الجزائر.. احتجاجات ينقصها الزخم

أصل الأزمة سياسات الحكومة العرجاء.. ولكن «تنسيقية الديمقراطية» عاجزة عن حشد «أبناء حالة الطوارئ» حول مطلب تغيير النظام

جانب من المظاهرات التي شهدتها إحدى المدن الجزائرية في الفترة الأخيرة (رويترز)
TT

«أبناء حالة الطوارئ» هو الوصف الذي أطلقه نشطاء سياسيون وقادة أحزاب معارضة بالجزائر، على مئات من الشباب خرجوا ليلة 5 يناير (كانون الثاني) الماضي، للتعبير عن سخطهم من أوضاع وصلت إليها الجزائر، بلد نفطي قطاع واسع من سكانه يعاني العوز. ولإعطاء مضمون سياسي لحركة الاحتجاج التي أطلقها الشباب، عقد هؤلاء النشطاء والقادة اجتماعا في خضم الأحداث، وأطلقوا ما عرف بـ«التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية». وتم ربط المبادرة بشكل آلي برياح التغيير التي هبت على الجارة الشرقية تونس.

تفسيرات كثيرة أعطيت تفسيرات لأحداث 5 يناير. فبينما أطلق عليها الإعلام الموالي للحكومة اسم «ثورة الزيت والسكر»، واعتبرها وزير الداخلية دحو ولد قابلية عاكسة لفشل سياسات الحكومة في حل مشكلات الشباب، قالت المعارضة إن الأمر يتعلق بـ«ثورة شعب يريد تغيير نظام غارق في الفساد، ويرغب في رحيل رئيس عاجز عن الوفاء بتعهداته في ضمان العيش الكريم للجزائريين».

وخلفت المواجهات بين الشباب الغاضب وقوات الأمن ثلاثة قتلى، وانتشرت الاحتجاجات في 20 ولاية جزائرية كما تنتشر النار في الهشيم. وتناقلت وسائل الإعلام أخبارا مفادها أن جهات في السلطة حركت الشارع لدفع الرئيس إلى الاستقالة. وقال وزير الدولة عبد العزيز بلخادم، رجل ثقة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خلال اجتماع حضره رؤساء بلديات ينتمون لحزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم الذي يرأسه، بأن «شيئا ما يطبخ ضد الرئيس». وفهم البعض بأن ساعة رحيل بوتفليقة حانت وهو الذي يصمم على قضاء ما بقي من حياته فوق كرسي الرئاسة.

ولما شعر رجال السلطة أن الأحداث «من فعل فاعل»، شن بعضهم هجوما عنيفا على «من يقفون وراء ثورة الشباب». فقال وزير الداخلية بأن ما حدث «تصرفات إجرامية قام من خلالها الشباب بالتهجم على البنايات العمومية وسرقة المحلات التجارية». وتركت تصريحاته الانطباع بأن العنف الذي مارسه الغاضبون «لا يعدو أن يكون ثورة صعاليك وظفتها أطراف أزعجتها إجراءات اتخذتها الحكومة لتطهير الاقتصاد من الطفيليين». ولمح الوزير ولد قابلية إلى ذلك بقوله «إن هذه الأعمال تنم عن نزعة انتقامية إذ إنه ليس لمرتكبيها الشباب أي علاقة بالمشكلات الاقتصادية».

وفي خضم الاحتجاجات ومحاولات الحكومة لاحتوائها، عقد نشطاء سياسيون وقادة أحزاب وحقوقيون ونقابيون، اجتماعا بالضاحية الشرقية للعاصمة لتأطير الحركة الاحتجاجية. كان من بين هؤلاء، المحامي مصطفى بوشاشي رئيس «الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «التقينا يوم 8 يناير ووجهنا نداء إلى المجتمع المدني يدعو إلى تأطير مطالب الشباب الغاضب، وقلنا بأن النظام هو من يتحمل مسؤولية الاضطرابات الخطيرة التي وقعت لأنه هو من قيد الحريات وتنكر للحقوق ورفض كل شكل من أشكال التعبير بطريقة سلمية. وأطلقنا لأول مرة على الشباب الغاضب وصف: أبناء حالة الطوارئ، لاعتقادنا أن الوضع الاستثنائي الذي عاشته البلاد خلال عشر سنوات من العنف، ترك بصماته على نفسية الشباب وبالتالي على تصرفاتهم وردود أفعالهم».

وانخرطت في هذه المعاينة التي أعطيت لـ«ثورة 5 يناير»، نقابات توصف بالمستقلة تشتغل في مجال التعليم والجامعة والإدارة، تحت إشراف حزب معارض يسمى «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية»، ورابطة حقوق الإنسان المحسوبة على المعارضة والتي اتهمتها السلطات في وقت سابق بـ«خدمة مصالح الإسلاميين المتطرفين». وعاد إلى الواجهة بهذه المناسبة، «شيخ الحقوقيين» علي يحيى عبد النور وهو من أشد خصوم النظام وله حساب طويل مع الوزير الأول أحمد أويحيى الذي قال عنه قبل سنوات: «لقد جعل مني رجلا بلا مأوى».

وقد احتدم خلاف داخل «تنسيقية التغيير» بعد فشل المسيرة الثانية التي نظمت يوم 19 من الشهر الماضي. (المسيرة الأولى نظمت يوم 12 فبراير/شباط منعتها قوات الأمن بالقوة) وظهر صراع للعيان في آخر اجتماع حول الجدوى من تنظيم مسيرة أسبوعيا، لا تثير اهتماما لدى الجزائريين. وانقسمت أطراف التنسيقية إلى طرفين: أحزاب تمسكت بتنظيم مسيرة كل يوم السبت تتوخى من ورائها الضغط باستمرار على السلطة لافتكاك تنازلات منها، وجمعيات ونقابات وفي مقدمتها الرابطة الحقوقية التي ترى أن الأولوية هي في شرح معنى التغيير الذي تنشده «التنسيقية». ويقول بوشاشي إن التكتل الذي قام غداة أحداث 5 يناير لا يستهدف الرئيس بوتفليقة شخصيا ولا يدعو إلى رحيله. مشيرا إلى أن الشعارات التي رفعت ضد الرئيس في المسيرتين الأخيرتين لم تكن محل اتفاق في اجتماعات «التنسيقية»، التي تذكر مصادر منها أن حزب «التجمع» بصدد جرها إلى المطالبة برحيل بوتفليقة وهو مطلب لا يحظى بالإجماع داخل التكتل.

ويتفق غالبية المحللين على أن حالة الاحتقان التي توجد في البلاد، سببها سياسات اقتصادية «عرجاء» أفرزت سوء توزيع ريوع النفط على الجزائريين. فقد ضخت الدولة في آلة الاقتصاد، مئات المليارات من الدولارات منذ مجيء بوتفليقة إلى الحكم قبل 12 سنة ومع ذلك ما زال الاقتصاد يعاني من تبعية شبه كلية لعائدات النفط. ويقول بشير مصيطفى الأستاذ المحاضر والباحث في الشؤون الاقتصادية، إن الدولة باشرت سلسلة من البرامج والإجراءات تشترك في السمات التالية:

إنفاق حكومي مهم توزع على 3 برامج كبرى هي: 80 مليار دولار (2001 - 2004). و150 مليار دولار (2005 - 2009) و286 مليار دولار (2010 - 2017) وبرامج مدعومة بمداخيل الدولة من عائدات النفط ومشدودة إلى أهداف معلنة تخص: التشغيل عند مستوى 3 ملايين منصب عمل، ونمو مستقر حول نسبة 5 في المائة خارج المحروقات، ونمو في مستوى 8 في المائة في القطاع الزراعي، وإطلاق 200 ألف مؤسسة خاصة جديدة من الحجم الصغير والمتوسط، إضافة إلى إنجاز مليون وحدة سكنية.

وقال مصيطفى لـ«الشرق الأوسط»: «لقد تعطل البرنامج الثاني بنسبة 40 في المائة بكلفة قدرها 50 مليار دولار، مما اضطر الحكومة إلى ترحيل المشاريع المخطط لها وغير المنجزة إلى البرنامج الثالث». ومع ذلك يرى مصيطفى أن إنجازات تحققت على الأرض وخاصة في قطاعات إذ تم تطهير ديون الفلاحين بمبلغ قدره 560 مليون دولار، والاكتفاء الذاتي في مجال إنتاج الحبوب والانتقال إلى التصدير في مادة الشعير. وفي مجال البناء والأشغال العمومية، إذ يجري إنجاز الطريق السيار شرق - غرب بكلفة مالية قدرها 11 مليار دولار. وفي مجال الشغل الذي يتميز باستحداث آليات كثيرة للتشغيل أبرزها «آلية تشغيل الشباب»، وصندوق «التأمين على البطالة» و«عقود الإدماج». وفي مجال التعليم والتكوين، إذ تم إطلاق مشاريع مهمة على صعيد البنى القاعدية والمنشآت. ويعتقد مصيطفى أن هناك ضخا معتبرا للسيولة، أعقبته سلسلة من القرارات تخص تسهيل الاستثمار بشكل عام والاستثمار الزراعي بشكل خاص، وإنشاء المناطق الصناعية بعدد 30 منطقة والتسهيل الضريبي وإشراك المؤسسات الجزائرية في الصفقات العمومية بنسبة إجبارية تقدر بـ25 في المائة، ولصالح المؤسسات المصغرة بنسبة 20 في المائة، إضافة إلى استحداث آليات جديدة لضمان القروض في كل القطاعات بما فيها الفلاحة.

ولم تكن النتائج على الأرض، حسبه، مواتية لتدفق السيولة فعدا الاستقرار في المؤشرات الكلية للاقتصاد وخفض المديونية الخارجية إلى مستوى مريح يقدر بـ4 مليارات دولار عام 2010، بعد أن تجاوزت سقف 30 مليار دولار عام 1999، تبقى مؤشرات التنمية ضعيفة حيث نلاحظ ما يلي: ما زال النمو الاقتصادي أقل من الأهداف المعلنة: 2.4 في المائة وما زال النمو في القطاع الصناعي سالبا: ناقص 2.7 عام 2010، وما زال الحد الأدنى للأجور منخفضا: 200 دولار. وما زال رقم البطالة مقلقا: 10 في المائة حسب الإحصائيات الرسمية، 20 في المائة حسب الخبراء. وما زال التضخم مكلفا بالنظر للحد الأدنى للأجور: 5.4 في المائة حسب الأرقام الرسمية، أكثر من 10 في المائة حسب الخبراء.

وما زالت نسبة الفقر تبعث على القلق: 6 في المائة حسب الحكومة، 40 في المائة حسب الخبراء. وما زال الأداء المصرفي ضعيفا: توظيف الادخار يعادل 28 في المائة. وما زال سعر صرف الوطنية منخفضا: 74 دينارا مقابل دولار واحد على الرغم من وفرة الاحتياطي من الصرف. وما زال التصدير خارج المحروقات ضعيفا: 3 في المائة من حجم الصادرات. وما زال حجم الاستيراد مقلقا: 40 مليار دولار في 2010.

ويطلق الخبير مصيطفى على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للجزائر، وصف «النمو دون تنمية حقيقية». وتعود أسباب ذلك، حسبه إلى «غياب رؤية اقتصادية حتى لا نقول غياب استراتيجية اقتصادية التي ينبغي أن توجه البرامج التنموية. وقد نتج عن ذلك، اعتماد مفرط على الإنفاق الحكومي ولكن في قطاع البنى القاعدية والأشغال العمومية والمنشآت، وهي قطاعات ذات مردودية على المدى البعيد وليس القريب وهي ليست منتجة للثروة. وإهمال المؤسسة المنتجة ضمن أولويات البرامج المخططة وخاصة في القطاع الصناعي والصناعات التحويلية. وضعف أداء الحكومة في إدارة أصول القطاع العام. وضعف الإدارة الاقتصادية للدولة: 1.5 مليون منصب في الوظيفة العمومية. وضعف الأداء المصرفي في تمويل الاقتصاد، بسبب الإفراط في تقييم المخاطر وهيمنة البنوك العمومية على القطاع المصرفي، والتقصير في تكييف منظومة التعليم مع متطلبات سوق الشغل في محيط اقتصادي وطني وإقليمي يتصف المنافسة. عدم مواكبة الإدارة المحلية، والمؤسسات الإدارية لمحتوى البرامج المختلفة وخاصة ما تعلق بتكاليف التمويل أي كلفة رأس المال، نظام الجباية، بطء الإجراءات ذات الطابع البيروقراطي». ويلاحظ مصيطفى «عدم جاهزية إدارة العقار، أي أملاك الدولة، لمواكبة أهداف البرامج وخاصة العقار الصناعي والفلاحي. وتفشي ظاهرة الفساد المالي التي أتت على جزء مهم من الموارد المخصصة للاستثمار. وضعف مبدأ الديمقراطية الاقتصادية في توزيع المشاريع وفرص الاستثمار على الولايات، وخاصة ولايات الجنوب والهضاب العليا. وضعف الأداء الحكومي في متابعة تنفيذ المخططات، وفي تنفيذ برامج تأهيل المؤسسات المنتجة للثروة وللشغل أي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي لا يتعدى عددها 400 ألف مؤسسة».

يضاف إلى هذه المعاينة السلبية لأداء الاقتصاد، حسب الخبير، ضعف أداء البرلمان في جانب المساءلة ومجالس المحاسبة في مجال المحاسبة، وضيق هامش أداء المعارضة السياسية مما ساعد على تواصل أخطاء السياستين الاقتصادية والاجتماعية. زيادة على تهميش دور مؤسسات الاستشارة مثل «المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي». وللخروج من هذه الوضعية، يقترح مصيطفى رؤية جديدة لبرامج التنمية مبنية على نجاعة المؤسسة وإصلاح عاجل للجهاز المصرفي وللسياسة النقدية للبلاد. ويرى أن تغييرا حكوميا ضروري في الوقت الحالي، لفسح المجال أمام الكفاءات في إدارة الاقتصاد وتنفيذ المخططات، ودعم المعارضة السياسية الوطنية وخاصة تحفيز التشاور الاجتماعي والمهني حول أهداف التنمية الوطنية.