بن الوليد.. المستثنى من الذاكرة

TT

لم تحظ شخصية عسكرية إسلامية وعربية بالاحترام والتقدير مثل خالد بن الوليد، ليس فقط لأنه كان قائدا عسكريا فذا وشخصية قوية وخلافية في آن واحد، بل لأنه القائد الوحيد الذي حسم المولى عز وجل أمره فلقبه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بلقب «سيف الله المسلول». فيذكر في كتب التاريخ أن خالدا سأل صديقا له وهو على فراش الموت عن سبب عدم نيله الشهادة في معاركه، حيث تمناها، فقال له الصديق إن هذا غير ممكن لأنه لقب بـ«سيف الله» الذي لا يسمح لعدو بكسره.

ومع ذلك فإن كتب العلوم الاستراتيجية الغربية تعمدت إغفال ذكر «سيف الله»، فيظل البطل عالقا في أذهاننا كعرب منسيا في كتب التاريخ الغربي باستثناء قلة قليلة تشير إليه في سطور أقل، وتظل ظاهرة النسيان الانتقائي Selective Amnesia عند التعرض لابن الوليد غير مبررة، فالرجل بلا شك يعد من أفضل القادة العسكريين عبر التاريخ لأسباب موضوعية نسوق منها ما يلي:

أولا: إن إنجازاته العسكرية كقائد للجيوش الإسلامية الوليدة كان لها أخطر الأبعاد السياسية والعسكرية على المستوى الدولي، فغير أبو سليمان بجيوشه نمط العلاقات الدولية السائد، ووضع الدولة الإسلامية كلاعب حاسم وبارز في العلاقات الدولية، وذلك من خلال إخضاع شبه الجزيرة العربية للسلطة الإسلامية في المدينة في حروب الردة، وعلى الرغم من أنه لم يكن وحده الذي يحارب على هذه الجبهة، فإنه كان بلا شك العنصر الحاسم في ضرب بؤر الردة من أمثال مانعي الزكاة ومسيلمة الكذاب وغيرهما، ولولاه لأخذ التاريخ الإسلامي منعطفا آخر. وتلا ذلك إنجاز جديد بتقويض أواصر إمبراطورية فارس في معارك متتالية منها «كاظمة» و«نهر الدم»، ثم دفع به أبو بكر لقيادة الجيوش الإسلامية في الشام، ففعل ما لم يستطع القادة الآخرون من أمثال شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص وغيرهما فعله، فهزم الدولة البيزنطية في عدد من المعارك أهمها «أجنادين» ثم «اليرموك»، ليأخذ حكم الشام من بيزنطة للأبد.

ثانيا: إن العبقرية العسكرية لابن الوليد لا خلاف عليها، فلو درست خططه العسكرية سنجد ابتكاراته ومهاراته جلية، فالرجل على سبيل المثال كان ثاني قائد عسكري يطبق نظرية التطويق أو الالتفاف المزدوج في معركة «الولجة» ولم يسبقه فيها إلا هانيبال في معركة «كيناي» ضمن الحروب البونيقية الثانية Punic Wars، كذلك فإن فكره العسكري تجلى في معركة «اليرموك» التي يجب أن تكون محل دراسة في كل الكليات العسكرية لكيفية إدارة معركة بالندرة البشرية وبث اليأس في نفس الخصم وكسر ثقته في الانتصار ليحول ضعفه إلى قوة على مدار أربعة أيام مع عدو يفوق عدده قرابة خمسة أضعاف.

ثالثا: إن عبقرية بن الوليد لا تقتصر على البعد الاستراتيجي، بل إن أبعاده التكتيكية لا تقل عبقرية، فالرجل كان دقيقا في أوامره للقيادات، عليما بشؤون تعبئة الرجال وتحريكهم، كذلك فقد كان للرجل روح المغامرة المحسوبة والقدرة على تنظيم الإمدادات والصفوف. ولعل دوره في غزوة «مؤتة» يعكس ذلك، فالرجل استطاع بخداع تكتيكي دفع الاحتياطي للأمام وتحريك عناصر من الميمنة للميسرة والعكس ليوهم عدوه بوصول تعزيزات فينجى بالجيش الإسلامي، وقد أتت القيادة إليه ولم يطلبها، ومما يذكر له أيضا أنه كان ضمن القادة العسكريين القلائل الذين لم يلقوا هزيمة عسكرية في حياتهم.

إن الثقل العسكري لهذه الشخصية لا يحتاج إلى تأكيد، ولكن هناك تجاهل يصل إلى مرحلة الإجحاف لهذه الشخصية العسكرية الفذة في الغرب، فلو تأملنا على سبيل المثال كتابا مثل «استراتيجية» للعلامة البريطاني بيلامي ليدل هارت الذي يعد من المراجع الأساسية للفكر العسكري الحديث، فلن نجد لخالد مكانته بين الإسكندر الأكبر وهانيبال وبيلساريوس البيزنطي وجانكيز خان وفريديريك الكبير ونابليون، حيث صنعت سيرتهم مقومات الفكر الاستراتيجي والعسكري العالمي، وهنا يثور السؤال: من المسؤول عن هذا التجاهل؟ وتقديري أن الإجابة تكمن فيما يلي:

أولا: إن الغرب والمستشرقين تعاملوا مع التاريخ الإسلامي بنوع من الحذر الممزوج بالتحيز لدى الكثير، فهناك توجه للتعامل مع مسلمات عربية بنوع من الحيطة تحت حجة الدقة والموضوعية في البحث العلمي، وإذا ما أضفنا إلى هذا العامل الندرة النسبية لمصادر التأريخ العسكرية الغربية التي تتعامل مع الفتوحات الإسلامية، فسنجد ما قد يكشف عن أسباب هذا التقصير.

ثانيا واتصالا بما سبق: فإن جزءا من المسؤولية يقع علينا كعرب، فلو نظرنا للمكتبة العربية بعيدا عن المراجع التاريخية، فسنجد عشرات الكتب التي تناولت سيرة خالد بن الوليد التي نقلت عن المراجع السابقة، ولكننا لن نجد الكتب ذات التحليل العسكري الموثق والمدروس بأحدث الوسائل العلمية، والمدعم بأبحاث ميدانية للمسيرة العسكرية لابن الوليد، ولعل الاستثناء من القاعدة هو كتاب بعنوان «خالد بن الوليد»، والأغرب أن كاتبه كان لواء باكستانيا متقاعدا اسمه أغا إبراهيم أكرم. وتقديري أنه أفضل بحث علمي موثق للمسيرة العسكرية للبطل العربي والإسلامي، وقد أعد الكاتب كتابه بدعم من المملكة العربية السعودية التي وفرت له الضيافة والتنقلات والإرشاد أثناء زيارته للمواقع التي دارت فيها المعارك بالمملكة، بل والطرق التي سلكها. ومع الأسف فالكتاب نادر منذ ترجمته من الإنجليزية إلى العربية وطبعه في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر عام 1974 رغم تداوله في العديد من الأقطار العربية! اعتقادي أنه آن الأوان لجهد علمي جديد لإعادة كتابة التراث العسكري العربي الإسلامي من خلال تكوين لجنة تضم مؤرخين عسكريين وعلماء التاريخ والآثار لمزيد من التدقيق والبحث والتوثيق والتمحيص بأحدث الوسائل لنؤصل ونوثق بالطرق العلمية الحديثة المعارك العربية الإسلامية، ثم نترجم نتائج هذه اللجنة إلى كتب وأبحاث بعدة لغات ونعممها على مراكز العلم والدراسات الاستراتيجية لنتواصل مع العالم بلغته وفكره بعيدا عن الأهواء التي غلبت على نسبة كبيرة من الكتب المنتشرة في هذا المجال، ولتكن البداية بمسيرة خالد بن الوليد لنضيء مكانة هذا الفارس المغوار الذي تميز بقيادة فذة وفكر عسكري نادر وشجاعة تبعث الرعب في قلوب الأعداء وهو يجهز عليهم صارخا بأنشودته الشهيرة «أنا المحارب الصنديد.. أنا خالد بن الوليد».

* كاتب وأكاديمي مصري