النظام السوري.. ومستنقع المظاهرات

تعاطي السلطات مع الاحتجاجات منذ البداية ساهم في تأجيجها بدلا من إخمادها

متظاهرون في دوما، الواقعة في ريف دمشق، في صورة مأخوذة في 7 من الشهر الحالي (رويترز)
TT

منذ 18 مارس (آذار) الماضي تحولت محافظة درعا السورية من محافظة جنوب البلاد، إلى جرح نازف في قلب السوريين. غير أن درعا لم تفاجئ السوريين وحسب، بل العالم. إذ لم يكن متوقعا أن تصبح المرجل الذي ستغلي على نيرانه الاحتجاجات في عموم أنحاء البلاد قرابة شهرين حتى الآن، تطورت خلالها وتنوعت توصيفات السلطة للمتظاهرين المحتجين، حيث لم تدع مصطلحا يفيد بنزع صفة الاحتجاج عنهم أو الثورة، إلا واستخدمته، بغية نسبهم إلى مؤامرة تحاك في الخارج، بدءا من الـ«مندسين» والـ«عملاء»، و«عصابات مسلحة» و«مجموعات مسلحة»، تعتمد الإرهاب والقنص.. إلى «سلفيين» ومؤخرا «خلايا إرهابية متطرفة».

القصة بدأت يوم الجمعة 18 مارس الماضي، حين طفت على السطح حالة من الاحتقان الشعبي أسيء تقدير حجمها من قبل السلطات المحلية، فأخطأت في معالجتها، وسرعت من حيث لا تدري، بانفجارها واتساع رقعتها نحو مناطق أخرى. أمر لم ترض السلطات به، ولم تقبله، فعزته إلى مؤامرة خارجية استفادت من «موضة» الثورات الشعبية التي انطلقت من تونس وعززتها مصر. وفي محاولة لتطويق الأزمة، تعامت السلطة عن الأسباب الحقيقية لاندلاع الاحتجاجات في درعا، متبعة طريقة التعتيم وهو أسلوبها القديم في تجاهل الطلبات الشعبية.

المقدمات جاءت مع قيام مجموعة من أهالي المعتقلين السياسيين الذين لم يشملهم عفو رئاسي صدر في مناسبة 8 مارس الماضي، بالاعتصام أمام وزارة الداخلية وسط دمشق في 15 مارس الماضي، بهدف تسليم وزير الداخلية رسالة يطالبون فيها بإطلاق سراح أبنائهم، وبينهم أهالي تلاميذ من درعا جرى اعتقالهم قبل نحو شهر من ذلك التاريخ، على خلفية كتابات على جدران المدرسة تدعو لإسقاط النظام.

وزارة الداخلية بادرت إلى إفشال الاعتصام بتسلم طلبات خطية من بعض العائلات. المجموعة الأخرى من ذوي المعتصمين، رفضوا المغادرة وأصروا على مقابلة الوزير وتسليمه رسالتهم شخصيا. فتركت جموع من مؤيدي النظام تتهجم عليهم بالعصي والهراوات، قالت عنهم وزارة الداخلية إنهم من «أصحاب المحلات المجاورة» الذين خافوا من الفوضى، فيما قال المعتصمون إنهم عناصر أمن بملابس مدنية. الفوضى التي حصلت توجت باعتقال أبرز المعتصمين. وقبل ذلك بيوم واحد، كان خرجت مظاهرة محدودة في سوق الحريقة المجاور لسوق الحميدية، نادت بـ«إسقاط النظام» وبالحرية، وتم تفريق المحتجين بسرعة دون أي حوادث تذكر. إلا أن الناشطة سهير الأتاسي، أعلنت انطلاق «شرارة الثورة في سورية» ولم يقدر أحد جدية هذا الإعلان.. سوى السلطة السورية التي قامت باعتقال الأتاسي على خلفية مشاركتها في اعتصام المرجة، لتمكث نحو عشرين يوما في السجن، خرجت بعدها مع المزيد من الإصرار على مواقفها المعارضة والمنادية بالحرية. هذه التطورات دفعت إلى تفجر الحدث في درعا.

في 18 مارس الماضي عقب صلاة الجمعة، خرج المصلون من الجامع العمري في مظاهرة سلمية تطالب بإطلاق سراح التلاميذ، وعلى الفور قامت السلطات باستخدام العنف المفرط لقمع المظاهرة، لتزيد من تأجج الغضب. ناشط سوري على موقع «فيس بوك» كتب أن «الأجهزة الأمنية السورية اعتادت التعامل مع شعب خانع وخائف، ونكاد نكون البلد الوحيد في العالم الذي يعتقل فيه الأشخاص على الهاتف، إذ بإمكان أي فرع الاتصال هاتفيا مع أي شخص ودعوته إلى شرب فنجان قهوة في الفرع، والشخص يلبي بطيب خاطر، بعد أن يخبر أهله إلى أين هو ذاهب، ويمكن أن يجلس ساعات في الفرع بانتظار أن يأتي أحد ليبلغه سبب الدعوة، هذا إذا كان ثمة قهوة تشرب ولم يتم اعتقاله لعدة أيام وربما شهور».

ولعل هذه الحالة من الاستكانة، أورثت الأجهزة الأمنية استرخاء، جعلها ترتبك حيال أول أزمة حقيقية لها على الأرض. فتفاوت التعامل مع المحتجين من مكان إلى آخر، مع قاسم مشترك واحد وهو الخوف من هذا الغضب الجارف الذي هب فجأة وعم المدن والقرى والشوارع. فتارة يضربون المتظاهرين بيد من حديد وتارة يتحايلون عليهم بالسياسة، وأخرى بحياكة شائعات وقصص.. الخ. إلا أنها جميعا لم تفلح في حد فورة الغضب.

ففي درعا، كانت الشعرة التي قسمت ظهرها، استهزاء المسؤول الأمني بوجهائها عندما رجوه أن يطلق سراح الأطفال كرمى لأمهاتهم، بعدما وردتهم أنباء عن تعذيبهم واقتلاع أظافرهم. وعلى ذمة أحد أهالي درعا «فإن الوجهاء قصدوا محافظ درعا المقال فيصل كلثوم كي يساعدهم في إطلاق سراح أبنائهم فتنصل من الموضوع وأرسلهم إلى المسؤول الأمني عاطف نجيب الذي قام بإهانة الوجهاء وقال كلاما نابيا بحق أمهات الأطفال».

ومع اندلاع المظاهرات استقدم المسؤول الأمني المروحيات من دمشق لإرهاب المتظاهرين، وكان كمن يصب الزيت على النار، حيث سقط عدد من الشهداء وعشرات الجرحى. وقيل إن المحافظ هرب من المدينة راكبا دراجة نارية، ولحق به خفية المسؤول الأمني هاربا من المدينة. الروايات التي تم تداولها في الشارع وصلت إلى المدن الأخرى، فهبت في يوم الجمعة التالي بانياس وحمص وعدة مناطق أخرى لنصرة درعا، لكن الجهات الرسمية تمسكت بالتعتيم وسيلة وحيدة لتحجيم الأزمة، فقالت إنه «خلال تجمع عدد من المواطنين في محافظة درعا البلد بالقرب من الجامع العمري بعد صلاة الجمعة، استغل بعض المندسين هذا الموقف، وعمدوا إلى إحداث الفوضى والشغب، ملحقين أضرارا بالممتلكات العامة والخاصة، وقاموا بتحطيم وحرق عدد من السيارات والمحلات العامة، مما استدعى تدخل عناصر حفظ الأمن حرصا على سلامة المواطنين والممتلكات، فاعتدى عليهم مثيرو الشغب ثم تفرقوا».

كما قالت السلطات السورية، إن هذا حصل «بالتزامن مع تجمع آخر في بلدة بانياس انتهى من دون أي حوادث تذكر»، فيما ذكرت روايات أخرى كبح قوات الأمن مظاهرة في مدينة حمص كانت ستخرج من جامع خالد بن الوليد، وأخرى في الجامع الأموي في دمشق. غير أنه في بانياس القريبة من طرطوس، أظهر شريط فيديو بالجوال بث على موقع «يوتيوب» مئات المواطنين يهتفون للحرية والإصلاح.

عدم التطابق بين الروايتين الرسمية والشعبية ولو بالحد الأدنى، إضافة إلى منع وصول الإعلام الخارجي إلى موقع الحدث، نزع المصداقية عن الرواية الرسمية، فاستمرت الأزمة بالتصاعد في مدينة درعا وقراها القريبة من الحدود مع الأردن والبالغ عدد سكانها نحو 75 ألف مواطن، وكل جنازة باتت مناسبة للتظاهر في منطقة عشائرية يكفي لتحريكها إطلاق نداء «الفزعة يا أهل النخوة» حتى يتحشد الآلاف. بعد أولى الجنازات توجه المشيعون إلى مجلس المدينة للمطالبة بإقالة المحافظ والمسؤولين الأمنيين والإفراج عن المعتقلين ورفع حالة الطوارئ، وتم وضع قائمة مطالب اعتبرتها السلطة «مطالب محقة» استلمتها لجنة شكلتها السلطة للتحاور مع الأهالي برئاسة المسؤول الأمني وابن المنطقة رستم غزالة، والذي كان لحضوره ولهجته الأمنية حتى في التفاوض وقع سلبي لدى الأهالي، مما أفرغ تلك المحاولة من معناها، رغم ما تبعها من إطلاق سراح مجموعة من الشبان لم يثبت التحقيق إدانتهم. غير أن الخواطر لم تهدأ.

في اليومين اللذين شهدا هدوءا نسبيا، سمح لبعض وسائل الإعلام المحلية والخارجية بدخول المدينة والتجول في شوارعها، للتأكد من عودة الهدوء، إلا أن الجامع العمري ومحيطه حيث يعتصم عدد كبير من الأهالي، لم يسمح لوسائل الإعلام المحلي بالاقتراب منه، كما أن قلة من مراسلي الإعلام الخارجي وصلوا إلى الجامع، على خلفية الاستياء من الروايات الرسمية، وتواردت أنباء كثيرة عن طرد مراسلي القنوات المحلية، وحتى الاعتداء عليهم بالضرب وتحطيم كاميراتهم، وتهديدهم بالقتل، أما مراسلو القنوات الخارجية، فاكتفوا بالقول إن الهدوء النسبي خيم على شوارع المدينة، دون أي تفاصيل أخرى، وهذا ما أكد عليه أيضا نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع ابن مدينة درعا في حديث لعدد محدود من الصحافيين ظهر يوم الثلاثاء 23 مارس، والذي تم نشره في 24 مارس، أي صباح يوم الأربعاء «الدامي» لتأتي مناقضة لخبر رئيسي احتل الشاشات منذ ساعات فجر الأولى، بأن قوات الأمن اقتحمت الجامع العمري لفض الاعتصام وقتلت من فيه.

أهالي درعا أكدوا أن الجامع تحول إلى مشفى ميداني، لأن الجرحى الذين ينقلون إلى المشفى يتم اعتقالهم، لكن الرواية الرسمية التي ظهرت صباح الأربعاء قالت إن «عصابة مسلحة قامت باعتداء مسلح على طاقم طبي في سيارة إسعاف تمر بالقرب من جامع العمري في درعا مما أدى إلى استشهاد طبيب ومسعف وسائق السيارة وقد تصدت قوى الأمن القريبة من المكان للمعتدين وأصابت عددا منهم واعتقلت بعضهم وسقط شهيد من قوى الأمن».

وذكرت الرواية الرسمية أيضا أن «العصابة المسلحة» قامت بتخزين أسلحة وذخيرة في الجامع العمري واستخدمت أطفالا اختطفتهم من عائلاتهم كدروع بشرية. وبث التلفزيون الرسمي صورا للأسلحة المصادرة، قنابل وبنادق «كلاشنيكوف»، وصناديق ذخيرة إضافة إلى كمية من رزم النقود قيل إنها جاءت من الخارج.

القصة الرسمية سرعان ما سقطت مع ظهور مقطع فيديو على الأغلب تم تسريبه من قبل عنصر أمن متعاطف مع المحتجين، ويبدو فيه رجال الأمن بعد اقتحام الجامع وهم يرقصون ويقولون «قتلناهم.. قتلناهم» «كنا لهم بالمرصاد». وكان صحن الجامع خاليا نظيفا، إلا من فرشات أسفنجية وأجهزة وأدوات طبية إسعافية وكأنه مشفى ميداني، ولا يوجد أي أثر لما يشير إلى احتلاله من قبل «عصابة مسلحة». هذا الفيديو سوف يتكلم عنه الوفد الذي التقى الرئيس بشار الأسد من أهالي درعا لاحقا، خلال شكواهم من أن الإعلام السوري كاذب، ولا وجود لعصابة مسلحة في درعا، والمتظاهرون ليسوا متمردين، وإنما هم محتجون ولهم مطالب واضحة.

اقتحام «العمري» فاقم الاحتجاجات، ليكون يوم الجمعة 25 مارس يوما لنصرة درعا في كافة أنحاء البلاد، شهد احتجاجات عارمة، باتت مواجهتها بالنار والحديد ضربا من المغامرة التي لن يخرج منها أي طرف منتصرا. والمفارقة ورغم كل سقوط الروايات الرسمية ثابر الإعلام الرسمي على طريقته ذاتها في تغطية الأحداث، إلا أن السلطة راحت تتهم «جهات خارجية» بالعمل على «بث أكاذيب» عن تطورات الأوضاع في مدينة درعا و«الادعاء بوقوع مجازر» وذلك بهدف تحريض الأهالي، قبل أن تشير إلى «تعاون» أهالي درعا مع قوى الأمن في ملاحقة «أفراد عصابة مسلحة». وقال مصدر رسمي إن «أكثر من مليون رسالة قصيرة على الهواتف الجوالة وصلت من الخارج، مصدر غالبيتها من إسرائيل، تدعو السوريين إلى استخدام المساجد منطلقا للشغب، بينما تواصل قوى الأمن العثور على مخابئ للأسلحة المهربة عبر الحدود وأجهزة اتصال متطورة في درعا، إضافة إلى مواصلتها اعتقال المجرمين وتقديمهم للعدالة».

حيال اتساع دائرة الاحتجاج والصدمة التي تعرضت لها السلطة وارتباك الإعلام المحلي، نشط السوريون على شبكات التواصل الاجتماعي، وراحوا يزودون الإعلام الخارجي على مدار الساعة بمواد إعلامية وشرائط فيديو للأحداث، الأمر الذي حول الأزمة إلى حرب إعلامية مفتوحة، تزايدت فيها الدعوات إلى التظاهر لـ«نصرة حوران»، ولم يعد هناك حل أمام السلطة لتبرير القمع أمام العالم سوى طرح حزمة من الوعود الإصلاحية لنزع ذرائع الاحتجاج من جانب ولتبرير الاستمرار بالقمع. وتأكد ذلك لاحقا في السيناريو الذي اتبع في اللاذقية ودوما وبانياس، وحتى في درعا ثانية.

فبعد يوم على اقتحام المسجد العمري 24 مارس، اجتمعت القيادة القطرية برئاسة الأسد، وبحثت «الأحداث في درعا» وخرجت المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة لجمهورية بثينة شعبان لتعلن أن «القيادة قررت تشكيل لجنة قيادية عليا مهمتها الاتصال بالمواطنين في درعا والإصغاء إليهم لمعرفة واقع الأحداث وملابساتها ومحاسبة المتسببين والمقصرين ومعالجة جميع الآثار الناجمة» مع تقديم حزمة قرارات هي في حقيقتها محض وعود ما عدا زيادة رواتب العاملين في الدولة، وإطلاق سراح جميع الموقوفين على خلفية الأحداث التي جرت في درعا.

شعبان كانت قد دعت وسائل الإعلام إلى التمييز بين «استهداف سورية» و«المطالب المحقة للشعب السوري» مؤكدة على أن ليس هنالك ما لا لم يمكن مناقشته على الطاولة»، وأن هناك «حركة مسلحة في درعا» يجري التعامل معها وأن الدول تستخدم السلاح أحيانا في مواجهة السلاح الآخر لحماية استقرارها. وكلام شعبان هذا أكد تخبط الرواية الرسمية، في توصيف ما يجري في درعا ما بين قمع «حركة مسلحة» و«ملاحقة عصابة مسلحة» مما أبطل فورا مفعول القرارات (الوعود) الإصلاحية، وعادت الاحتجاجات لتتجدد ونقلت وسائل الإعلام الخارجي أنباء عن اشتباكات في درعا وعن إطلاق رصاص في حي الميدان وسط دمشق وعن مظاهرات في القامشلي، مع دعوات للتظاهر في كل أنحاء البلاد. في حين كان التلفزيون السوري يتابع بث مشاهد حية من مختلف المحافظات السورية في مقدمتها درعا عن مسيرات تأييد للرئيس الأسد، وتكرار الخطاب ذاته في الولاء والتماهي مع القائد. ليأتي الرد في يوم جمعة 25 مارس مزلزلا، مع خروج مظاهرات في عموم أنحاء البلاد تهتف «يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مو جوعان» ردا على ما قالته عن «المطالب المحقة» بمعنى المطالب المعيشية وأيضا قرار زيادة الرواتب، فالمسألة التي تصر السلطة السورية على تجاهلها هي احتمال ولو «واحد في المائة أن لهذه الاحتجاجات سمة سياسية» بحسب رأي شاب سوري متعاطف مع المتظاهرين، والذي أكد أن «المطالب المحقة هي مطالب بإطلاق الحريات العامة وعدم المساس بكرامة المواطن فالسوريون ليسو عملاء ولا مدسوسين ولا عصابات مسلحة».

المواطن السوري ما زال خائفا من قوة النظام، وفي نفس الوقت ليس لديه ثقة تامة فيما يقوله، ولا بأن ما يجري بعيد تماما عن «المؤامرة»، فكان لسان حاله يقول: «من الخطأ استبعاد نظرية المؤامرة حيال ما يجري، فالتحرك لا يبدو بريئا، لكن أيضا لا يمكن نفي أن كل عوامل تفجر الثورة الداخلية متوافرة على الأرض». أما رؤيته لما يجري فيلخصها بأن الشرارة التي انطلقت من تونس تفاعلت وعمت الشارع العربي، وسورية ليست بمنأى عنها، لكن هذا لن يمنع المتآمرين التقليديين على سورية من ركوب الموجة لتحقيق مآربهم، لافتا إلى أن هذا «ما يخيفه» أي «حصول فوضى لا تؤدي إلا إلى الخراب». شخص آخر مؤيد للنظام قال إنه «لا يستطيع تفسير ما يجري إلا بأن جماعات خارجية تريد النيل من استقرار سورية الذي هو استقرار للمنطقة، وضرب الداعم الرئيسي للمقاومة»، لذا فإنه يشم فيما تشهده البلاد «رائحة طبخة إسرائيلية».

الرواية الرسمية التي ثبتتها شعبان في خطابها وسّعت دائرة الاستياء العام، فدرعا التي كانت تطالب بداية باعتذار من السلطة على ما بدر من عاطف نجيب وفيصل كلثوم، تم اتهام أهلها بأنهم «عصابات مسلحة وبالعمالة لجهات خارجية»، وفق ما قالته سيدة من درعا في حديث لإحدى وسائل الإعلام، وأضافت: «وقد توجت السلطة تلك الاتهامات الظالمة بمظاهرات تأييد مليونية كانت استفزازا لذوي الشهداء أكثر منها تأييدا للنظام، هذا فضلا عما أعلنه الرئيس في خطابه الأول بأن من ليس معنا فهو ضدنا في حرب هم أرادوها». وتتساءل السيدة: ترى ماذا نفهم من ذلك سوى إعلان «حرب على الشعب»؟.

تراجع السلطة عما ورد في الخطاب الأول للرئيس، لم يحد من تنامي الشعور «بالظلم والتجني» في الشارع السوري، لا سيما أن السلطة على الأرض راحت تكرر سيناريو درعا في مناطق أخرى، مع تعديلات تقتضيها خصوصية المنطقة. في اللاذقية يقول أحد الناشطين: «أطلقت مجموعات الشبيحة في حي الصليبة البائس النار لترويع المتظاهرين، وراحت الروايات الرسمية تتحدث عن مجموعات مسلحة في اللاذقية».

وفي بانياس أضيفت فضيحة «إهانة المعتقلين المقيدين في ساحة بلدة البيضا بدوسهم بالأقدام من (الشبيحة) المعروفين لأهالي البلدة». وقد بذل الإعلام الرسمي كل جهده لتكذيب فيديو جوال يصور الشبيحة يركلون المعتقلين وإثبات أنه مفبرك وصور في إحدى الساحات، وتارة يقال إن الذين أهانوا المعتقلين قوات البيشمركة، وتارة أخرى من بعثيي صدام. إلا أن أهالي قرية البيضا قاموا بتصوير الساحة مجددا مع شهادات لشباب، قالوا إنهم كانوا ضمن المعتقلين الذين تعرضوا للإهانة.

أثار هذا الفصل الإعلامي الهزلي والهزيل الانتقادات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، وزاد في تعرية الإعلام الرسمي، الذي بدا فاقد للمصداقية مفلسا إلا من الكذب المفضوح وتوجيه الشتائم والاتهامات لوسائل الإعلام الخارجية بأنها وسائل مغرضة وضالعة في التآمر على سورية.

في حمص تم تعديل سيناريو درعا وبانياس واللاذقية، وذلك بعد استلهام مظاهرة للسلفيين خرجت في الأردن بحسب تعبير ناشط حمصي قال: «بدل المجموعات المسلحة، والشبيحة ظهرت مجموعة سلفية روعت سكان حي الزهراء ذي الأغلبية العلوية»، وتساءل الناشط: «لماذا لم يظهر أي نشاط للمجموعة السلفية في حمص خلال المظاهرات التي سبقت اعتصام الساعة (ساحة التحرير)، ولم تظهر إلا بعد قيام قوات الأمن بتفريق المعتصمين بالرصاص في الساعة الثانية فجرا».

أحد الذين شاركوا في اعتصام حمص قال إن «قوات الأمن التي كانت تقف بعيدا في الساعات الأولى للاعتصام طلبت إخلاء الساحة خلال ساعة، وقبل انقضاء المهلة تم إطلاق وابل كثيف من الرصاص في الهواء تفرق على أثرها المعتصمون، وفي هذه الأثناء، نزل رجال يرتدون ملابس سلفية معهم أسلحة من باصات من دون لوحات أرقام، وراحوا يطلقون الرصاص ويجوبون الشوارع، كما انطلقت سيارات وفيها مكبرات صوت تنادي (حي على الجهاد) ومن يسمعها يتخيل أنها تنطلق من المآذن».

هذا السيناريو لم يصمد أيضا وسرعان ما سقط، لتعود السلطة وبعد يوم «الجمعة العظيمة» إلى سيناريو «المجموعات المسلحة» مع تعديل في الصيغة هذه المرة، وهو وصفهم بـ«خلايا إرهابية»، ومع تقدم الدبابات العسكرية الاثنين الماضي لإحكام الحصار على البؤر المتوترة من درعا إلى ريف دمشق دوما والمعضمية وحرستا، مرورا بحمص وسط البلاد وريفها تلبيسة والرستن وتلكخ، حتى الساحل؛ جبلة وبانياس بالإضافة إلى اللاذقية التي تم تقسيم مناطق الاحتجاج فيها إلى قطاعات، بدأت الروايات الرسمية بالتواتر عن القبض على «خلايا إرهابية»، تقوم بترويع الناس. لتتوارى قصص القناصة والعصابات المسلحة والمندسين والسلفيين، لتحضر فقط أرقام الشهداء من عناصر الأمن والجيش، والقبض على «الخلايا الإرهابية» وقتل عدد منهم والتحقيق مع آخرين.. وبانتظار ما سيسفر عنه اليوم، يوم «جمعة الغضب» لمعرفة أي السيناريوهات ستعتمد عليه السلطة لتبرير قرارها النهائي بحسم معركتها مع المحتجين بالنار والحديد في معركة ليست سوى مغامرة مجنونة لن يخرج منها أحد منتصرا، بينما كان بالإمكان التعامل معها بطرق سياسية أكثر حنكة تجنب الجميع الوقوع في هذا المغطس البائس.