مصر تفقد الورقة الأخيرة في ملف النيل

بعد توقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية واكتمال النصاب القانوني لتطبيقها

TT

دخلت الأزمة بين مصر ودول حوض النيل مرحلة جديدة بتوقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية لتقسيم مياه النيل الثلاثاء الماضي، وهو ما كانت تحتاجه الدول الخمس الموقعة على الاتفاقية لتضعها في حيز التنفيذ، وفي انتظار تصديق برلماناتها كإجراء تكميلي، يجد المفاوض المصري نفسه أمام مأزق حقيقي، على خلفية عدم الاستقرار الذي تشهده البلاد في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون ثاني) الماضي.

وأربكت استقالة رئيس وزارة تسيير الأعمال الفريق أحمد شفيق خطوات العمل على ملف النيل في ضوء التطورات الأخيرة، حيث تقرر تأجيل اجتماع المجلس المصري للشؤون الخارجية بخصوص ملف حوض النيل، مما جعل مسؤولي المجلس في انتظار تعيين وزير جديد للموارد المائية والري للاجتماع به والتنسيق من أجل مواجهة الآثار المترتبة على توقيع بوروندي على الاتفاقية.

فيما أكد مصدر دبلوماسي مطلع رفض ذكر اسمه أن الفرصة والوقت لم تتح لإثناء بوروندي عن التوقيع، مضيفا أن الخطوة كانت مفاجئة للجميع وأن الفترة القادمة ستشهد تحركا مصريا نشطا وفعالا من أجل الحيلولة دون التصديق على الاتفاقية، مؤكدا أن الموضوع أصبح تحديا وطنيا وشخصيا بالنسبة للكثير من الدبلوماسيين في ملف أفريقيا.

وكانت خمس دول أفريقية من دول منابع نهر النيل قد وقعت منتصف مايو (أيار) الماضي على اتفاقية لإعادة تقسيم مياه نهر النيل تترك الحرية للدول المتشاطئة في استخدام مياه النيل دون الإضرار بباقي الدول وهو ما رفضته مصر والسودان، مؤكدين على ضرورة احترام اتفاقيات النهر وحاولت إثناء دول المنبع عنه.

ويعود التقسيم القانوني لمياه نهر النيل إلى زمن الاستعمار البريطاني لمصر، فأول اتفاقية كانت اتفاقية 1929 التي أبرمتها الحكومة البريطانية، بصفتها الاستعمارية، نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا) في عام 1929 مع الحكومة المصرية، وتتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه‏ النيل، وإن لمصر الحق في الاعتراض (الفيتو) في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده. وقد تحددت حصة مصر بـ‏ 48‏ مليار متر مكعب وحصة السودان بـ ‏4‏ مليارات متر مكعب سنويا.

ووسط دعوات بطرح الخيار العسكري كأحد الحلول في التعامل مع ملف النيل، خاصة في ضوء افتقار مصر لأي مصدر آخر للمياه، أكد السفير محمد إبراهيم شاكر رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية أن الأزمة لا بد أن تعالج بالطرق الدبلوماسية بمشاركة فعالة من المجتمع المدني وعن طريق إيجاد مصالح مشتركة بين الشعوب، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «استخدام الحل العسكري أصبح غير ملائم لحل الأزمات الدولية في العصر الحالي».

مشيرا إلى أنه على صانع القرار المصري ألا يكون منفعلا في الوقت الحالي، فبالهدوء والمفاوضات يمكن إقناع دول المنبع بمطالب واحتياجات مصر من المياه، فنصيب مصر كان 55.5 مليون متر مكعب (بعد زيادة نسبة الحصة المصرية مع بناء السد العالي ستينات القرن الماضي)، في وقت كان سكانها لا يتعدون 21 مليون نسمة والطبيعي ألا يتناقص نصيبها بعد أن تضاعف عدد سكانها أربع مرات.

من جهته أبدى محمد سالمان طايع، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، قلقه الشديد من الوضع الحالي في حوض النيل، قائلا: «الأمن القومي المصري يتعرض لخطر كبير حتى قبل توقيع بوروندي على الاتفاقية وذلك منذ عام 2001 عندما تم الاختلاف على الكثير من التفاصيل والقضايا مع دول المنبع».

وتابع: «وصل الأمر إلى ذروته بقيام خمس دول من دول المنبع بصورة انفرادية وبتجاهل تام لدول المصب بتوقيع اتفاقية إطارية لإعادة تقسيم مياه النيل، وما تبعها من تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي حول احتمالية استخدام مصر للحل العسكري في الخلاف حول مياه نهر النيل وهو ما زاد الأمور تعقيدا».

وطرح طايع آليات لتجاوز الأزمة تتلخص في التمسك بالمنحى الدبلوماسي الرسمي والتصرف بعقلانية وعدم تصعيد الأزمة، مشيرا إلى ضرورة إظهار القوة في التفاوض مع دول المنبع، قائلا: «القانون وحده لا يكفي.. وقانون القوة يتغلب دائما على قوة القانون»، لافتا إلى أن ذلك لا يعني بالضرورة التلويح بالحل العسكري ولكن هو تلويح بالقوة عبر استخدام الدبلوماسية الشعبية عن طريق الدبلوماسية.

وأضاف أن الأهم هو خلق مصالح مشتركة بين الطرفين عبر تطبيق نظرية «اربح – اربح» دون أن يتضرر أي طرف، مشددا على أهمية التحرك سريعا، وباتجاه إنشاء مشروعات تعاونية كبيرة لا تقتصر فقط على ملف المياه ولكن تتعداها إلى شؤون الزراعة والصناعة والتجارة ويمكن من خلالها تحقيق أكبر مكاسب ممكنة.

ونصح طايع بألا يتم ترك ملف مياه النيل لوزارة الموارد المائية لفشلها في إدارته خلال السنوات الماضية، مفضلا أن يتولى الملف وزارة الخارجية المصرية باعتباره ملفا أمنيا وسياسيا في المقام الأول.

لكن مصدرا دبلوماسيا أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن الاتفاقية الإطارية جاءت أساسا نتيجة لتراكم إهمال الخارجية المصرية لملف أفريقيا عامة ونهر النيل خاصة، وأشار إلى أن الدبلوماسيين العاملين بأفريقيا يعانون من غياب التقدير والاهتمام من الوزارة سواء بتقديم الحوافز أو بتوفير الإمكانيات اللازمة للاضطلاع بعملهم على أكمل وجه.

وأكد أن أفريقيا ومنذ أمد ليس بالقصير تعد مسرحا للمبعدين وغير المرضي عنهم من الدبلوماسيين المصريين.

من جانبه أوضح الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي العام، أن الاتفاقية الدولية التي وقعتها خمس دول من دول حوض النيل تحمل مبادئ أولية وتوجيهية إرشادية للأطراف الموقعة عليها فقط، ومن المفترض أن يليها بروتوكولات خاصة مفصلة ومفسرة للاتفاقية. وأشار إلى أنه بالنسبة للدول الموقعة فإنها جميعا، بالإضافة إلى بوروندي آخر الموقعين على الاتفاقية، هم أطراف سابقون في اتفاقية دولية عقدتها دول استعمارية بالنيابة عنهم كبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وبموجب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية لعام 1969 واتفاقية فيينا لعام 1978 المتعلقة بالتوارث الدولي للمعاهدات فإنه لا يجوز أن تقوم هذه الدول منفردة بتوقيع أي اتفاقيات متعلقة جديدة دون موافقة مصر والسودان والكونغو الديمقراطية الموقعين على الاتفاقية الأصلية بالإضافة لدولة جنوب السودان الوليدة والتي حصلت على استقلالها مؤخرا، فيما لا يعرف بعد موقفها الرسمي من الاتفاقية الإطارية.

وشدد سلامة على أن الوضع القانوني المصري سليم تماما وإن كان وضع مصر من الناحية العملية خطر للغاية، قائلا: «وفقا للقانون الدولي وأحكام المحاكم الدولية تتمتع دول المصب عامة بوضع متميز في الأنهار الدولية».

وحول خطورة توقيع بوروندي على الاتفاقية أوضح سلامة أنه في حالة عرض النزاع على محكمة العدل الدولية أو أي تحكيم دولي آخر ستكون هذه الدول في موقف واحد متكتل ضد دول المصب وخاصة مصر، وقال إن «دول المنبع ألحت على الحكومة المصرية مرارا وتكرارا من أجل إعادة طرح شروط جديدة للحصص المقررة في الاتفاقيات السابقة تراعي أيضا حقوق دول المنبع وتطلعها لتحقيق نموها الاقتصادي».

فيما رفضت مصادر بوزارة التعاون الدولي المصرية التصريح بأي معلومات تتعلق برد الفعل الرسمي المصري أو الإجراءات الجاري اتخاذها في تلك القضية، مضيفة أن الوزارة لم تدخر جهدا لتدعيم أواصر التعاون مع دول حوض النيل ولكن دون جدوى فيما يبدو.