كارثة اليابان.. وامتداداتها

آثار الزلزال والتسونامي على الاقتصاد ستكون ملموسة في السنوات المقبلة في آسيا كلها

TT

في الوقت الذي تعيد فيه اليابان بناء نفسها من جديد بعد الزلزال المدمر الذي ضربها منذ أسبوعين ماضيين، فإن الوقت قد حان لتحليل النحو الذي يمكن أن تؤثر به الكارثة التي حلت باليابان على العالم بأسره، وعلى الشعوب الآسيوية في الأساس، والتي شهدت معدلات نمو مرتفعة في السنوات الأخيرة. وتأتي الأزمة النووية في وقت تراجع اقتصادي، ليس على مستوى اليابان وحدها، وإنما أيضا على مستوى الاقتصاد العالمي ككل، والذي بدأ يتعافى للتو فقط من أثر الركود الكبير. ويحذر الاقتصاديون من أن أزمة اليابان لن تسبب كسادا عالميا، بل يحتمل أن تؤثر بالسلب على سلسلة الإمداد العالمية، وخاصة في آسيا.

وعبر شرق آسيا، بات الناس على وشك التعرض لخطر انتشار الإشعاعات النووية المميتة القادمة من اليابان. وعلى الرغم من أن ذلك الاحتمال لا يزال بعيدا، فإن تأثيرات الأزمة الاقتصادية الحادة التي حلت باليابان بالنسبة للدول النامية التي تعتمد على التجارة والاستثمار في اليابان ربما تدوم لمدة أطول. وتعد اليابان إحدى القوى الصناعية الكبرى في العالم وهي متخصصة في المنتجات الأساسية للصناعة في كل مكان.

وتقوم اليابان بتصنيع 40% من المكونات الإلكترونية عالميا، و19% من الأجهزة شبه الموصلة، و20% من إجمالي المنتجات التكنولوجية في العالم، وفقا لما أشارت إليه مؤسسة «سي إل إس إيه آشيا باسيفيك ماركتس». ويحتمل أن تتسبب الاضطرابات المستمرة لأمد طويل نتيجة انقطاع التيار الكهربي لفترات ممتدة وإغلاق المصانع والموانئ إلى حدوث نقص في المنتجات على اختلاف أنواعها بما فيها شرائح الذاكرة ورقائق السيلكون وزجاج شاشات «إل سي دي» ومكونات السيارات والحديد المستخدم في بناء السفن. وقد تعاني الشركات المصنعة للوحات العرض والأجهزة شبه الموصلة والسيارات ومكوناتها أيضا لأن معظم المواد الخام التي تستخدمها يتم استيرادها من اليابان.

وأشار تقرير نشر في صحيفة «اليابان التايمز»، والذي أورد قولا لجيمي جينكينس، رئيس قسم المعدات اليابانية في «إف أند سي»، إلى أن الزلزال وتسونامي والأزمة النووية في اليابان يمكن أن يؤثروا على الإمداد بالمكونات الإلكترونية بمختلف أنحاء العالم، وتحديدا الشرائح التي تعد عنصرا أساسيا لا غنى عنه لنطاق واسع من الصناعات، بما فيها قطاع صناعة السيارات.

وقد ورد على لسانه في هذا التقرير ما يلي: «إذا كان هناك جزء واحد من مكونات السيارات غير متوفر لديك، فإنك لن تتمكن من إنتاج سيارة واحدة. وربما تكون سلسلة الإمداد ضعيفة».

وأشار الدكتور ماهندرا ريدي، أستاذ إدارة الأعمال قائلا: «من المرجح أن يدفع الموقف في اليابان الاقتصاد الياباني نحو حالة من ركود ضخم على مدار العامين القادمين». ويستكمل حديثه قائلا: «في تلك الحالة، سيتسبب الوضع في حدوث أزمة اقتصادية في اقتصادات آسيوية أخرى تربط اليابان علاقات تجارية ضخمة معها». وأضاف قائلا: «أشك في أننا سنجد روابط اليابان بسلسلة الإمداد الآسيوية أعمق وأكثر تعقيدا مما يدركه الناس».

غير أن الأذى الذي حل باليابان سيؤثر على الصين أيضا بالتبعية، فالصين هي المصدر الأساسي لواردات اليابان - نحو 22% من وارداتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصين هي أكبر هدف تصدير بالنسبة لليابان، حيث تشتري نسبة تصل إلى 19% من إجمالي منتجاتها. وتتمثل صادرات اليابان الضخمة إلى الصين بدرجة كبيرة في مكونات التكنولوجيا عالية التطور الأساسية والماكينات اللازمة لتصنيع المنتجات التي يتم تجميعها هناك. ويتم تجميع كثير مما ترسله اليابان إلى الصين في صورة منتجات نهائية يتم تصديرها إلى مختلف أنحاء العالم. وقد ارتفع سعر كاميرا «نيكون» بالفعل بقيمة (304 دولارات).

ويرجع السبب وراء أسعار الأغذية والخضراوات، والتي قد ارتفعت بشكل هائل في الصين، إلى الطلب من جانب اليابان. وما تشير إليه الأحداث هو أن تلك الأسعار ستحتاج وقتا طويلا كي تنخفض من جديد. وعلى الرغم من ذلك، فقد ذكرت وزارة التجارة الصينية أن أزمة اليابان سيكون لها تأثير قصير الأجل على الروابط التجارية مع الصين.

وأشار ياو جيان، المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية قائلا: «إن العلاقات التجارية الثنائية بين البلدين ستتأثر بالزلزال ليس فقط لأن الدولتين تربطهما علاقات تجارية وثيقة، وإنما أيضا لأن هناك عدة شركات تمولها اليابان في الصين والتي تستورد كما ضخما من المواد الخام والمكونات من اليابان». وعلى الرغم من ذلك، فإن الصين متوجسة خيفة نظرا لأن العديد من الشركات التي تقوم بتصنيع المنتجات الإلكترونية والسيارات والمواد البتروكيماوية، والتي تعتمد بشكل ضخم على التجارة الثنائية بين البلدين، تقع في المناطق التي ضربها الزلزال في اليابان.

لكن التأثير على الهند غير مباشر، نظرا لأن اليابان تعد مصدرا أساسيا للاستثمار الأجنبي المباشر في الدولة. وقد كان اليابانيون من بين أكبر المستثمرين في الهند على مدار العقد الماضي، مع ظهورهم بشكل واضح في جميع القطاعات الصناعية، سواء الإلكترونيات أو الأدوية أو الاتصالات عن بعد أو الخدمات المالية أو السيارات. وخلال السنوات القليلة الماضية، تمكنوا من زيادة حجم استثماراتهم؛ فقد تخطى حجم الاستثمار الأجنبي المباشر 22 مليار دولار على مدار العقد الماضي.

وقال أجيت راناد كبير الاقتصاديين بمجموعة «أديتيا بيرلا»: «تعد اليابان أحد المستثمرين على المدى الطويل، وقد استثمرت كيانات حكومية داخلها في البنية التحتية الهندية مثل مترو دلهي وممر دلهي - مومباي». وأضاف أن اليابان كانت أيضا عامل نمو لشركات تكنولوجيا المعلومات الهندية. وقال: «إذا كان الاقتصاد الياباني متأثرا بالأزمة، فقد يتأثر بها الاستثمار طويل الأجل في الهند».

وأشار هيمانت كريشان سينغ، سفير الهند السابق لدى اليابان، في تصريحات إلى «الشرق الأوسط» إلى أن نحو 2% من صادرات الهند تذهب إلى اليابان. وإذا كانت هناك نتيجة للأزمة، فإنها ستتمثل في تقليل الدولة لحجم تلك الصادرات. ومن المنتظر أن يكون التأثير السلبي على الهند فيما يتعلق بكل من صادرات الهند، إلى جانب إجمالي الناتج المحلي الهندي محدودا جدا، وقد لا يكون لهذه الأزمة أي تأثير مطلقا على إجمالي الناتج المحلي الهندي.

وعلى مدار الفترة التي ستدخل فيها اليابان في حالة إعادة الإعمار، ستكون هناك فرص عديدة متاحة أمام الهند للمشاركة في تلك العملية. وقد أجلت شركات صناعة السيارات اليابانية مثل «تويوتا» و«هوندا» تنفيذ خططها وبدء طرح منتجاتها الجديدة في الأسواق. وأشار سينغ قائلا: «فيما يتعلق بشركة تويوتا، فقد بدأت مصانعها في الإمداد بقطع غيار من جديد. لن يحول اليابانيون أبصارهم عن السوق الهندية نظرا لأنها تعد سوقا غاية في الأهمية بعد الصين. لقد أصبحت الصين إحدى الأسواق الكبرى في العالم، غير أن السوق الكبرى الأخرى هي الهند بالقطع. وبالنسبة لشركات مثل سوزوكي، تعتبر الهند بمثابة السوق الأساسية لها. فهي لن تغمض عينيها عنها كهدف أساسي. وحتى بالنسبة لشركة تويوتا، فإن هناك ضغطا قويا ملقى على عاتقها ممثل في زيادة إنتاجها والتمركز في الهند».

هذا وقد تأثرت شركات آسيوية أخرى بتلك الأزمة. فقد تأثر موردو المواد اللازمة لشركات صناعة السيارات العملاقة في اليابان بالأزمة، مع هبوط أسعار المطاط بشكل حاد على خلفية المخاوف من حدوث تراجع ممتد الأجل في الإنتاج. ويتمثل تأثير آخر محتمل لهذه الأزمة في حدوث تعطل في الاقتصاد المحلي أو اقتصاد التصدير في الدول التي تعتمد الشركات المصنعة فيها بدرجة كبيرة على المكونات المستوردة من اليابان.

وتعتبر تايوان وتايلاند أكثر دولتين معرضتين لهذا الخطر، نظرا لأن أكثر من 20% من وارداتهما تأتي من اليابان، بما فيها كميات ضخمة من المكونات الكهربائية والميكانيكية. ويحتمل أن تتأثر أيضا كل من كوريا الجنوبية وماليزيا وفيتنام وسنغافورة، وتتراوح نسبة الواردات من اليابان ما بين 11 و15%. وتعتبر تايلاند وسنغافورة وماليزيا معرضة بدرجة أكبر للتأثر بالأزمة، نظرا لأن حجم صادراتها إلى اليابان يعادل نسبة 6 - 8% من إجمالي إنتاجها المحلي، غير أنها جميعا من المنتظر أن تجني مكاسب طائلة مع بدء جهود إعادة الإعمار في اليابان، والتي سوف تتطلب منها إمداد اليابان بكميات ضخمة من السلع الرأسمالية ومواد البناء، مثل الأسمنت والصلب والخشب.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المتوقع أن تنفرج حالة الكساد الحالية. وفي حقيقة الأمر، ربما تتلاشى لتحل محلها حالة من الانتعاش في صادرات المواد التي تحتاجها اليابان من أجل عملية إعادة الإعمار، الأمر الذي من شأنه أن يدعم المنتجين الآسيويين. ويمكن أن تستفيد الشركات الكائنة في بعض الدول الآسيوية من فرص المبيعات التي يولدها العجز في الإنتاج بالشركات اليابانية المنافسة. ومن الأمثلة على ذلك احتمال أن تستفيد شركتا صناعة السيارات البارزتان في كوريا الجنوبية «هيونداي» و«كيا» من معوقات الإنتاج التي تعاني منها شركة «تويوتا» في اليابان، التي تدخل في منافسة مباشرة معها.

وعلى نحو آخر، قد تستفيد دول مثل تايلاند وإندونيسيا في حالة ما إذا قامت شركات صناعة السيارات اليابانية بزيادة حجم إنتاج الشركات التابعة لها داخل هذه الدول لتعويض العجز في الإنتاج الذي تشهده الشركات الموجودة داخل اليابان. وتبدو المخاطر الاقتصادية بالنسبة لآسيا مبهمة بدرجة أكبر. وربما يكون أحدها هو الأزمة النووية التي تسببت في تعطل العمل على نطاق واسع في دول أخرى، ربما نتيجة للتأثير الإشعاعي السام - أو الخوف من حدوثه.

وقد أشار البنك المركزي في تايلاند إلى هذه النقطة، محاولا إثبات أن تايلاند لن تتأثر على نحو خطير بالزلزال. وفي ماليزيا، ذكرت شركة الأوراق المالية «سي آي إم بي» أن هبوطا يقدر بنسبة 1% في الناتج المحلي الإجمالي في اليابان من المنتظر أن يقلل الناتج الاقتصادي في ماليزيا بنسبة 0,2% فقط. غير أن الاقتصاديين يرون أن الصادرات من تايلاند وماليزيا وسنغافورة إلى اليابان من المؤكد أنها سوف تتأثر بشكل سلبي على المدى القصير.

ويتمثل أحد المخاوف الأخرى على المدى الأطول بالنسبة لدول مثل فيتنام وإندونيسيا فيما إذا كان الاستثمار الياباني سيتأثر بفعل الكارثة التي حلت بها أم لا. ففي العام الماضي، كانت اليابان هي رابع أكبر مستثمر أجنبي في إندونيسيا ومقدم إعانات رئيسي. فقد أخذت على عاتقها مهمة دعم مشروعات اقتصادية مختلفة في الهند، ومنها المساهمة بمبلغ قيمته 24 مليار دولار لتطوير البنية التحتية البالية في جاكارتا.

غير أن الدول الأخرى التي تعتمد على اليابان في تصنيع مكونات أساسية سوف يكون عليها أن تعد نفسها لمواجهة أزمات العجز في الإمداد.

وعلى المدى القصير، ستستفيد الشركات في كوريا الجنوبية من تجميد النشاط الصناعي في اليابان. وفيما يتعلق بشركات الأجهزة شبه الموصلة والسيارات والصلب، توجد منافسة قوية بين الشركات الموجودة في كوريا الجنوبية واليابان. فعند قيام الشركات اليابانية بإغلاق المصانع وتعطيل الإنتاج، سيتحول العرض والطلب إلى الشركات الصناعية الكورية. غير أن تلك المكاسب ستستمر فقط طالما لم يبدأ الموقف في اليابان في التأثير على المكونات التي توردها اليابان إلى الشركات الكورية.

وتمتلك الشركات المصنعة للشرائح في تايوان مخزونا يغطى مدة تتراوح ما بين شهر إلى شهرين فقط. وإذا لم تتمكن المصانع اليابانية من العودة إلى حالتها الإنتاجية الطبيعية بشكل سريع، من المحتمل أن يعاني المستهلكون من عجز في السلع، فضلا عن زيادة في الأسعار. وقد تأثرت صناعة السياحة التايوانية بالفعل، نتيجة إلغاء العديد من السياح اليابانيين رحلاتهم إلى تايوان. وتحتل تايوان المرتبة الثانية من حيث عدد السياح الذين يزورون اليابان، حيث يفد إلى تايوان نحو مليون سائح ياباني كل عام.

ويمكن القول إن سينداي، أكبر ميناء في شمال شرقي اليابان، قد محي من على الخريطة. وكانت سينداي أكبر مصدر للمطاط ومنتجات الملاحة والأجهزة المكتبية والسلع الورقية ومكونات السيارات. وقد تم إغلاق ستة معامل لتكرير البترول في المنطقة، والتي تمثل ثلث طاقة التكرير في الدولة، مع نقص الطاقة الإنتاجية للكهرباء بشكل حاد وتسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربي في تراجع الإنتاج.

غير أنه بعيدا عن التأثير السيئ على الطرق والجسور وخطوط السكك الحديدية ومعالجة المياه وغيرها من أجزاء البنية التحتية المهمة في اليابان، فهناك أثر نفسي مدمر قد لحق بالسكان الذين يعانون من حالة من التشتت التام. وما زاد من شدة حيرتهم ومخاوفهم، رفض الحكومة اليابانية بشكل مبدئي توضيح مدى حدة الكارثة التي ألمت بالدولة.