«رئيس» الثورة الليبية

القاضي مصطفى عبد الجليل انشق عن نظام القذافي وتخلى عن حقيبة العدل ليرأس المجلس الانتقالي في بنغازي

TT

رحلة مضنية في خدمة الحق والعدالة قطعها القاضي مصطفى عبد الجيل على مدى عمره الذي يناهز 59 عاما، وباسمها تحمل ثقل الأمانة في لحظة مفصلية تعيشها حاليا بلده ليبيا. وبعد خمسة أيام من اندلاع الثورة الليبية ضد نظام العقيد معمر القذافي، وفي 21 فبراير (شباط) الماضي قدم القاضي عبد الجليل وزير العدل استقالته، وأعلن انضمامه لصفوف الثوار الليبيين ليكون بذلك أول مسؤول كبير يعلن استقالته من نظام القذافي، محتجا على الأوضاع الدامية واستعمال العنف والقمع بشكل مفرط ضد المتظاهرين.

وبعد أيام من أوج الثورة، وتحديا للمجازر التي ترتكبها كتائب القذافي الأمنية ضد الشعب الليبي الأعزل، أعلن عبد الجليل عن تشكيل مجلس وطني مؤقت برئاسته، ثم بعد ذلك تشكيل حكومة انتقالية مقرها مدينة بني غازي تضم 30 عضوا من شخصيات مدنية وعسكرية لتسير شؤون كل «المناطق المحررة»، على أن يتوج ذلك بانتخابات حرة ديمقراطية ونزيهة، يختار الشعب بموجبها نوابه ورئيسه بشكل ديمقراطي حر.

هذا التحول في شخصية القاضي مصطفى عبد الجليل الذي لفت إليه بقوة أنظار الإعلام في العالم، لم يكن غريبا على الليبيين. فالرجل الذي حظي باحترامهم عرف دوما بمواقفه الوطنية وأنه لا يخشى في الحق لومة لائم.

يروي الكاتب الليبي المعارض أحمد الفيتوري الذي قضى 10 سنوات في سجون القذافي، أن مصطفى عبد الجليل أول قاض في ليبيا يصدر حكما لصالح سجين. هذا السجين، ويدعى فرج الصالح، من منطقة «الشحات» بمحافظة البيضاء، قضى في السجن 15 عاما بتهمة الانضمام إلى حزب مضاد يعمل على إسقاط النظام. وقد حكم على هذا الرجل بالسجن 4 سنوات، لكنه ظل مسجونا لمدة 15 عاما. وخرج في عام 1988، ورفع قضية تعويض ضد الدولة لأن اتهامه في القضية باطل، وأنه لم يكن ينتمي إلى أي حزب أصلا. وأحيلت قضيته إلى القاضي مصطفى عبد الجليل، بمحافظة البيضاء. فحكم له في عام 1990 بتعويض مادي مقداره 300 ألف دينار ليبي. وجاء في حيثيات الحكم، أن هذه التعويض للمدعي فرج الصالح ولوالدته ولزوجته ولأولاده، وأن القاضي رأى أن هؤلاء متضررون مثل السجين، ولأنهم أقرباء له من الدرجة الأولى، وقد توفي والد السجين قبل أن يصدر هذا الحكم.

ويقول الفيتوري: «هذا الحكم أثار ضجة غير مسبوقة في ليبيا، خاصة أن القاضي عبد الجليل قفز به على قوانين القذافي الاستثنائية، واستند على مواثيق ومعاهدات دولية، وقعت عليها الدولة الليبية، في مقدمتها مواثيق حقوق الإنسان، واعتبر القاضي عبد الجليل أن لهذه القوانين قوة وفعل القانون المحلي. وكان جل ما يخشاه النظام أن يتحول الحكم التاريخي في هذه القضية إلى مثال يحتذى به، ويبنى عليه، خاصة أن هناك عددا كبيرا من الليبيين سيطالبون بالتعويض قانونيا عن سنوات سجنهم على غرار تلك القضية». ويضيف: «أخذت حيثيات هذه القضية، وكنت في زيارة لمصر، وقدمتها للمحامي المصري الشهير المرحوم نبيل الهلالي، لأرفع على غرارها قضية فقال لي: هذا انتصار تاريخي للعدالة وللحق، وإنه لأول مرة يرى حكما في قضية عربية من هذا النوع، حتى إنه قام واحتضنني، وشكرني لأنني جلبت له أوراق هذا الحكم».

بعد ذلك - وكما يقول الفيتوري - قام نظام القذافي بالالتفاف على هذا الحكم، وأرسل مبعوثا عن طريق صهر القذافي عبد الله السنوسي، إلى فرج الصالح، هو المرحوم عبد العاطي خنفر، وكان زميلا في السجن لصالح، وطلب منه تجميد القضية، فقبل ذلك تحت التهديد الذي وصل إلى حد التلويح بقتله هو وأسرته.

ملمح آخر من ملامح شخصية القاضي مصطفى عبد الجليل يضيفه رجل الأعمال خالد الترجمان، وهو من الأصدقاء المقربين منه، وأيضا لم يسلم من سجون القذافي حيث قضى بها نحو 10 سنوات. يقول الترجمان: «مصطفى عبد الجليل إنسان من الجبل الأخضر، تأثر بالخضرة وجمال الطبيعة، ويعرف قيمة الهواء النقي، وصفاء النفس والسريرة.. إنسان خلوق هادئ، بسيط، دمث الطباع، شجاع يمقت كل أشكال العنف والقهر، ومناصر للحرية والديمقراطية. في مؤتمر الشعب العام لم يكترث بتحفظات واعتراضات الجهات الأمنية التابعة لنظام القذافي وطالب بالإفراج عن كل المتهمين في قضايا سياسية، ودعا الجميع إلى السعي من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان».

ومنذ بداية تقلده منصبه الوزاري لم يغب عن ذهن عبد الجليل أنه يعمل في عهد أقل ما يوصف بأنه شمولي، لكنه رغم ذلك وجد لنفسه مساحة للتحرك خارج إملاءات النظام. وكما توقع فرضت عليه هذه المساحة أن يصطدم بالنظام مباشرة، أكثر من مرة، في الكثير من المواقف والقضايا الحساسة، لكنه لم يكن يجد غضاضة في أن يقدم استقالته احتجاجا على عدم تنفيذ أحكام القضاء واستمرار الأجهزة الأمنية في اعتقال أكثر من 300 سجين سياسي يقبعون في المعتقلات السياسية بـ«عين زارة» و«بوسليم»، رغم أن محاكم ليبية قضت ببراءتهم. لكن سلطات القذافي سرعان ما كانت تحتوي هذا الصدام مخافة أن يجد صدى واسعا في الشارع، نظرا لما يمتع به عبد الجليل من شعبية. لكن الأمر لم يسلم من انتقادات لاذعة وجهها عبد الجليل في تصريحات ولقاءات صحافية تدين «تغول جهاز الأمن الداخلي على أحكام القضاء»، ومحاولة غل يده والحد من سلطاته كفاض نزيه.

ويكشف الترجمان عن أن الناس تعودت أن يكون القاضي عبد الجليل في الطليعة، فكثيرا ما يلجأون إليه لفض بعض النزاعات والمشكلات التي تنشب بين القبائل وبعض العائلات الكبرى، خاصة في إقليم البيضاء، ويرضون بحكمه الذي يستند غالبا إلى الأعراف والتقاليد المستمدة من التراث الليبي.

ويروي الترجمان أن القاضي عبد الجليل، حين عرض عليه منصب وزارة العدل، لم يقبله من تلقاء نفسه، إلا بعد أن استشار واستفتى كل المقربين له، من الأهل والأصدقاء، وسألهم: هل يقبل المنصب أم لا، وكانت النتيجة أن الكل شجعه، لأن فيه خير للبلاد، وعلى الأقل لوقف الفساد الذي استشرى في العديد من الوزارات والهيئات الحكومية، والكثير من الهيئات القضائية.

يقول من يعرفه، إن حقيبة وزارة العدل التي تولاها في عام 2007، لم تغير شيئا يذكر من شخصية القاضي عبد الجليل. فأصر على أن يتحرك وسط الناس ويكون قريبا منهم، يجوب الشوارع والميادين بلا حراسة خاصة مثلما يقتضي البرتوكول الحكومي، وكان يتنقل بسيارته الصغيرة المتواضعة، ولم يكن لديه سائق، كما أن بيته في مدينة البيضاء ظل على ما هو عليه، بأثاثه ومفرداته البسيطة، مفتوحا لكل الناس، كما رفض أن يسكن في فيللا خاصة، وأصر على أن يسكن في استراحة قلم القضاء بمدينة بني غازي.

ولد القاضي مصطفى عبد الجليل بمنطقة الجبل الأخضر (مدينة البيضاء) في عام 1952، درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في البيضاء، وانتقل إلى بنغازي في عام 1970 للدراسة في جامعة قاريونس، وعندما تم ضم الجامعة الإسلامية إلى الجامعة الليبية، عاد عبد الجليل إلى مدينة البيضاء ليلتحق بكلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية قسم الشريعة والقانون وتخرج فيها في عام 1975.

يقول الشاعر الليبي سليم العوكلي من قرية قريبة من مسقط رأس عبد الجليل: «هو رجل رياضي شديد التواضع، ولاعب كرة قدم، وكان رئيسا لنادي الأخضر بالبيضاء، يلعب في صفوف اللاعبين القدامى، وهو رجل محب للثقافة والأدباء، ويبحث عنهم، وعلاقته بهم وثيقة جدا، كما أنه واسع الإطلاع والمعرفة في شتى المجالات، ويمتع برجاحة عقل، وتؤدة في تقييم الأمور، ولديه رهافة في الخيال. وهو شخص يجبرك على أن تحبه، حتى لو اختلفت معه، يجيد الإنصات إلى من حوله، ويبحث دائما عن المشترك الإنساني بين البشر».

عمل عبد الجليل لمدة 22 عاما قاضيا وأصدر أحكاما مؤثرة شهد لها الجميع وكانت سببا لأن يختاره سيف الإسلام نجل الرئيس الليبي وزيرا لوزارة العدل الليبية وهي المسؤولة عن المحاكم ومراكز الشرطة وتطبيق القانون الليبي. بعد تخرجه في الجامعة عين عبد الجليل مساعدا لأمين النيابة العامة في البيضاء، ثم رقي إلى قاض عام 1978، وتدرج في السلك القضائي حتى وصل إلى درجة رئيس محكمة استئناف، واختير وزيرا للعدل عام 2007، وسبق أن استقال أكثر من مرة بسبب انتهاكات للقانون ولحقوق الناس من قبل نظام القذافي.

يقارب القاضي عبد الجليل بين القذافي وهتلر، ويرى أن الأول سوف يلقى المصير نفسه الذي لقيه الثاني وهو الانتحار. ومن تصريحات عبد الجليل المثيرة إعلانه في مقابلة له نشرتها صحيفة «إكسبرسن» السويدية أنه يملك الدليل على أن معمر القذافي هو الذي أمر شخصيا بتنفيذ تفجير لوكربي عام 1988 الذي راح ضحيته 270 شخصا غالبيتهم من الأميركيين. كما صرح أن عدد القضايا المتراكمة في المحاكم الليبية تزيد على 70 ألف قضية، وأن ليبيا لا تتمتع بأحزاب أو طوائف فهي تحكم من القذافي حكما ديكتاتوريا متسلطا لا يوجد له مثيل في العالم، ولا يوجد بها جيش، وكل الكتائب التي تتسلح هي كتائب تحت تصرف أبناء القذافي؛ معتصم وهانيبال وخميس وأن المنطقة الشرقية التي سقطت في أيدي الثوار بالفعل هي منطقة معروفة بتاريخها النضالي الطويل حيث خرج منها عمر المختار.

وفي خضم حرب القذافي الشرسة على المدن الليبية حذر عبد الجليل من أن القذافي قد يرتكب ما وصفه بـ«حماقات» كاستخدام أسلحة جرثومية ضد المتظاهرين إذا شعر بالنهاية.

وعلى الرغم من أن القذافي يعرف مطار طرابلس جيدا، وأنه لن يعدم وجود طائرة، بل أسطول من الطائرات لنقله هو وأسرته خارج البلاد، فإن تكتيك «الكر والفر» أصبح هو السائد سواء على أرض المعارك ميدانيا، أو على طاولة التفاوض غير المباشرة، بين القذافي والثوار. ومع أن الثوار يرفضون الحوار ويصرون على تنحي القذافي عن السلطة ومغادرته البلاد، فإن عبد الجليل حدد مهلة للرحيل أمام القذافي، وقال: «إن غادر القذافي خلال 72 ساعة وتوقف القصف فلن نلاحقه.. المهلة لن تمدد». وأمس انتهت المهلة، وكالعادة لا يزال ينفي النظام الليبي أي حوار مع الثوار، ويتمادى في وصفهم بـ«الخونة» و«العملاء» و« الجرذان» و«شذاذ الآفاق».

لكن هذه الصورة المتلاحقة في مرآة الثورة، يبدو أن القاضي مصطفى عبد الجليل رئيس الحكومة الانتقالية «حكومة الثورة» يعرف جيدا زواياها المعتمة والمضيئة، ويعرف أن بئر الحق التي ارتوى من مائها لن تنضب، هذا ما يؤكده لابنه الأكبر الذي اختار على درب والده دراسة القانون مسلكا له في الحياة، ويؤكده أيضا لبقية أبنائه ولمناصريه ومؤيديه، مرددا بصوته الأجش الخفوت إن «دولة الظلم ساعة، ودولة الحق حتى قيام الساعة». هذه المرآة يصفها سالم العوكلي بخياله الشعري: قائلا «إنها أشبه بلقطة جماعية للشعب الليبي، يتوسطها مصطفى عبد الجليل، في ألبوم مفتوح على الحرية والعدل والكرامة، لا يحده إطار خارجي من أي نوع!».