافي لهذا الأمر.

ولعب الجيش دورا بارزا في إسقاط النظام في تونس ومصر، إذ رفض رئيس الأركان التونسي الجنرال رشيد بن عمار طلب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، بل خيره بين التنحي أو القبض عليه ومحاكمته، فاختار بن علي الخروج الآمن، أما في مصر، فقد اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من دون الرئيس المصري السابق حسني مبارك رئيسه الأعلى، وأعلن استجابته لمطالب الشعب، وبالفعل تنحى مبارك بعد مفاوضات استمرت يومين مع قادة الجيش وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.

ولكن في ليبيا، تلعب القبائل دورا رئيسيا في المجتمع، وتعد العصبيات القبيلة هي الانتماء الأول لدى الليبيين، الأمر الذي يجعل انشقاق تلك القبائل عن نظام القذافي هو السبيل الوحيد لخلعه دون تدخل عسكري خارجي. وفطن القذافي لهذه المسألة مبكرا فعمد إلى تصعيد أبناء قبيلته «القذاذفة» إلى المناصب العليا والحيوية في الدولة والجيش لضمان ولائهم له، بالإضافة إلى علاقات النسب والمصاهرة التي تربطه بعدد من زعماء القبائل الأخرى، إلا أن ذلك المبدأ بدأ يهتز بشدة منذ اندلاع الاحتجاجات الليبية في 17 فبراير (شباط) الحالي.

إذ تحول ولاء عدد من زعماء القبائل بعيدا عن القذافي بعد استخدامه للقوة المفرطة في قمع الاحتجاجات والمظاهرات المعارضة له التي بدأت من مدينة البيضاء وانتشرت في مدن الشرق الليبي التي باتت خارج سيطرة القذافي وتولى زمامها الثوار. ويرى معارضون ليبيون يقيمون بالقاهرة تحدثت معهم «الشرق الأوسط» أن سيادة دور القبيلة في ليبيا على دور الجيش مرجعها أن القذافي تعمد بعد وصوله للسلطة إضعاف الجيش الليبي خوفا من تمرد أحد قادته عليه كما فعل هو شخصيا عام 1969 عندما قاد تمردا على نظام الملك إدريس السنوسي، منتهزا فرصة وجود الملك السنوسي في رحلة خارج البلاد.

وفي مقابل إضعاف الجيش بشكل عام، عهد القذافي لاثنين من أبنائه الذكور هما خميس والساعدي برئاسة كتائب قتالية في الجيش الليبي، حولاها إلى كتائب خاصة على مستوى عال من التدريب والتسليح، كما عهد لمقربين منه أمثال عبد الله السنوسي برئاسة الأجهزة الأمنية لضمان ولائهم له. وقاد القذافي، الذي كان وقتها في السابعة والعشرين من عمره وكان برتبة الملازم أول، انقلابا نظمه مجموعة من الضباط بالجيش الليبي من ذوي الرتب الصغيرة عام 1969 ضد الملك إدريس السنوسي، وشكلوا مجلسا لقيادة الثورة ضم 12 ضابطا، وأعلنوا قيام الجمهورية العربية التي ترتكز على شعارات (الحرية - الاشتراكية - الوحدة)، وقبضوا على الموالين للملك، وعلى جميع الضباط من رتبة «رائد» فما أعلاها، وشكلت حكومة مدنية برئاسة الدكتور محمد المغربي الخبير في شؤون النفط، لكنها لم تدم طويلا.

ورقى القذافي نفسه من رتبة الملازم أول إلى رتبة العقيد، وشكل وزارة جديدة برئاسته وتركزت السلطات التشريعية والتنفيذية في يد مجلس قيادة الثورة الذي لم يكن له تجارب سابقة في الحكم، وكان يتصرف حسبما تمليه قناعاته ضمن الشعارات التي أعلنها. وفي عام 1976 تم حل مجلس قيادة الثورة، وعين القذافي أمينا عاما لمؤتمر الشعب العام، وتغير اسم منصب الوزير إلى «أمين سر اللجنة». وأعلن القذافي «دخول ليبيا عصر الجماهير»؛ أي أن اللجان الشعبية هي التي يجب أن تمارس وتراقب السلطة من خلال لجانها الشعبية والثورية، من خلال التسيير الذاتي في الميدان الاقتصادي، والديمقراطية الشعبية المباشرة في الميدان السياسي، وأعلن - أيضا - تغيير اسم «الجمهورية العربية الليبية» إلى «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية»، وفي عام 1979 استقال القذافي من كل مناصبه الرسمية وتفرغ لقيادة الثورة والزعامة التاريخية - لا السلطة - في ليبيا التي هي في الأصل رئاسة الدولة.

وخلال فترة حكمه أصدر القذافي «الكتاب الأخضر» المكون من 3 أجزاء، الذي يعتبر بمثابة دستور ليبيا، وشرح فيه من وجهة نظره، معنى سلطة الشعب وكيف يمكن تطبيقها كحل نهائي لمفهوم الديمقراطية. كما طرح حلولا نهائية - على حد قوله - للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية.

وأدار القذافي خلال سنوات حكمه التي تصل إلى 42 عاما لعبة التوازن بين القبائل بدهاء، إذ إنه يدرك أن اتحاد تلك القبائل ضده، خطر على بقائه في السلطة فعمد إلى بث الخلافات بينها عملا بمبدأ «فرق تسد». وحذر محللون وخبراء سياسيون من أن القذافي قد يلجأ إلى تسليح القبائل الموالية له لدعم نظامه في مواجهة القبائل التي أعلنت دعمها لإسقاطه، الأمر الذي ينذر بحرب أهلية في ليبيا لا يعلم مداها إلا الله.

وبدأ القذافي يوم الثلاثاء الماضي في التفاوض مع قبائل غرب ليبيا لضمان ولائها له في مواجهة القبائل التي انشقت وأعلنت دعمها للثوار، حيث أرسل القذافي عددا من أعوانه للتحدث مع شيوخ القبائل في الزاوية وصبراتة، غرب طرابلس، من أجل السيطرة على حركة الاحتجاجات ومنع التحرك في اتجاه طرابلس، التي ما زال القذافي يقيم فيها. وعلى الجانب الآخر، أبدت مصادر ليبية رفضها لنظرية القبائل التي تتحكم في مصير البلاد، قائلة «ليبيا دولة مدنية وبعيدا عن دور الجيش، فإننا دولة بها عائلات كبيرة مثلنا مثل مصر أو تونس أو أي دولة أخرى، لكن هذه القبائل والعائلات لا دور لها في إبقاء القذافي أو الإطاحة به، الأمر كله بيد الشعب والجيش من دون تصنيف أي منهما إلى قبائل».

ودائما ما يخلف السؤال عن مستقبل الحكم في ليبيا بعد القذافي إجابة واحدة، وهي أن سيناريو التوريث يتصدر المشهد الذي غاب عنه أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين شاركوا القذافي في ثورة «الفاتح» عام 1969، خاصة أن النظام السياسي الذي فرضه القذافي منذ توليه السلطة لا يسمح بإقامة أحزاب، ولا يوجد في ليبيا برلمان، بل مؤتمرات شعبية تعقد اجتماعاتها 3 مرات سنويا لاتخاذ القرارات التي تهم الشعب، وكثيرا ما غيرت تلك المؤتمرات من قراراتها لأنها تعارضت مع رغبات القذافي، ومؤتمرات محلية في المحافظات لإدارة شؤونها، تحل محل الأجهزة التنفيذية في الدول الأخرى.

ويبدو على الساحة أن سيف الإسلام القذافي هو أقوى المرشحين لخلافة والده، وهو لا يشغل أي منصب أو موقع رسمي، ورغم ذلك تحدث عبر التلفزيون والصحف أكثر من مرة في الأزمة الأخيرة. وظهر القذافي الابن، المولود في يونيو (حزيران) 1972، على المسرح السياسي الليبي منذ عام 2000 ولعب أدوارا مهمة في الشأن العام الليبي الداخلي والخارجي دون أن يشغل منصبا رسميا، ووصف سيف الإسلام كثيرا بأنه يحاول الخروج عن خط والده، ورغم أنه أعلن في عام 2008 اعتزاله العمل السياسي وابتعاده عن أي مناصب سياسية، فإن ذلك لم يغير النظرة إليه كخليفة محتمل لوالده.

ورغم أنه لم يتلق تعليما أو تدريبا عسكريا فإنه يحمل رتبة رائد في الجيش الليبي دون أن ينتسب للمؤسسة العسكرية، وأنشأ عام 1998 مؤسسة القذافي الخيرية للتنمية وتولى رئاستها.

ولعب سيف الإسلام دورا مهما في تسوية «ملف لوكيربي»، الذي اتهمت فيه ليبيا بإسقاط طائرة «بان أميركان» المتجهة إلى نيويورك فوق بلدة لوكيربي باسكوتلندا، ودفعت ليبيا بموجب هذه التسوية مبلغ 2.7 مليار دولار لضحايا تلك الطائرة. وكان له دور محوري في تسوية أزمة الممرضات البلغاريات اللاتي حكم القضاء عليهن في عام 2004 بالإعدام ومعهن طبيب فلسطيني بتهمة نقل فيروس الإيدز إلى 438 طفلا ليبيا في مستشفى بنغازي توفي 56 منهم، وأفرج عنهم في يوليو (تموز) 2007.

ودائما ما كانت تثير خطابات سيف الإسلام دهشة وتساؤل من يستمع إليها لأنها كثيرا ما تتضمن انتقادات لاذعة للنظام الليبي، رغم أن والده هو رأس ذلك النظام. وتظل القبائل الليبية لاعبا مهما على الساحة السياسية، وتتميز تلك القبائل، التي يقدر عددها بنحو 140 قبيلة ومجموعات عائلية لها امتدادات جغرافية عبر الحدود، بأن أغلب أصولها عربية، إذ تعود لقبيلتين عربيتين نزحتا من الجزيرة العربية هما «بني سليم» التي استقر غالبيتها في برقة، و«بنو هلال» الذين استقروا ناحية الغرب إلى طرابلس، وقبل الدخول العربي لليبيا كانت القبائل الليبية الأصيلة من البربر الذين ينتهي نسبهم إلى واحد من أصلين: البرانس أو البتر.. لا يزال البربر وأيضا الأمازيغ يشكلون جزءا من النسيج القبلي لليبيا، وإن كان بنسبة بسيطة جدا في حدود 3 في المائة، ويتوزعون بشكل خاص في جبل نفوسة.

ويبلغ عدد القبائل الكبيرة أو تلك التي لها تأثير على مجريات الأمور نحو 30 قبيلة، وبخلاف قبيلة القذاذفة التي تتألف أساسا من الرعاة البدو ويتركز أبناؤها في سرت وسبها وطرابلس وبنغازي، تعد قبيلة «ورفلة» أكبر قبائل ليبيا عددا إذ يبلغ عدد أبنائها نحو مليون شخص، من بين 6 ملايين نسمة هم عدد سكان ليبيا، وينتشر أبناؤها في مدن بني وليد وسرت وطرابلس وبنغازي، وتشهد تلك القبيلة انقساما، فبينما تقول مصادر إن تلك القبيلة ما زالت محافظة على ولائها للقذافي، أصدرت شخصيات بارزة بالقبيلة بيانات تأييد للثورة، ودعوا القذافي لمغادرة البلاد.

وتضاربت الأنباء حول حجم المعارضة داخل تلك القبيلة، التي اشتهر أبناؤها من الضباط بالقيام بمحاولات انقلابية ضد القذافي. ويتوقع الكثير من المحللين أن يسقط نظام القذافي بسرعة إذا انشقت تلك القبيلة عنه وانضمت للثوار. وتعد قبيلة المقارحة من أهم القبائل الليبية التي يتوقف على موقفها سقوط القذافي من عدمه، أي أنها إذا انشقت سرعان ما سيسقط القذافي، ويتولى عدد كبير من أبناء تلك القبيلة مواقع أمنية حساسة. إلا أنها لم تعلن حتى الآن عن موقفها، ومن أبرز أبنائها عبد السلام جلود الذي كان الرجل الثاني في ليبيا حتى منتصف التسعينات، وكذلك عبد الله السنوسي رجل الأمن القوي الذي يتولى حاليا حماية باب العزيزية حيث يقيم القذافي، كما كلفه القذافي بمهام خاصة، كان آخرها إخراج نجله «الساعدي» من بنغازي حيث حاصره الثوار وكادوا يفتكون به، إلا أن السنوسي، الذي تربطه علاقة مصاهرة بعائلة فركاش التي تنتمي لها زوجة القذافي، توجه إلى بنغازي على رأس قوة من 1500 من أفراد الصاعقة ونجح في إعادة الساعدي سالما إلى طرابلس.

وما زالت قيادة قبيلة المقارحة تقر بالعرفان للمجهود الذي قام به نظام القذافي لاستعادة ابنها، عبد الباسط المقراحي، من سجنه بأوروبا بعد أن أدين بتفجير طائرة لوكيربي. لكن هذا لا ينفي، حسب المصادر، من أن عددا من أبناء المقارحة، يشاركون مع أبناء القبائل الأخرى في الاحتجاجات ضد القذافي، خاصة في المدن الواقعة شرق وجنوب طرابلس.

وهناك قبيلة الفواتير التي تعد من أكبر القبائل الليبية من حيث التعداد ومركزهم هو مدينة زليتن شرق طرابلس وبنغازي، وقبيلة ترهونة التي تنحدر من قبيلة هوارة التي تنتشر من تاجوراء حتى مدينة طرابلس، وقال المتحدث باسم القبيلة عبد الحكيم أبو زويدة «إن شيوخ قبيلته، التي تشكل ثلث سكان العاصمة طرابلس، أعلنوا تبرؤهم من النظام وانضمام القبيلة للمتظاهرين ضد (الطاغية) ودعوا أبناء القبيلة للانضمام إلى الثورة»، مشيرا إلى أن القبيلة ينتسب إليها معظم جنود الجيش.

وهناك أيضا قبيلة الزوية التي تستوطن جنوب ليبيا حيث توجد المناطق النفطية، وتلك القبيلة أعلنت انضمامها للثوار مهددة بوقف تدفق النفط إلى البلدان الغربية في حال عدم وقف قوات الأمن إطلاق النار على المتظاهرين، كما انضم كذلك عدد من القبائل للثورة مثل قبائل «الزنتان وبني وليد والعبيدات».

أما قبيلة الطوارق فيعيش أغلب أفرادها في الجنوب حول مدينة غدامس ولهم بعض البطون في دول الجوار الليبي ويشتهرون بزيهم ذي الطابع المميز واللثام ولغتهم الأمازيغية، ومن أبرز أبنائها الروائي إبراهيم الكوني، المقيم في سويسرا، وهو صديق شخصي للعقيد معمر القذافي. وانضم بعض أبناء الطوارق إلى الثوار وهاجموا مقرات حكومية تابعة للقذافي، وهناك أيضا قبيلة كراغلة التي ينتشر أغلب أفرادها في الساحل الليبي ويتركزون في المناطق الغربية وتحديدا في طرابلس ومصراتة.

أما قبيلة المجابرة، فتتركز في مناطق جنوب غربي طرابلس قرب منطقة الجبل الغربي، وينتمي إليها أبو بكر يونس جابر، وزير الدفاع الليبي لفترة طويلة، ويكثر أبناؤها في مناطق جالو، وما حولها بالقرب من حدود إقليم طرابلس، لكن يقيم عدد من مشايخ هذه القبيلة في بنغازي.