«ويكيليكس».. وارتداداتها في تركيا

حزب العدالة والتنمية الحاكم اعتبرها محاولة لإضعاف أردوغان عشية الانتخابات

TT

أكثر من 11 ألف وثيقة انتقتها جريدة «طرف» الليبرالية مؤخرا من بين آلاف الوثائق التي وضعها المشرفون على «ويكيليكس» بين أيديها، ولها علاقة مباشرة بتقارير أعدها كبار الدبلوماسيين الأميركيين العاملين في تركيا بشأن مسائل ومواقف وشخصيات تركية خلال السنوات العشر الماضية، وتتركز المعلومات فيها حول العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحكومة التي يقودها رجب طيب أردوغان، وفترة الدخول الأميركي إلى العراق عام 2003، ورفض تركيا المشاركة في العمليات بناء على قرار مجلس النواب التركي، والعلاقة بين الجماعات الإسلامية في تركيا وتفاعلات قضايا «أرغنيكون» و «المطرقة»، أهم المنظمات السرية التي كانت تعد لضربة عسكرية في البلاد، كما يقال.

وعلى الرغم من أن رئيس تحرير «طرف»، أحمد التان، يقول: «نحن لم نذهب إلى المسؤولين في (ويكيليكس)، بل هم الذين اتصلوا بنا لعرض هذه الفرصة، ودون أي مقابل طبعا، وكل ما طلبوه هو أن نبلغهم باسم الوثيقة التي اخترناها للنشر قبل 48 ساعة من الكشف عنها»، فإن البعض يقولون إنه أصيب بخيبة أمل، وإنه لم يجد ما كان يبحث عنه في الوثائق المنشورة.

الصحافي فهمي قورو، أكد أن العدالة والتنمية كان المستفيد الأول من كل ما نشر حول هذا الحزب وتركيا في الوثائق المعلنة، لكن الإعلامي أرتغرول أزكوك يقول إن قاعدة الاعتدال والتوازن كانت مفقودة في تقديم هذا العمل والتعامل مع نشر الوثائق. الإعلامي عاكف بكي في جريدة «راديكال» يضيف بدوره أن العملية كانت فاشلة لأن المشرفين على هذا العمل لم يلجأوا حتى للتأكد من بعض المعلومات التي تحملها الوثائق، وهي أبسط قواعد العمل الصحافي، رافضا ما قالته ياسمين شونغار، الإعلامية في «طرف»، التي أشرفت على هذه العملية: «كنا مضطرين لاختيار أهم الوثائق وترك الكثير منها جانبا».

بين ما نشرته «طرف» كان اقتراح أحد الدبلوماسيين على حكومة بلاده كسب رضا أردوغان، من خلال تقديم هدية رمزية له تحمل اللونين الأصفر والكحلي، لأنها ألوان طاقم «فنار بهشه» لكرة القدم الفريق الذي يشجعه أردوغان بحماس. وبين ما يستوقف أكثر من غيره في هذه الوثائق كان طلب السفير الأميركي الأسبق في تركيا، إريك إديلمان، من أحد الإعلاميين المخضرمين، فهمي قورور، الكاتب والمستشار في صحيفة «يني شفق» الإسلامية التخلي عن كاتب آخر في الصحيفة، هو إبراهيم قره غل، المعارض الشديد للسياسة الأميركية في العالم، مما أجبر قورو التخلي عن عاموده في الصحيفة، والانتقال إلى جريدة أخرى. صباح الدين أونكبار في جريدة «ينيشاغ»، كتب يقول إن روائح غير مستحبة تنبعث من اتفاقية طرف - «ويكيليكس»، الظاهر هو أن الجريدة التي عجزت عن دفع رواتب موظفيها سيحاول البعض إنقاذها عبر تزويدها بمثل هذه الوثائق لتزيد من حجم مبيعاتها.

الكثير من المحللين الأتراك اعتبر أن نشر الوثائق على هذا النحو المبرمج والمقصود هو محاولة لفرض النفس على تحديد مسار نقاشات الداخل التركي. من هنا يمكننا القول إن حكومة العدالة والتنمية كانت ومنذ البداية ترى في وثائق «ويكيليكس» فرصة لتفجير الداخل السياسي والأمني بهدف إضعاف حكومة أردوغان والإطاحة بها عشية الانتخابات النيابية المرتقبة، في مطلع حزيران المقبل. وبذلك تكون الرد الأقوى القادر على إيقاف الصعود التركي الإقليمي، وقطع الطريق على محاولات إعادة تركيب المكعبات باستقلالية في الشرق الأوسط هذه المرة.

ربما هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع أردوغان لمطالبة واشنطن بالتعامل بجدية مع هذه التقارير ومساءلة معديها وجعلهم يدفعون الثمن إذا ما كانت أميركا تريد حماية علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا. «هل أن تقارير من هذا النوع تخدم حقا مسار العلاقات التركية - الأميركية أم تسيء إليها؟ هذا ما على واشنطن التنبه له حين تقرر سياسة وأسلوب التعامل مع هذه القضية التي يقف من ورائها توصيات تستند إلى معلومات شخصية وقناعات غير موثقة، «كما تردد الكثير من قيادات العدالة المدعومة من قبل الكثير من المحللين والمتابعين لهذا الملف».

واللافت هنا هو أنه على الرغم من مسارعة حزب الشعب الجمهوري لاستغلال هذه الفرص لتعزيز نفوذه ومحاولة استرداد بعض القلاع التي فقد الكثير منها لصالح العدالة والتنمية، فإن حزب الحركة القومية اليميني المتشدد التقى في مواقفه مع معظم وسائل الإعلام التركية التي تعاملت بحذر ودقة مع نشر هذه الوثائق وتحليلها، «حتى لا نقع في فخ (ويكيليكس) ومن يقف من ورائه»، كما قال دولت بهشلي الأمين العام للحزب.

كما أن أجواء «ويكيليكس» حركت الكثير من الكتاب والإعلاميين باتجاه رفوف الأرشيف التركي للبحث والحديث عن حجم المؤامرات والدسائس التي تتحمل البعثات الدبلوماسية الغربية والإرساليات الدينية المسؤولية الأكبر فيها عبر التاريخ.

الكاتب التركي، غولساف أيوب أوغلو ايرهان، كان أنجح من لخص لنا صورة الوضع ومقارنتها بأجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى، من خلال مجموعة من الوثائق والمراسلات الدبلوماسية والسياسية التي تعكس حجم التآمر الغربي على الدولة العثمانية لتفتيتها والقضاء عليها:

- 17 يوليو (تموز) 1913 رئيس الوزراء التركي، شوكت باشا، يكتب إلى الألمان مطالبا بدعم مشروع إعادة تحديث الجيش التركي إذا ما كان البعض يراهن على التقارب التركي - الألماني. ويأتي الرد إيجابيا، وتلتحق الإمبراطورية العثمانية بالحرب جنبا إلى جنب مع ألمانيا.

- 23 (نوفمبر) تشرين الثاني 1914، رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج يكتب في وثيقة سرية «الأتراك الذين دخلوا أوروبا بالسيف لا بد من القضاء عليهم بالسيف أيضا»، فتحت هذا الشعار كان المشروع البريطاني يتقدم، ليس فقط من أجل إخراج الأتراك من أوروبا، بل إبعادهم عن الكثير من مناطق نفوذهم وانتشارهم العددي الكثيف في أزمير وشنقله ومدن البحر الأسود.

- 30 نوفمبر اللورد كيرسون وزير خارجية بريطانيا يقول في برقية إلى حكومته، القسطنطينية هذه المدينة العالمية التي هي بين يدي الأتراك اليوم لا بد أن تسترد من الذين سمموا حياتنا أكثر من 500 سنة.

- 1918 مدير مدرسة مرزيفون (اماسيا الأناضولية) الأميركية يكتب إلى حكومته قائلا: «العدو الأكبر للمسيحية هو الإسلام، وأقوى المسلمين هو الإمبراطورية العثمانية، ينبغي دعم وحماية الأصدقاء داخل أراضي هذه الدولة إذا ما كنا حقا نريد تدميرها».

ربما الوثيقة الأهم وسط هذه الأجواء هي التي وضعها بين أيدينا نجم الدين أربكان قبل أن يفارق الحياة، وتعود في تاريخها إلى عام 1996، وأعدها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وارن كريستوفر، حول الائتلاف الحكومي الذي يجمع حزب «الرفاه» و«الطريق القويم» اليميني، ويرى فيها أن حزب أربكان يعمل على إبعاد تركيا عن الغرب، ويريد إعادتها إلى الشرق العربي والإسلامي، وأن تركيا تعمل على تحسين علاقاتها مع إيران والعراق وليبيا والسودان، مما يتعارض مع مصالحنا الإقليمية.

ما نشرته «ويكيليكس» حتى الآن حول تركيا يمكن إيجازه على النحو التالي:

- مزاعم حول امتلاك رجب طيب أردوغان لثمانية حسابات سرية في مصارف سويسرية، قال زعيم المعارضة كمال كليشدار أوغلو إنه على أردوغان إثبات عدم صحة ذلك بالحصول على براءات ذمة من تلك المصارف، فرد أردوغان: «أثبتوا وجود هذه الأموال ولتكن لكم».

- معلومات حول وجود أسلحة نووية أميركية داخل الأراضي التركية منذ اندلاع الحرب الباردة، وأنها ما زالت منتشرة هناك حتى اليوم.

- قيادة الرئيس الفرنسي ساركوزي لجبهة الرفض التي تعارض قبول تركيا في النادي الأوروبي، جنبا إلى جنب مع رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا بنديكتوس.

- دعم سري قدمته واشنطن لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، ردا على مزاعم حول بيع أسلحة تركية لإيران ودعم تركي لـ«القاعدة» وحماس.

– مطالبة واشنطن لأنقرة بتعزيز تدابيرها الأمنية على الحدود التركية - السورية لمنع وصول الأسلحة الإيرانية لسورية ومن خلالها إلى حزب الله في لبنان.

- تورط تركي في أعمال عنف داخل العراق وأفغانستان بما يتعارض مع سياسات الأطلسي في البلدين.

- فشل الدبلوماسية الأميركية في إقناع أنقرة بتغيير سياساتها الإيرانية، خصوصا في موضوع الملف النووي.

وعلى الرغم من أن داود أوغلو، الذي وصفته الوثائق بأهم المعارضين للسياسات الأميركية في المنطقة، وبالشخصية الإسلامية الخطرة التي لها طموحات توسعية تهدف لإعادة إحياء مشروع الدولة الطورانية الكبيرة، قال: «نظرت في المرآة ولم أجد الشخص الذي يتحدثون عنه»، فإن تصادف وجوده في واشنطن خلال بدء الكشف عن هذه الوثائق وحواره المباشر مع هيلاري كلينتون يطرح احتمال اتفاق الجانبين على التعامل مع الموضوع بتعقل ودراية، خصوصا أن إدارة البيت الأبيض أبدت أكثر من مرة أسفها لما ينشر ويسيء إلى العلاقات الأميركية - التركية ويستهدفها مباشرة.

لكن الكثير من الكتاب الأتراك يتوقف عند الدور الإسرائيلي المهمل في هذا النقاش، حيث يشير غالبيتهم إلى أن الدور الإسرائيلي في كل هذه «الخضات» يبقى النقطة التي تحتاج إلى متابعة دقيقة، خصوصا أن قيادات العدالة والتنمية اتهمت بشكل أو بآخر تل أبيب بالوقوف وراء هذه التسريبات، كونها المستفيد الأكبر مما نشر وقيل حتى الآن، وكون هذه المعلومات تخدم السياسة الإسرائيلية التي تركز على تحذير الغرب من التقارب التركي - الإيراني والتركي - السوري تحديدا، وكونها تضع أمام القوى الكبرى خارطة استراتيجية إقليمية جديدة لا مكان لها فيه طالما أن التقارب التركي - العربي والتركي - الإسلامي تتوسع رقعة انتشاره ونفوذه وتقدمه باتجاه إقامة تكتل إقليمي تعد له وتقوده دول المنطقة بنفسها.

ربما ما أغضب الأتراك أكثر من غيره هو ما نشر عن حوار بين رئيس المخابرات الإسرائيلية، مائير داغان، ومساعد وزير الخارجية الأميركية، بيل برنس، وتساؤل المسؤول الإسرائيلي إلى متى ستظل المؤسسة العسكرية التركية صامتة على مواقف وسياسات العدالة والتنمية الداخلية والخارجية، وتحديدا الإيرانية منها.

لا، بل إن ما يزعج حكومة أردوغان هو أن تحتل تركيا المرتبة الثانية في مضمون الوثائق التي نشرت حتى الآن، وأن يكون رجال الدبلوماسية الأميركية الذين عملوا في تركيا هم مصدر هذه المعلومات والوثائق، حيث نشطوا على مدار الساعة لرصد كل شاردة وواردة في البلاد يرفعون تقارير حولها على شكل «كريبتو» عاجل وسري، دون التأكد من صحتها ومصداقيتها.

الأيام المقبلة ستحمل لنا المزيد حول المراسلات والكتابات الدبلوماسية التي صدرت من تركيا بين فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2003 مثلا. فالوثائق لم تنقل لنا أجواء المراسلات الأميركية والموقف الواضح من حكومة العدالة والتنمية بسبب رفضها فتح أراضيها أمام القوات الأميركية لدخول العراق وقتها. وفي هذا المجال يشرح حسين شليك، الناطق الرسمي باسم العدالة والتنمية، كيف أنه، خلال لقائه بالسفير الأميركي لدى تركيا، إديلمان، حاول تحليل موقف العدالة والتنمية في رفض استصدار مذكرة برلمانية تسمح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي التركية لدخول العراق، لكنه لا يعرف كيف رفع إديلمان تقريره إلى بلاده بعدما خرجت أكثر من وثيقة إلى العلن، كان السفير الأميركي مصدرها وتسببت بأكثر من إساءة للعلاقات بين البلدين.

تركيا التي تتابع بإعلامها تفاصيل وثائق «ويكيليكس» تعرف أن التركيز كان على العلاقات التركية - الأميركية واستهداف سياسات ومواقف العدالة والتنمية وقياداتها ومحاولة توتير الأجواء التي هي متوترة أصلا بين أنقرة وواشنطن، وهي تعرف أيضا أن تل أبيب، المستفيد الأول مما نشر حتى الآن، تغامر بحرق ما تبقى من فرص لإعادة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى سابق عهدها، وهذا ما قاله لنا كبار قادة العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم جميل شيشاك وبشير اتالاي وحسين شليك، أقرب المقربين إلى رجب طيب أردوغان.

أنقرة، وكما فهمنا حتى الآن، باتت ترى أن واشنطن تتعامل معها بوجهين وأسلوبين: الوجه العلني البشوش، والوجه الخفي الغاضب، وأن الإدارة الأميركية تعطي الأولوية لقراءة تقارير من هذا النوع، وأنها تبني وتحدد سياساتها ومواقفها على هذا الأساس بدل الاستماع إلى ما تقوله حكومة العدالة.

القناعة في تركيا على ضوء وثائق «ويكيليكس» وما نشر حتى الآن هي ضرورة المضي في سياسات التغيير المعتمدة في السنوات الأخيرة، خصوصا في علاقاتها العربية والإسلامية وعدم التراجع أمام الضغوطات التي تمارس من قبل أكثر من عاصمة وقوة نفوذ أو لوبي مؤثر باتجاه إجبار أنقرة على العودة إلى بيت الطاعة.. الغربي. الكثير من الأتراك يرددون في هذه الآونة حكاية الصعلوك الذي اقترب من مجموعة من العميان المتسولين وصرخ فيهم: «خذوا كيس النقود هذا وتقاسموه بالعدل فيما بينكم»، ومضى يتفرج عليهم وهو يسخر بشماتة كيف يقتتلون فيما بينهم ويتبادلون الاتهامات حول إخفاء النقود ومحاولة الاحتفاظ بها، دون تقاسمها مع الآخرين.. مع أن الرجل لم يضع بيدهم شيئا.