التدخل الدولي في ليبيا «فجر أوديسا»

الحظر الجوي فرض 3 مرات على دول المنطقة.. اثنتان منها ضد نظام القذافي

مبنى دمرته قوات التحالف الغربية بالقرب من طرابلس («نيويورك تايمز»)
TT

تندرج عملية «فجر أوديسا»، التي تقوم بها قوات تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضد ليبيا الآن من أجل إجبار قوات العقيد الليبي معمر القذافي على وقف إطلاق النار ضد المدنيين، فيما بات يعرف في العلاقات الدولية باسم «التدخل الإنساني».

وقد أصبح مفهوم «التدخل الإنساني»، من أبرز المفاهيم الشائعة في العلاقات الدولية في القرن الحالي، خاصة بعد انتهاء الاستعمار التقليدي الذي كانت تقوم به القوى الكبرى في العالم سابقا. ويعني التدخل الإنساني التهديد باستعمال القوة أو استعمالها بالفعل من قبل دولة معينة أو مجموعة من الدول بهدف منع أو وضع حد لانتهاكات جسيمة تقام على نطاق واسع لحقوق الإنسان الأساسية للأفراد في دولة معينة أو إقليم ما.

ووفقا لما هو معروف في القانون الدولي، فإن هذا التدخل يمكن أن يكون بموافقة الدولة المضيفة، أو يتخذ كنوع من العقاب للمسؤولين عن هذه الدولة كما هو الحال في ليبيا، وهو الأمر الذي يتطلب موافقة صريحة من الأمم المتحدة عن طريق مجلس الأمن.

ويستند هذا التدخل للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتيح لمجلس الأمن اتخاذ كافة الإجراءات حال تهديد السلم والإخلال به ووقوع عدوان على المدنيين في دولة من الدول، حيث تنص «المادة 41» من الميثاق على: «لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير. ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئيا أو كليا، وقطع العلاقات الدبلوماسية».

كما تنص «المادة 42» على أنه «إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تفِ به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء (الأمم المتحدة)».

ولا يعد هذا التدخل في ليبيا سابقة في العلاقات الدولية، فقد شهد العالم في السنوات الأخيرة الكثير من الأمثلة على هذا النوع من التدخل. ويكفي القول إنه منذ عام 2002 تدخل الاتحاد الأوروبي خارج حدود القارة 16 مرة في 3 قارات مختلفة وفقا لمبدأ التدخل الإنساني.

وينقسم التدخل الدولي إلى نوعين؛ إما لحماية أو وضع حد للاضطرابات الداخلية في دولة ما وحماية المدنيين في هذه الدولة كما في الحالة الليبية، أو لمنع عدوان دولة ضد دولة أخرى.

ومن أبرز السوابق الدولية في هذا الاتجاه، ما حدث في البوسنة والهرسك، عندما اشتعل الصراع المسلح في أعقاب إعلان صرب البوسنة استقلالهم عن البوسنة في أبريل (نيسان) 1991 وأيدتهم في ذلك يوغوسلافيا السابقة وأمدتهم بالأسلحة والجنود، مما أدى لاستيلاء صرب البوسنة على ما يزيد على 70 في المائة من مساحة دول البوسنة والهرسك وإجراء عمليات تطهير عرقي ضد المسلمين.

وتحرك مجلس الأمن وأصدر عدة قرارات، وصل مجموعها إلى 55 قرارا من عام 1991 إلى عام 1994، منها قرار بحظر الطيران في يوغوسلافيا في 30 مايو (أيار) 1992.

وإزاء استمرار عمليات القتال والتطهير العرقي ضد المسلمين، اعتبر المجلس انتهاك القانون الدولي الإنساني في يوغوسلافيا انتهاكا للسلم والأمن الدوليين، وفوض عام 1993 عددا من الدول لاتخاذ الإجراءات الضرورية باستخدام القوة الجوية. وبناء على ذلك بدأت القوات الجوية التابعة للناتو بإجراء طلعات جوية فوق البوسنة والهرسك بهدف منع الطيران الصربي من التحليق فوق هذه المناطق الآمنة. حتى تم توقيع اتفاقية دايتون في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 التي مهدت لانتهاء الحرب.

أما في كوسوفو، تعلقت أنظار العالم مرة أخرى بمجلس الأمن عام 1998، حينما دخل جيش تحرير كوسوفو في صراع مع الجيش الصربي فارتكب الأخير مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك.

ورغم إصدار مجلس الأمن للقرار رقم 1160 عام 1998 واستند إلى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإنه لم ير أن الوضع في كوسوفو يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين واكتفى بفرض حظر جوي على يوغوسلافيا، ثم القرار رقم 1239 عام 1999 ونص على أن الموقف في كوسوفو يشكل تهديدا للسلم والأمن في منطقة البلقان، إلا أنه لم يقدم أساسا قانونيا لأي عمل عسكري، وهو الأمر الذي لم يأخذ به حلف الناتو وقرر بضغط من الولايات المتحدة القيام بعمليات عسكرية في مارس (آذار) 1999، وقام بقصف جوي وبحري لمدة 79 يوما على صربيا أرغم على أثرها ميلوسيفيتش على الانسحاب من كوسوفو. وفقدت بلغراد السيطرة الفعلية على الإقليم الذي وضع تحت حماية الأمم المتحدة والحلف الذي نشر نحو 17 ألف عسكري فيه. وفيما يتعلق بفرض منطقة حظر الطيران تحديدا، فهي تعني أولا منع تحليق الطائرات في أجواء منطقة معينة أو دولة ما، استنادا إلى قرار من مجلس الأمن الدولي، لكن بعض الدول اتخذت قرارات فردية بحظر الطيران كما حدث في العراق أوائل تسعينات القرن الماضي.

ويتطلب فرض الحظر الجوي إقامة دوريات على مدار الساعة فوق المجال الجوي للدولة المستهدفة، وأحيانا تدمير مضادات الطائرات لذلك البلد. ومن آثار الحظر حرمان القوات الجوية للبلدان من سيادتها الجوية على أراضيها، وإفساح المجال لقوات أخرى بالتحرك في الأجواء على حساب صاحب الأرض، والإضرار الكبير بالحركة الاقتصادية وحرية النقل الجوي.

ولعل العراق يعد النموذج الأمثل في هذا الشأن، فبعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 فرضت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا حظرا جويا داخل العراق فيما عرف بمناطق الحظر الجوي شمال العراق وجنوبه بحجة حماية الأكراد والشيعة.

وانسحبت فرنسا عام 1996 لأنها، حسب تعبيرها، اعتقدت أن منطقة الحظر أخذت منحى آخر وأهدافا غير الأهداف الإنسانية. واستندت هذه الدول إلى القرار رقم 688 الصادر عن مجلس الأمن يوم الخامس من أبريل 1991، مع أنه لا ينص على فرض الحظر الجوي، ويتعلق بالأكراد، شمال العراق، ويطالب العراق بالكف عن ملاحقتهم واحترام حقوق الإنسان.

وفي حينها، أصرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أن الطلعات الجوية لمراقبة المنطقة تعتبر شرعية وتستند على قانون مجلس الأمن الدولي رقم 688 الذي يشجب فيه مجلس الأمن «عمليات الاضطهاد» التي تمارسها الحكومة العراقية ضد المدنيين في بعض مناطق العراق.

ولم تعترف الحكومة العراقية بشرعية هذه المنطقة كونها لا تستند على قانون صريح وواضح من مجلس الأمن واعتبرتها محاولة لتقسيم العراق وكانت الدفاعات الجوية العراقية تستهدف الطائرات الأميركية والبريطانية المحلقة في المنطقة، حتى إن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين أصدر أمرا بمنح مكافأة لمن يسقط طائرة في منطقة حظر الطيران.

وقد كانت لمنطقة حظر الطيران دور رئيسي في قيام الأكراد في الشمال بإجراء انتخابات محلية وتشكيل برلمان وإقامة كيان أطلقوا عليه اسم إقليم كردستان العراق، الذي كان أشبه بالكيان المنفصل أو المستقل عن العراق.

امتدت منطقة الحظر شمالا من خط العرض 36 وجنوبا حتى خط العرض 32، وفي أواخر عام 1996 تم توسيع منطقة الحظر الشمالية إلى خط 33، الذي كان أقرب إلى حدود العاصمة بغداد. وأتى هذا التوسيع بعد دخول وحدات من الجيش العراقي محافظة أربيل التي كانت واقعة ضمن منطقة الحظر لحسم نزاع داخلي بين الأكراد. وقد انتهى العمل بمنطقة حظر الطيران في العراق مع بداية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

وفي الحالة الليبية، كان ثمة تدخل سابق في أوائل تسعينات القرن الماضي حينما عوقبت ليبيا بالحصار الاقتصادي والحظر الجوي، بعد اتهام ليبيين بالضلوع في تفجير طائرة أميركية فيما عرف بقضية لوكيربي. ونص القرار رقم 748 المؤرخ في 31 مارس 1992 على عدم السماح لأي طائرة بالإقلاع من إقليمها أو الهبوط فيه أو التحليق فوقه إذا كانت متجهة إلى ليبيا أو قادمة منها ما لم تكن الرحلة المعينة قد نالت على أساس وجود حاجة إنسانية هامة موافقة لجنة مجلس الأمن. كما حظر القرار تزويد ليبيا بأي طائرة أو قطع طائرات وتوفير خدمات الهندسة والصيانة للطائرات الليبية أو أجزاء الطائرات الليبية، ومنح شهادة الأهلية للطيران إلى الطائرات الليبية. ورفع الحظر بقرار من مجلس الأمن في سبتمبر (أيلول) 2003.

ويبقى القول بأن مثل هذه التدخلات، تتعرض للكثير من الانتقادات الخاصة بأخلاقيات استخدام القوة العسكرية للرد على انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة في ظل انتقائية الجغرافيا السياسية وراء التدخل الإنساني والدوافع الخفية المحتملة من المتدخلين. ويرى البعض أن التدخل الإنساني هو مظهر الحديث للاستعمار الغربي في القرن الـ19.

لكن إزاء عمليات العنف التي يرتكبها نظام القذافي ضد شعبه، والتي راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 10 آلاف قتيل، تظل هذه الشكوك محل نظر، خاصة بعد أن دعت جامعة الدول العربية في 12 مارس الحالي، مجلس الأمن الدولي لفرض حظر جوي على ليبيا، وتحمل مسؤولياته لحماية الشعب الليبي.

وإثر ذلك تبنى مجلس الأمن يوم 17 مارس الحالي، قرارا رقم 1973، قضى بفرض حظر الطيران فوق الأجواء الليبية ودعا لاتخاذ كافة التدابير الضرورية الأخرى لحماية المدنيين من قصف القوات الموالية للقذافي منها تنفيذ ضربات جوية.

وتضمنت مسودة القرار، الذي صوتت عليه 10 دول، منها بريطانيا وفرنسا ولبنان والولايات المتحدة، وامتنعت 5 دول عن التصويت هي: روسيا والصين وألمانيا والبرازيل والهند، فرض حظر على كافة الرحلات في الأجواء الليبية، عدا رحلات طائرات الإغاثة، وخول القرار الدول الأعضاء اتخاذ كافة التدابير الضرورية لحماية المدنيين والمناطق التي يقطنها المدنيون المهددون بالهجمات، لكنه استبعد استخدام قوات لاحتلال الأراضي الليبية. وشدد على حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا بدعوة جميع الدول الأعضاء إلى «تفتيش كافة السفن والطائرات القادمة من ليبيا أو الذاهبة إليها».

وبالفعل في 19 مارس بدأ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا الهجوم على ليبيا في عملية «فجر أوديسا»، وبدأت القوات بقصف جوي وبحري لأهداف عسكرية ليبية. وأطلقت القوات الأميركية والبريطانية في اليوم الأول 124 صاروخا عابرا من طراز «توماهوك» على أكثر من 20 منظومة دفاع مضاد للطيران غالبيتها على طول الساحل الليبي المطل على المتوسط.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية الثلاثاء الماضي أن طائرات التحالف الدولي نفذت منذ بدء العمليات ما مجموعه 336 طلعة جوية، بينها 108 ضربات جوية. وقال قائد العمليات الأميركية في ليبيا الأميرال صموئيل لوكلير إن طائرات التحالف الدولي التي تفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا أضعفت قوة العقيد القذافي الجوية، مشيرا إلى أن قوات القذافي منعت من الوصول إلى مدينة بنغازي معقل المعارضين.

وقد شاركت في هذه العملية عدة دول، على رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وكندا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا.

وفي حين تعد قطر الدولة العربية التي تشارك بقوات في العملية العسكرية، دعت واشنطن إلى دعم أوسع للدول العربية. وكشف قائد عسكري إماراتي لـ«سي إن إن» عن أن سربي طائرات جاهزان للانتشار خلال 48 ساعة، للمشاركة في المهمة الدولية في ليبيا، استجابة لقرار مجلس الأمن الدولي، إلا أنه أوضح أن مشاركة بلاده ستكون لأغراض إنسانية.

وتنص «المادة 43» من ميثاق الأمم المتحدة على: «يتعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدوليين، أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقا لاتفاق أو اتفاقات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين ومن ذلك حق المرور».

لكن هذا القرار فتح المشهد في البلاد أمام كل الاحتمالات، خاصة إزاء مخاوف البعض من أن تطال الضربات الجوية لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) المناطق السكنية المكتظة بالسكان. وإلى جانب هذه المخاوف الإنسانية، طرح تساؤل حول البعد السياسي لهذه الخطوة، وإلى أي مدى يمكن لهذا النوع من التدخل العسكري أن يكون مجديا ويحقق الهدف الأساسي في الثورة الشعبية الليبية، والمتمثل في الإطاحة بالعقيد معمر القذافي.