«خوجا» الإسلام السياسي في تركيا

وفاة نجم الدين أربكان السياسي الذي مهد الطريق لحزب العدالة والتنمية لتسلم السلطة

نجم الدين أربكان («الشرق الأوسط»)
TT

هو لم يكن خوجا (معلم) الإسلام السياسي في تركيا فحسب، بل كان خوجا تركيا بأسرها على مختلف مشاربها وميولها وتوجهاتها. كان يتطلع إلى بناء مجتمع يعيش فيه باحترام وتأسيس دولة قوية تكون نموذجا إقليميا وحافزا للدول الإسلامية لتبدأ هي الأخرى حملات التغيير والتحديث. كان الشخصية التي حملت الإسلام السياسي إلى قاعات البرلمان التركي ومكنت الإسلاميين من تسلم السلطة أو المشاركة فيها لأكثر من مرة. نجم الدين أربكان «المجاهد»، وهو اللقب المحبب إليه، توفي الأسبوع الماضي تاركا من ورائه حياة حافلة بالإنجازات والمشاريع التي جعلت منه الشخصية التي فتحت الطريق أمام حزب العدالة والتنمية لتسلم السلطة قبل 8 أعوام والبقاء فيها كما يرى الكثير من المحللين السياسيين الأتراك.

حياة أربكان كانت دائما عبارة عن جهاد يحمله إلى السلطة أحيانا ثم يحظر حزبه ويمنع من العمل السياسي أحيانا أخرى فيعود إلى سجنه مرة أخرى ينتظر الفرج. أربع مرات منعت الحركات السياسية التي قادها من العمل وتلقى الكثير من الضربات نتيجة لها حتى من أقرب أعوانه وأنصاره، لكنه نسي وعفا دائما. كان كثير التنقل بين المحاكم والسجون والكاتب العدل لتسليم مستندات تشكيل الأحزاب السياسية الجديدة بعدما كانت تحظر الأحزاب التي يؤسسها. لكنه تنقل أيضا بين «النظام الملي» و«السلامة» ثم «الرفاه» و«الفضيلة» ليكون «السعادة» مسك الختام. كان لا يتراجع عن الطريق الذي يقتنع أنه الصحيح والواجب اتباعه، وأنه هو الذي قد يقود البلاد نحو الأحسن والأفضل كما يرى محمد التان الأكاديمي والكاتب التركي.

ولد أربكان في أسرة متدينة عام 1926 في مدينة سينوب الواقعة في شمال تركيا والمطلة على البحر الأسود، حيث كان والده محمد صبري يعمل قاضيا، وتتولى والدته السيدة قمر، تلقينه منذ نعومة أظافره العلوم الإسلامية وتعرفه عن قرب إلى العادات والتقاليد والأعراف التركية. تنقل في أكثر من مدينة ومدرسة بسبب طبيعة عمل الأب، لكنه أثبت تفوقه الدائم الذي أوصله إلى ألمانيا لينال الدكتوراه في حقل الهندسة الميكانيكية ويعود للعمل في جامعة إسطنبول التقنية إحدى أهم المؤسسات التعليمية التركية. نجاحه الأكاديمي جعله يضع بالتعاون مع الشركات الألمانية حجر الأساس لمشروع «المحرك الفضي» لدبابات «ليوبارد -1».

عندما سئل لماذا لم يرجح العمل الأكاديمي الذي كان ناجحا فيه بشهادة الكثير من زملائه وأساتذته، قال: «قد يحصل أحدنا على أكبر وأهم الجوائز العلمية، لكنه لا يفهم شيئا من حياته، فما قيمة الجوائز عندها؟». الحياة بالنسبة له أهم من ذلك؛ هي عبارة عن إيمان وجهاد كما نقل الكاتب صالح تونا عنه.

تزوج عام 1967 من السيدة نيرمين التي توفيت قبل 5 سنوات وأنجب منها 3 أولاد وكان منذ البداية يعد نجله فاتح ليحمل الراية ويتابع المسيرة كما عرفنا في السنوات الأخيرة. بدأ حياته السياسية نائبا مستقلا عن مدينة قونيا في قلب الأناضول عام 1969 بعدما رفضت الأحزاب اليمينية منحه فرصة دخول المعترك السياسي عبر لوائحها. وبعد عام واحد فقط أسس أول حركة سياسية تحت اسم «النظام الملي» على أسس وقواعد إسلامية معتدلة.

عمر فاروق قرقماز، أحد أقرب المستشارين إليه، يصفه بأنه كان رائد الفكر الملي وأنه تعرف إلى النقشبندية منذ صغره وتأثر بها وأنه حمل عنوان أول رئيس حكومة تركية بطابع إسلامي. بعد تأسيسه أول حزب سياسي بتوجهات إسلامية في البلاد عام 1970 صدر قرار حله ولم يمض عليه سوى تسعة أشهر فقط بتهمة المعاداة للعلمانية والخروج عن دستور البلاد، وذلك في أعقاب أزمة سياسية عاصفة في تركيا.

عام 1973 أطلق أربكان حزب «السلامة الوطنية» بعد «النظام الملي» ودخل من خلاله الانتخابات العامة التركية ليحصد 50 مقعدا في البرلمان جعلته الشريك الجديد في حكومة ائتلافية برئاسة اليساري بولند أجاويد. وليبدأ من هناك حملة تحديث شاملة في مدارس الأئمة ويضاعف عددها ويحمل الكثير من البيروقراطيين الإسلاميين إلى مواقع القيادة في السلطة.

انقلاب عام 1980 العسكري أطاح به وبحزبه وقاده إلى السجن ليخرج بعد 3 سنوات في عهد القيادي الليبرالي الإصلاحي تورغوت أوزال معلنا ولادة حزب «الرفاه» هذه المرة، وليتخلى عنه مجددا بعد قرار الحظر الجديد ويعود مع «الفضيلة» الذي منع هو الآخر.

عام 1995 حقق انتصارا انتخابيا كبيرا من خلال انتزاع الحصة الأهم في البرلمان والدخول في ائتلاف حكومي مع حزب «الطريق الصحيح» اليميني، إلى أن انقلب عليه الحلفاء أمام تحذيرات المؤسسة العسكرية والقوى العلمانية المتشددة التي كانت تحاربه على كل الجبهات، والتي حققت غايتها إبان انفجار 28 فبراير (شباط) عام 1997 من خلال التلويح بانقلاب عسكري لم يحدث، فانقلبت المعادلات السياسية الداخلية رأسا على عقب، وتم إغلاق حزبه مرة أخرى ومنع من ممارسة العمل السياسي لخمسة أعوام كاملة. فهو أغضب الجناح العلماني واستفزه حقا عندما قال إنه سيأتي يوما يقف فيه رؤساء الجامعات يؤدون التحية للطالبات المحجبات المحظور عليهن دخول الحرم الجامعي بحجابهن.

وهكذا اضطر بعد أحداث 28 فبراير إلى مغادرة الحكومة والحكم مرة أخرى، مما دعاه لإدارة حزبه الجديد «الفضيلة» من وراء الستار قبل أن يغلق هو الآخر في مطلع عام 2000، لتبدأ مرحلة الانشقاقات في صفوف الإسلاميين وينفصل التلامذة الشبان عنه بقيادة أردوغان وغل وأرنش، معلنين ولادة «العدالة والتنمية» عام 2002. حكم عليه بالسجن بتهمة التزوير واختلاس أموال حزبه «الرفاه»، فسجن، لكن هيئة المحكمة قررت تحويل قرار سجنه إلى إقامة إلزامية في منزله ليصدر الرئيس التركي غل عفوا عنه عام 2008. وصفه هو بأنها خطوة مشكورة.

طه أقيول، الصحافي في جريدة «ميليت»، يقول: «ربما ميزته الأكبر كانت تمسكه بحماية صعود الإسلام السياسي في تركيا، وفي أكثر من مكان، ضمن بوتقة العمل البرلماني والديمقراطية، مع أن الفرص الكثيرة كانت سانحة أمامه لإطلاق حملة تغيير جذرية، رفضها هو كما فعل عام 1997 إبان انفجار 28 فبراير، حيث كانت الملايين تنتظر إشارته للتحرك ردا على رسائل الجيش التصعيدية فقال: (اجلسوا في منازلكم ولا تغادروها)».

انتقد استراتيجية تركيا اتجاه الاتحاد الأوروبي: «هذا النادي المسيحي الذي يحاول التلاعب بنا». كانت الصهيونية العالمية في مقدمة من استهدفهم طيلة حياته السياسية، فهو من أنصار القضية الفلسطينية واسترداد القدس عربية.

أربكان الذي لم يكن يحب كثيرا الرحلات الخارجية قرر عام 1996 القيام بجولة آسيوية تشمل ماليزيا واندونيسيا وإيران لإطلاق مشروعه الاستراتيجي الإقليمي « دي-8» الذي يضم مجموعة من دول العالم الإسلامي الصناعية لتكون نواة تكتل أوسع يوحد العالم الإسلامي صناعيا وتكنولوجيا في وجه التكتلات الغربية التي يزداد عددها. وربما كانت فكرته هذه بين الأسباب التي لجأ إليها المدعي العام التركي لاستخدامها ضده وهو يعمل على حظر حزبه السياسي وقتها.

جمال الدين تاشجي، أحد الصحافيين الذين تابعوه عن قرب في حياته السياسية، يردد: «قد لا تتفقون معه، وقد لا تحبونه، لكن عليكم أن تسلموا له بتميزه وبعبقريته في الإدارة والتخطيط. بكبسة زر واحدة تصدر عشرات الآلاف من نسخ (جريدة ملّي) اليومية التي أشرف على إصدارها لتكون الناطق الرسمي باسم حركته، وبكبسة زر أخرى كان يستطيع تحريك عشرات الآلاف من (وقف الشباب الملي) المنتشرين في أنحاء العالم كافة. ربما هذه هي أهم ميزات العقل المدبر والقائد السياسي أربكان)». الكاتب الإسلامي المعروف علي بولاش يقول إنه تعلم أن يضع رابطة عنقه في جيبه ليستخدمها في مكانين؛ مرة عندما كان يريد المثول أمام هيئة المحكمة لأن ذلك كان يعتبر من الأسباب المخففة للحكم. ومرة أخرى، عندما كان يريد أن يقابل أربكان الذي كان دقيقا وحذرا في مثل هذه المسائل التي لا تفوته إطلاقا. سنديانة الإسلام السياسي التركي هي التي تسقط اليوم مع الأسف، كما ردد بولاش.

المقربون منه يجمعون على أنه حتى عندما كان يريد أن ينتقد أحدا، كان حذرا في أسلوب النكتة ومعيارها، فهو عندما هاجم تلامذته الذين انشقوا عليه في مطلع عام 2000 مثل رجب طيب أردوغان وعبد الله غل، قال: «كنا في حصة التدريس فوجدت أن بعضهم غادر القاعة وذهب ليلعب الكرة في الحديقة الخلفية»، غامزا من قناة أردوغان الذي يعشق الكرة. أفكار أربكان وطروحاته وشعاراته الإسلامية حولته إلى هدف دائم للعلمانيين، ودخل في مواجهات الكر والفر مع المؤسسة العسكرية التركية أكثر من مرة، وهي التي قادت عملية الإطاحة به عام 1997. لكن رئيس الأركان التركي اشق كوشنير يقول في رسالة التعزية التي وزعها: «إنه الشخصية الأكاديمية والسياسية التي قدمت الكثير من الخدمات لتركيا حتى في آخر أيام حياته».

كان السباق في حمل أول نائبة محجبة إلى البرلمان التركي مروة قواقجي، مما عرضه لانتقادات وهجمات شرسة للعلمانيين المتشددين في تركيا، ومما ألزمه بدفع الثمن السياسي الباهظ عام 1999 من خلال الإطاحة به وبحزبه.

بين المتربصين الدائمين به، كان هناك المدعي العام التركي والمحكمة الدستورية والمحاكم العليا في سلك القضاء. كانوا يجبرونه على المغادرة، لكنه كان دائما يعود أقوى مما كان عليه في السابق.

كان كتاب «الرؤية الملية» الذي أصدره في أواخر الستينات الدليل النظري والعملي لتحديد استراتيجيات ومواقف حركاته السياسية وقواعده الشعبية. وهو لم يغير في مواقفه وتطلعاته رغم مرور عشرات السنين على فكرة النظام الملي التي تبناها.

شخصيته كما يقول الكاتب الإسلامي أحمد تاش غتيران، ترى أن خدمة البلاد هي أيضا جزء من العبادة، وأن انتشال تركيا مما هي فيه له علاقة مباشرة بإنقاذ العالم الإسلامي من مشكلاته. كان الأجرأ بين عشرات السياسيين الكبار الذين اختار غالبيتهم الصمت والسكوت في الوقت الذي وقف هو فيه يصرخ ويهاجم وينتقد من دون خوف.

أحمد هاقان، الإعلامي القادم من جذور إسلامية، يقول: «كان خياليا إلى ما لا نهاية.. علميا وعمليا إلى أبعد الحدود.. شخصية عادية جدا، من دون عقد أو تعقيدات، لم تفارقه أبدا ميزة الاحترام والتواضع».

لم يفارقه الحلم والخيال للحظة واحدة مع أنه كان في الـ85 عندما قرر التحرك من الصفر في إطلاق مشروع سياسي جديد يعيده هو وحزبه إلى السلطة غير عابئ بأنه يتنقل على كرسي متحرك في آخر أيامه.

لعب دورا رياديا في تحريك الرماد تحت الكثير من المسائل الحساسة في تركيا، وفي رفع الغبار عن الكثير من الملفات المهملة، وكلها لها علاقة بالهوية والانتماء والمستقبل، وكان بذلك اللاعب الأساسي في إطلاق أكثر من حوار سياسي واجتماعي وفكري في تركيا أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم من صعود وازدهار ورفاهة؛ كما يرى الكثير من أنصاره.

أغنى القاموس السياسي التركي بالكثير من المواقف والطرف والمصطلحات، كما يقول يافوز دونات الكاتب والصحافي التركي. كان رجل النظرية والتطبيق.. تعلم العمل التنظيمي الحزبي من أهم كوادر التنظيمات اليسارية من دون أن يقرأهم حتى؛ كما يقول البعض. تحالف مع اليساريين واليمينيين من أجل الوصول إلى السلطة لا فرق؛ المهم إيصال الإسلاميين إلى ما يريدون. عاد إلى رئاسة حزب «السعادة» بعد خلافات داخلية أطاحت بنعمان كورتولموش الذي غادر يؤسس حزبه البديل ويترك أربكان في «السعادة» يعيد تنظيم صفوفه وربما تسليمه إلى نجله فاتح. ودع الحياة من على فراش المرض وفي الـ85 عاما، لكنه كان حتى اللحظة الأخيرة يجري وراء الحلم ولا يتخلى عنه؛ وهو إيصال حزبه إلى السلطة. حتى عندما فاجأه الموت في غرفة المستشفى كان منهمكا في وضع اللمسات الأخيرة على مشروع سياسي يوحد الكثير من أحزاب وشخصيات المعارضة في تركيا ضمن تكتل واحد يخوض من خلاله انتخابات يونيو (حزيران) المقبل. بعد نزاع طويل مع المرض رحل أربكان عندما خذله قلبه وتوقف، لكن قلوب الملايين من محبيه ومناصريه كانت تخفق وبقوة أمام جامع الفاتح في إسطنبول تعاهده على المضي في حمل الرسالة وتهتف باسمه وبالولاء له وعدم الخروج عن الخط الذي رسمه.

سخرية القدر هي أن يفارق الحياة قبل يوم واحد من 28 فبراير (شباط) تاريخ الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد ودفعته هو إلى التنحي عن السلطة بعد مواجهة عنيفة مع المؤسسة العسكرية.